کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 230
علامتهم مبتدأ فِي وُجُوهِهِمْ خبره، و هو نور و بياض يعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ متعلق بما تعلق به الخبر أي كائنة، و أعرب حالا من ضميره المنتقل إلى الخبر ذلِكَ أي الوصف المذكور مَثَلُهُمْ صفتهم فِي التَّوْراةِ مبتدأ و خبره وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ مبتدأ خبره كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ بسكون الطاء و فتحها فراخه فَآزَرَهُ بالمد ماذا يريدون بذلك؟ فقيل: يبتغون الخ اه أبو السعود.
و قوله: فضلا أي ثوابا. قوله: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قيل: إن مواضع سجودهم يوم القيامة ترى كالقمر ليلة البدر، و قيل: هو صفرة الوجه من سهر الليل، و قيل: الخشوع حتى كأنهم. مرضى و ما هم مرضى اه شهاب.
و في الخطيب: قال البقاعي: و لا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة سجود من جبهته، فإن ذلك من سيما الخوارج. عن ابن عباس، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «إني لأبغض الرجل و أكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود» اه خطيب.
قوله: (من ضميره) أي: من ضمير ما تعلق به الخبر و هو كائنة، و قوله: إلى الخبر و هو الجار و المجرور اه شيخنا.
قوله: (أي الوصف المذكور) و هو كونهم أشداء رحماء سيماهم في وجوههم الخ اه كرخي.
مثلهم: أي وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى الأمثال اه أبو السعود.
قوله: (مبتدأ) أي: مثلهم مبتدأ، و خبره في التوراة يعني و الجملة خبر عن ذلك فهو مبتدأ أول، و أعرب السمين ذلك مبتدأ و مثلهم خبره في التوراة حالا من مثلهم و العامل معنى الإشارة اه.
قوله: وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ يجوز فيه و جهان، أحدهما: أنه مبتدأ و خبره كزرع فيوقف على قوله في التوراة فهما مثلان، و إليه ذهب ابن عباس. و الثاني: أنه معطوف على مثلهم الأول، فكون مثلا واحدا في الكتابين، و يوقف حينئذ على في الإنجيل، و إليه نحا مجاهد و الفراء. و يكون قوله: كزرع على هذا فيه أوجه، أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر أي مثلهم كزرع فسّر به المثل المذكور في الإنجيل. الثاني: أنه حال من الضمير في مثلهم أي: مماثلين زرعا هذه صفته. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف أي تمثيلا كزرع ذكره أبو البقاء. قال الزمخشري: و يجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أو ضحت بقوله: كزرع، و قضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء اه سمين.
قال قتادة: مثل أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر اه خطيب.
قوله: (بسكون الطاء و فتحها) سبعيتان. و في المختار: شطء الزرع و النبات فراخه، و قال الأخفش: طرفه. و أشطأ الزرع خرج شطؤه اه.
و في القاموس: الشطء فراخ النخل و الزرع أو ورقه، و شطأ كمنع شطأ و شطوءا أخرجها و من الشجر ما خرج حول أصله، و الجمع أشطاء، و أشطؤ أخرجها و الرجل بلغ ولده فصار مثله اه.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 231
و القصر، قوّاه و أعانه فَاسْتَغْلَظَ غلظ فَاسْتَوى قوي و استقام عَلى سُوقِهِ أصوله جمع ساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي زراعه لحسنه مثل الصحابة رضي اللّه عنهم بذلك، لأنهم بدؤوا في قلة و ضعف، فكثروا و قووا على أحسن الوجوه لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ متعلق بمحذوف دلّ قوله: (فراخه) بكسر الفاء جمع فرخ كفرع لفظا و معنى. يقال: فرخ الزرع إذا تهيأ للانشقاق اه شهاب.
و قال زاده: يقال أفرخ الزرع و فرخ إذا تشقق و خرج منه فرعه، فأول ما ينبت يكون بمنزلة الأم، و ما تفرع منه بمنزلة أولاده و أفراخه، و الفرخ في الأصل ولد الطائر اه.
قوله: (فآزره) أصله أأزره بوزن أكرمه فمضارعه يؤزر بوزن يكرم، لكن قلبت الهمزة الثانية في الماضي ألفا للقاعدة المشهورة، و أما أزره بالقصر فهو ثلاثي كضربه يضربه و معناه أعانه و قواه اه شيخنا.
و الضمير المستتر في آزر للزرع و البارز للشطء اه زاده.
و ما صنعه النسفي أنسب، فإن العادة أن الأصل يتقوى بفرعه فهي تعينه و تقويه اه شيخنا.
قوله: (بالمد و القصر) سبعيتان كآجره في أجره. قوله: (غلظ) أي: فهو من باب استحجر الطين، و يحتمل أن يراد المبالغة في الغلظة كما في استعصم و نحوه، و إيثار الأول لأن بناء الساق على التدريج اه كرخي.
قوله: عَلى سُوقِهِ متعلق باستوى، و يجوز أن يكون حالا أي كائنا على سوقه أي قائما عليها اه سمين.
قوله: (أصوله) أي قضبانه. قوله: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ حال أي: حال كونه معجبا و هنا تم المثل اه سمين.
قوله: (مثل الصحابة) أي في الإنجيل. قوله: (فكثروا) مأخوذ من قوله: أخرج شطأه، و قوله:
و قووا مأخوذ من قوله فآزره فاستغلظ و قوله: على أحسن الوجوه مأخوذ من قوله: فاستوى على سوقه يعجب الزراع اه شيخنا.
و في الكشاف: هذا مثل ضربه اللّه لبدء الإسلام و ترقيه في الزيادة إلى أن قوي و استحكم، لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قام وحده ثم قواه اللّه بمن معه كما يقوي الطبقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها، و هذا ما قاله البغوي من أن الزرع محمد، و الشطء أصحابه و المؤمنون، فجعل التمثيل له و لأمته، و المصنف جعله للصحابة فقط، و لكل وجهة، و عن بعض الصحابة أنه لما قرأ هذه الآية قال: تم الزرع و قد دنا حصاده اه شهاب.
قوله: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم و قوتهم كأنه قيل: إنما قواهم و كثرهم ليغيظ بهم الكفار، و إليه أشار الشيخ المصنف في التقرير حيث قال: أي شبهوا بذلك، و تبع فيه الكشاف أو متعلق بوعد، لأن الكفار إذا سمعوا بعز المؤمنين في الدنيا و ما أعد لهم في الآخرة
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 232
عليه ما قبله، أي شبهوا بذلك وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ أي الصحابة و من لبيان الجنس لا للتبعيض، لأنهم كلهم بالصفة المذكورة مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29) الجنة، و هما لمن بعدهم أيضا في آيات.
غاظهم ذلك، أو بما يدل عليه قوله أشداء على الكفار الخ. أي: جعلهم بهذه الصفات ليغيظ الخ اه كرخي.
قوله: (لا للتبعيض) أي: كما قاله بعضهم محتجا بالآية على الطعن في بعض الصحابة اه شهاب.
قوله: (لمن بعدهم) أي بعد الصحابة من التابعين و من بعدهم إلى يوم القيامة، و قوله: في آيات متعلق بالاستقرار في قوله: لمن بعدهم أي ثبتا في آيات لمن بعد الصحابة كقوله تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد: 21] إلى قوله: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ [الحديد: 21] اه شيخنا.
خاتمة:
قد جمعت هذه الآية، و هي محمد رسول اللّه إلى آخر السورة جميع حروف المعجم، و في ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم و علو نصرهم رضي اللّه عنهم، و احشرنا معهم نحن و والدينا و محبينا و جميع المسلمين بمنه و كرمه. و هذا آخر القسم الأول من القرآن و هو المطول، و قد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و حاصلهما الفتح بالسيف و النصر على من قاتله ظاهرا، كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له صلّى اللّه عليه و سلّم بالحال على من قصده بالضر باطنا اه خطيب.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 233
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الحجرات مدنية و هي ثمان عشر آية
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا من قدم بمعنى تقدم أي لا تتقدموا بقول و لا فعل بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: (مدنية) بالإجماع اه قرطبي.
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ذكر هذا اللفظ في هذه السورة خمس مرات و المخاطب فيها المؤمنون، و المخاطب به أمر أو نهي و ذكر فيها يا أيها الناس مرة، و الخطاب فيها يعم المؤمنين و الكافرين كما أن المخاطب به و هو قوله: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى [الحجرات: 13] يعمهما فناسب فيها ذكر الناس اه كرخي.
قوله: (من قدم بمعنى تقدم) عبارة السمين: العامة على ضم و فتح القاف و تشديد الدال مكسورة و فيها و جهان، أحدهما: أنه متعد و حذف مفعوله إما اقتصارا كقولهم: هو يعطي و يمنع و كلوا و اشربوا، و إما اختصارا للدلالة عليه أي: لا تقدموا ما لا يصح. و الثاني: أنه لازم نحو وجه و توجه، و يعضده قراءة ابن عباس و الضحاك لا تقدموا بالفتح في الأحرف الثلاثة، و الأصل لا تتقدموا فحذفت إحدى التاءين، و قرئ لا تقدموا بضم التاء و كسر الدال من أقدم أي لا تقدموا على شيء اه.
قوله: (بقول و لا فعل) مثال القول ما ذكره في سبب النزول، و مثال الفعل ما قيل في سبب النزول أيضا من أنهم ذبحوا يوم النحر قبل رسول اللّه. و في الخطيب: و اختلف في سبب نزول هذه الآية فقال الشعبي، عن جابر: إنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة، أي: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و ذلك أن ناسا ذبحوا قبله صلّى اللّه عليه و سلّم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح، و قال: من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء. و عن مسروق، عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك أي:
لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم، و قال الضحاك: يعني في القتال و شرائع الدين أي: لا تقطعوا أمرا دون اللّه و رسوله. قال الرازي: و الأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل و منع مطلق يدخل فيه كل افتيات و تقدم و استبداد بالأمر و إقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة اه.
قوله: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ جرت هذه العبارة هنا على سنن من المجاز، و هو الذي يسميه أهل البيان تمثيلا أي: استعارة تمثيلية. شبه تعجل الصحابة في إقدامهم على قطع الحكم في أمر من
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 234
وَ رَسُولِهِ المبلغ عنه أي بغير إذنهما وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقولكم عَلِيمٌ (1) بفعلكم، نزلت في مجادلة أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في تأمير الأقرع بن حابس أو القعقاع بن أمور الدين بغير إذن اللّه و رسوله بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريق، فإنه في العادة مستهجن، ثم استعمل في جانب المشبه ما كان مستعملا في جانب المشبه به من الألفاظ، و الغرض تصوير كمال الهجنة و تقبيح قطع الحكم بغير إذن اللّه و رسوله، و مثله قوله تعالى في حق الملائكة:
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء: 27] أصله لا يسبق قولهم قوله، فنسب السبق إليهم و جعل القول محله تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على اللّه ما لم يقله، أو المراد بين يدي رسول اللّه، و ذكر لفظ اللّه تعظيما للرسول و إشعارا بأنه من اللّه بمكان يوجب إجلاله، و على هذا فلا استعارة، و إليه يميل كلام الشيخ المصنف اه كرخي.
و في الشهاب: في هذا الكلام تجوزان، أحدهما في بين اليدين فإن حقيقته ما بين العضوين فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين اليمين و الشمال القريبتين منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما و يحاذيهما، فهو من المجاز المرسل، ثم استعير الجملة و هي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء و متابعة لمن تلزمه متابعته تصويرا لهجنته و شناعته بصورة المحسوس كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره، فنقلت العبارة الأولى بما فيها من المجاز إلى ما ذكر على ما عرف في أمثاله، هذا محصل ما في الكشاف و شروحه اه.
و في الخطيب: بين يدي اللّه و رسوله معناه بحضرتهما، لأن ما يحضره الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه، و حقيقته: جلست بين يدي فلان أي نجلس بين الجبهتين المسامتتين ليمينه و شماله قريبا منه، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعا، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره و داناه في غير موضع اه.
و في الخازن: و المعنى لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول اللّه أو قبل أن يفعل اه.
و في البيضاوي: و المعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكم اللّه و رسوله به اه.
و قطع الأمر الجزم به و الجرأة على ارتكابه من غير إذن من له الإذن اه شهاب.
قوله: وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي في التقدم الذي نهى عنه أو في مخالفة الحكم المنهي عنه اه كرخي.
قوله: (على النبي) الأولى أن يقول عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، ففي الحديث أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و طلبوا أن يؤمر عليهم واحدا منهم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة، و قال عمر:
بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، و قال عمر: ما أردت خلافك فتماريا أي تخاصما حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت اه قاري.
و قول عمر: ما أردت خلافك أي: ما أردت مخالفتك تعنتا، و إنما أردت أن تولية الأقرع في هذا المكان أصلح و لم يظهر لك ذلك، فأمرت بتولية غيره اه شبر املسي على المواهب.
و قول القاري: فنزلت أي هذه الآيات الخمس آخرها قوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 235
معبد. و نزل فيمن رفع صوته عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ إذا نطقتم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ إذا نطق وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إذا ناجيتموه كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ بل دون ذلك الآية كما أشار له البخاري، و صرح به القرطبي حيث قال بعد ما ذكر السبب المذكور: فنزل في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا إلى قوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ الآية. فكلها نزلت بسبب وفد تميم، فقول الشارح: و نزل فيمن رفع صوته كأبي بكر و عمر في القصة المذكورة، و قوله:
و نزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي الخ، أي: بسبب ما وقع من أبي بكر و عمر من رفع صوتهما في القصة المذكورة حيث ترتب عليه نزول النهي عن رفع الصوت، فصارا يخفضان صوتهما عند النبي، و قوله: و نزل في قوم الخ و هم وفد تميم الذين تكلم في شأنهم أبو بكر و عمر فليتأمل. فتلخص أنه لما اختلف أبو بكر و عمر في تأمير الأمير على الوفد المذكور، و لم يصبروا حتى يكون رسول اللّه هو الذي يشير بذلك نزل قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ الآية. و لما رفعا أصواتهما في تلك القضية نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية. و لما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية. و لما نادى الوفد المذكور النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من وراء الحجرات نزل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ [الحجرات: 4] الآيتين تأمل. قوله: (و نزل فيمن رفع صوته الخ) كأبي بكر و عمر في القصة المذكورة كالوفد المذكور فإنهم رفعوا أصواتهم أيضا اه.
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الخ في إعادة النداء فوائد، منها: أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان: 13] يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ [لقمان: 16] الخ يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان: 17] لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام، و يفهم ما له منه فإعادته تفيد تجدد ذلك، و منها: أن لا يتوهم أن المخاطب ثانيا غير المخاطب أولا، فإن من الجائز أن يقول القائل يا زيد افعل كذا و كذا يا عمرو، فإذا أعاد مرة أخرى و قال: يا زيد قل كذا و قل كذا يعلم أن المخاطب أولا هو المخاطب ثانيا، و منها: أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني تأكيدا للأول، كقولك: يا زيد لا تنطق و لا تتكلم إلا بالحق، فإنه لا يحسن أن تقول يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم كما يحسن عند اختلاف المطلوبين اه خطيب.
قوله: (إذا نطقتم) أي: تكلمتم، و قوله: إذا أنطق أي تكلم.
قوله: وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ الخ لما كانت هذه الجملة كالمكررة مع ما قبلها مع أن العطف يأباه أشار المصنف كالكشاف إلى أن المراد بالأول إذا نطق و نطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم حدا يبلغه صوته، بل يكون كلامكم دون كلامه ليتميز منطقه، و المراد بهذا أنكم إذا كلمتموه و هو صامت فلا ترفعوا أصواتكم كما ترفعونها فيما بينكم فحصل التغاير. و البيضاوي: لما رأى أن تخصيص الأول بمكالمته معهم، و الثاني بسكوته خلاف الظاهر، لأن الأول نهى عن أن يكون جهرهم أقوى من جهره كما هو صريح قوله فوق صوت النبي، و هذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره عدل عنه، فحمل الأول على النهي عن زيادة صوتهم على صورته و الثاني: على مساواة صوتهم لصوته فحصل التغاير أيضا بهذا الاعتبار اه من الشهاب.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 236
إجلالا له أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) أي خشية ذلك بالرفع و الجهر المذكورين، و نزل قوله: (إذا ناجيتموه) أي: كلمتموه. قوله: (بل دون ذلك) راجع لكل من النهيين أي: بل اجعلوا أصواتكم دون ذلك، أي: دون صوته و دون جهر بعضكم لبعض، و قوله: (إجلالا له) تعليل ما تضمنه قوله بل دون ذلك اه شيخنا.
قوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ في المختار: حبط عمله بطل ثوابه و بابه فهم و حبوطا أيضا اه.
قوله: وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي: بحبوطها اه بيضاوي.
قوله: (أي خشية ذلك الخ) أشار به إلى أن تحبط على حذف مضاف أي: خشية الحبوط، و الخشية منهم و قد تنازعه لا ترفعوا و تجهروا، فيكون مفعولا لأجله للثاني عند البصريين، و للأول عند الكوفيين، و الأول أصح لأن إعمال الأول يستلزم الإضمار في الثاني اه كرخي.
و عبارة أبي السعود: و قوله أن تحبط أعمالكم إما علة للنهي أي لا تجهروا خشية أن تحبط، أو كراهة أن تحبط كما في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أو للمنهي أن لا تجهروا لأجل الحبوط، فإن الجهر حيث كان بصدد الأداء إلى الحبوط، فكأنه فعل لأجله على طريقة التمثيل كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص: 8] اه.
قوله: (بالرفع و الجهر) الباء سببية متعلقة باسم الإشارة لأنه واقع على الحبوط، فكأنه قال: أي خشية الحبوط بسبب الجهر و الرفع، لأن في الرفع و الجهر استخفافا به قد يؤدي إلى الكفر المحبط، و ذلك إذا انضم إليه قصد الإهانة و عدم المبالاة اه قاري.
روى أنه لما نزل هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ و أنا رفيع الصوت على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أخاف أن يحبط عملي، و أن أكون من أهل النار. فمضى عاصم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و غلب ثابتا البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد اللّه بن أبي ابن سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي عليّ الضبة بمسمار فضربته بمسمار فأتى عاصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره خبره قال: اذهب فادعه لي فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يدعوك، فقال: اكسر الضبة فأتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال: أنا صيّت و أتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أما ترضى أن تعيش حميدا و تقتل شهيدا و تدخل الجنة». فقال: رضيت ببشرى اللّه و رسوله لا أرفع صوتي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أبدا، فأنزل اللّه:
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية. قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار و انهزمت طائفة منهم.