کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 469
لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ المذكورة نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) فيؤمنون
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ السر و العلانية هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الطاهر عما لا يليق به السَّلامُ ذو السلامة من النقائص الْمُؤْمِنُ المصدق رسله بخلق المعجزة لهم الْمُهَيْمِنُ من هيمن المعترفون بإعجازه لا ترغبون في وعده و لا ترهبون من وعيده. و الغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة القلب لهؤلاء الكفار و غلظ طباعهم، و نظيره: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] و قيل: الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت و تصدع من نزوله عليه، و قد أنزلناه عليك و ثبتناك له فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال، و قيل: إنه خطاب للأمة و اللّه تعالى لو انذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية اللّه تعالى، و الإنسان أقل قوة و أكثر ثباتا فهو يقوم بحقه إن أطاع و يقدر على رده إن عصى، لأنه موعود بالثواب و مزجور بالعقاب اه.
و في القرطبي: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا حث على تأمل مواعظ القرآن، و بين أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه و لرأيتها على صلابتها و رزانتها خاشعة متصدعة أي: متشققة من خشية اللّه، و الخاشع الذليل و المتصدع المتشقق، و قيل: خاشعا للّه بما كلفه من طاعته متصدعا من خشية اللّه أن يعصيه فيعاقبه، و قيل: هو على وجه المثل للكفار اه.
قوله: (المذكورة) أي: في هذه السورة أو سائر القرآن، و منها قوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ الخ.
قوله: هُوَ اللَّهُ الَّذِي الخ لما وصف القرآن بالعظم، و معلوم أن عظم الصفحة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى فقال: هو أي الذي وجوده من ذاته عدم فلا عدم له بوجه من الوجوه فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائما أزلا و أبدا، فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدع الجبل من خشيته، و لما عبّر عنه بأخص اسمائه أخبر اسمائه أخبر عنه لطفا بنا و تنزلا لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها بقوله: اللّه أي المعبود الذي لا تنبغي العباد و الألوهية إلا له فإنه لا مجانس له و لا يليق و لا يصح و لا يتصور أن يكافئه أو يدانيه شيء اه خطيب.
قوله: (السر و العلانية) أو المعدوم و الموجود، فالمراد بالغيب حينئذ ما غاب عن الوجود اه كرخي.
قوله: (ذو السلامة الخ) أشار به إلى أنه صفة ذات، و قال الخطابي: معناه الذي سلم الخلق من ظلمه فيكون صفة فعل اه كرخي.
و في القرطبي: قال ابن العربي: اتفق العلماء رحمة اللّه عليهم على أن معنى قولنا في اللّه السّلام
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 470
يهيمن إذا كان رقيبا على الشيء، أي الشهيد على عباده بأعمالهم الْعَزِيزُ القوي الْجَبَّارُ النسبة تقديره ذو السلامة، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال، الأول: معناه الذي سلم من كل عيب و برئ من كل نقص، الثاني: معناه السّلام أي: المسلم على عباده في الجنة كما قال:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ. [يّس: 458] الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه. قلت: و هذا قول الخطابي و عليه و الذي قبله يكون صفة فعل، و على أنه البريء من العيوب و النقائص يكون صفة ذات، و قيل: السّلام معناه السّلام لعباده اه
فإن قلت: على تفسير السّلام بالسلامة من النقائص لا يبقى بين القدوس و السّلام فرق، فيكون كالتكرار و ذلك لا يليق بفصاحة القرآن. قلت: الفرق بينهما أن كونه قدوسا إشارة إلى براءته من جميع العيوب و النقائص في الماضي و الحاضر، و السّلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب و النقائص في المستقبل، فإن الذي يطرأ عليه من ذلك تزول سلامته و لا يبقى سليما اه خازن.
قوله: (المصدق رسله الخ) و قيل: المؤمن المصدق للمؤمنين ما وعدهم به من الثواب، و المصدق للكافرين ما أوعدهم به من العقاب، و قيل: المؤمن الذي يأمن أولياؤه من عذابه و يأمن عباده من ظلمه، يقال: آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف، كما قال تعالى: وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:
4] فهو مؤمن، و قال مجاهد: المؤمن الذي وجد نفسه بقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:
18] اه قرطبي.
قوله: (إذا كان رقيبا على الشيء) و قيل: هو القائم على خلقه برزقه، و قيل: هو المصدق، و قيل: هو القاضي، و قيل: هو بمعنى الأمين و المؤتمن، و قيل: العلي، و قيل: المهيمن اسم من اسماء اللّه تعالى هو أعلم بتأويله اه خازن.
قوله: الْجَبَّارُ قال ابن عباس: جبروت اللّه عظمته، فعلى هذا هو صفة ذات، و قيل؛ هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير و يجبر الكسير، فعلى هذا هو سبحانه و تعالى كذلك يجبر كل كسير و يغني كل فقير، و قيل: هو الذي يجبر الخلق و يقهرهم على ما أراد. و سئل بعضهم عن معنى الجبار، فقال:
هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله لا يحجزه عنه حاجز، و قيل: الجبار فو الذي لا ينال و لا يداني، و الجبار في صفة اللّه تعالى صفة مدح و في صفة الناس صفة ذم، و كذلك المتكبر في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر، و ذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر و لا علو بل له الحقارة و الذلة، فإذا أظهر الكبر كان كاذبا في فعله فكان مذموما في حق الناس، و أما المتكبر في صفة اللّه تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو و العظمة، لهذا قال في آخر الآية سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ كأنه قيل: إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصا في حقه، أما اللّه تعالى فله العلو و العظمة و العز و الكبرياء فإن أظهر ذلك كان ذلك ضم كمال إلى كمال قال ابن عباس: المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله، و قيل: هو الذي يتكبر عن كل سوء، و قيل: هو المتعظم عما لا يليق بجماله و جلاله، و قيل: هو المتكبر عن ظلم عباده، و قيل: الكبر و الكبرياء الامتناع اه خازن.
قوله أيضا: الْجَبَّارُ استدل به من يقول إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثة، فإنه من
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 471
جبر خلقه على ما أراد الْمُتَكَبِّرُ عما لا يليق به سُبْحانَ اللَّهِ نزه نفسه عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) به
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ المنشىء من العدم الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التسعة و التسعون الوارد بها الحديث، و الحسنى مؤنث الأحسن يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) تقدم أوّلها.
أجبره على كذا أي: قهره. قال الفراء: و لم أسمع فعالا من أفعل إلا جبار و دراك من أدرك اه سمين.
و تقدم أنه يستعمل ثلاثيا أيضا اه.
قوله: (جبر خلقه) أشار به إلى أنه بمعنى القاهر، و قال ابن عباس: هو العظيم من الجبروت و جبروت اللّه عظمته و عليه فهو صفة ذات اه كرخي.
قوله: (عما يليق به) أي: من صفات الحدوث و الذم و الكبر في صفات اللّه مدح، و في صفات المخلوقين ذم و في الحديث الصحيح: «الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما قصته ثم حذفته في النار» و قال حجة الإسلام الغزالي: المتكبر هو الذي يرى الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته و لا يرى العظمة و الكبرياء إلا لنفسه فينظر إلى غيره نظر الملوك الى العبيد، فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا و كان صاحبها متكبرا حقا و لا يتصور ذلك على الإطلاق إلا اللّه تعالى اه كرخي.
قوله: الْخالِقُ أي: المقدر لما يوجد فيرجع إلى صفة الإرادة و تعلقها التنجيزي القديم، و قوله: المنشىء أي: المبدع للإعيان و المبرز لها من العدم إلى الوجود فيرجع لتأثير القدرة الحادث، لكن في خصوص الأعيان و قوله: المصور معناه مصور الأمور و مركبها على هيئات مختلفة، فالتصوير آخرا و التقدير أولا و البرء بينهما اه كرخي.
و في المختار: و برأ اللّه الخلق من الباب قطع أي: خلقها، و في المصباح: و أصل الخلق التقدير يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته له اه.
قوله: (مؤنث الأحسن) أي: الذي هو أفعل تفضيل أي: مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء، في القاموس: و لا تقل رجل أحسن في مقابلة امرأة حسناء و عكسه غلام أمر، و لا يقال جارية مرداء، و إنما يقال هو الأحسن على إرادة أفعل التفضيل و جمعه أحاسن و الحسنى بالضم ضد السوأى اه.
و في البحر في سورة الأعراف عند قوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف:
180] ما نصه: قال الزمخشري: و للّه الأسماء الحسنى التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معان حسنة من تحميد و تقديس و غير ذلك اه.
فالحسنى هنا تأنيث الأحسن و وصف الجمع الذي لا يعقل بما توصف به الواحدة كقوله: وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] و هو فصيح و لو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الأخر كقوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] و هو فصيح و لو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الأخر كقوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184 و 185] لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه و يوصف بجمع المؤنثات و إن كان المفرد مذكرا اه.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 472
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الممتحنة مدنية و هي ثلاث عشرة آية
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أي كفار مكة أَوْلِياءَ تُلْقُونَ توصلون إِلَيْهِمْ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم بكسر الحاء أي: المختبرة أضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة براءة المبعثرة و الفاضحة لما كشفت عن عيون المنافقين، و على هذا فالإضافة بيانية أي: السورة الممتحنة و من قال في هذه السورة الممتحنة بفتح الحاء فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت في شأنها و هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قال اللّه تعالى: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ [الممتحنة: 10] الآية، و هي امرأة عبد الرحمن ابن عوف والدة إبراهيم بن عبد الرحمن اه قرطبي.
و في زاده: الممتحنة بكسر الحاء المختبرة أضيفت السورة إلى الجماعة الممتحنة من حيث إنه ذكر فيها أمر جماعة المؤمنين بالامتحان، و على هذا فليست الإضافة بيانية، و إن فتحت الحاء يكون المعنى سورة المرأة المهاجر التي نزلت فيها آية الامتحان اه.
قوله: (مدنية) بالإجماع اه قرطبي.
قوله: عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ هذان مفعولان لتتخذوا، و العدو لما كان بزنة المصادر وقع على الواحد فما فوقه، و أضاف العدو إلى نفسه تعالى تغليظا في جرمهم اه سمين.
قوله: (أي كفار مكة) تفسير للعدو. قوله: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ مفعول محذوف فسّره بقوله: قصد النبي غزوهم، و الباء في قوله: بالمودة سببية اه.
و قيل: زائدة في المفعول و لا حذف اه سمين.
و معنى المودة نصيحتهم بإرسال الكتاب إليهم اه قرطبي.
و في جملة تلقون أربعة أوجه، أحدها: أنها تفسير لموالاتهم إياهم. الثاني: أنها استئناف و إخبار بذلك فلا يكون لها على هذين الوجهين محل من الإعراب. الثالث: أنها حال من فاعل تتخذوا أي: لا تتخذوهم أوليء حال كونكم ملقين المودة. الرابع: أنها صفة لأولياء اه سمين.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 473
قصد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم غزوهم الذي أسره إليكم و ورّى بحنين بِالْمَوَدَّةِ بينكم و بينهم، كتب حاطب بن قوله: (و ورّى بحنين) أي: بغزوة حنين أي: أظهر لعامة الناس أنه يريد غزوة حنين على عادته من أنه كان إذا خرج لغزوة يوري بغيرها، كأن يسأل عن طريق الغير و عن كونه عنده ماء أو لا سترا عن المنافقين، لئلا يرسلوا إلى المطلوب غزوهم فيتنبهوا و يتيقظوا فيفوت تدبير الحرب اه شيخنا.
و في المختار: و ورى الخبر تورية سترة و أظهر غيره، كأنه مأخوذ من وراء الإنسان كأنه يجعله وراءه حيث لا يظهر اه.
و يقع في بعض النسخ، و ورى بخيبر و هو تصحيف من النساخ فإن غزوة خيبر كانت في المحرم من السنة السابعة، و فتح مكة كان في رمضان من السنة الثامنة، و حنين كانت بعد الفتح في شوال من سنة الفتح، فورى بها على عادته في غزواته فتجهز من غير إعلام أحد بذلك اه كرخي.
قوله: (كتاب حاطب بن أبي بلتعة الخ) و كان حاطب ممن هاجر مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هذا بيان لسبب نزول قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآيتين إلى قوله: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ و في القرطبي: روى الأئمة و اللفظ لمسلم عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنا و الزبير و المقداد فقال: ائتوا روضة خاخ بالصرف و تركه موضع بينه و بين المدينة اثنا عشر ميلا فإن ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا نهادى خيلنا أي: نسرعها، فإذا نحن بامرأة فقلنا اخرجي الكتاب، فقالت. ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتقلن الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: يا حاطب ما هذا؟ فقال: لا تعجل علي يا رسول اللّه إني كنت أمرأ ملصقا في قريش، قال سفيان: كان حليفا لهم و لم يكن من أنفسها و كان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي و لم أفعله كفرا و لا ارتدادا عن ديني و لا رضا بالكفر بعد الإسلام، و قد علمت أن اللّه ينزل بها بأسه و أن كتابي لا يغني عنهم شيئا و أن اللّه ناصرك عليهم، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم صدق فقال عمر رضي اللّه عنه: دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إنه شهد بدرا و ما يدريك لعل اللّه أطلع على أهل بدر فقال: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل اللّه عز و جل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ قيل: اسم المرأة سارة من موالي قريش، و كان في الكتاب: أما بعد، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، و أقسم باللّه لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره اللّه بكم و لأنجز له موعده فيكم، فإن اللّه وليه و ناصره ذكره بعض المفسرين، و ذكر القشيري، و الثعلبي: أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن، و كان في مكة حليف بني أسد بن عبد العزى رهط الزبير بن العوام، و قيل: كان حليفا للزبير بن العوام، فقدمت من مكة سارة مولاة أبي عمر ابن صيفي بن هشام بن عبد مناف إلى المدينة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يتجهز لفتح مكة و قيل: كان هذا في زمن الحديبية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أمهاجرة جئت يا سارة؟ فقالت: لا: فقال: أمسلمة جئت؟ قالت: لا.
قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل و الموالي و الأصل و العشيرة، و قد ذهب بعض الموالي يعني قتلوا يوم بدر، و قد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني و تكسوني فقال عليه السّلام: فأين
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 474
أبي بلتعة إليهم كتابا بذلك لما له عندهم من الأولاد و الأهل المشركين فاستردّه لنبي صلّى اللّه عليه و سلّم ممن أرسله معه بإعلام اللّه تعالى له بذلك، و قبل عذر حاطب فيه وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ أي دين الإسلام و القرآن يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ من مكة بتضييقهم عليكم أَنْ تُؤْمِنُوا أي لأجل أن آمنتم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً للجهاد فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي و جواب الشرط دلّ عليه ما قبله، أنت من شباب أهل مكة و كانت مغنية قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بني عبد المطلب على إعطائها فكسوها و حملوها و أعطوها، فخرجت إلى مكة و أتاها حاطب فقال: أعطيك عشرة دنانير و بردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة، و كتب في الكتاب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة سائرة إلى مكة، و نزل جبريل فأخبر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فبعث عليا و الزبير و أبا مرثد الغنوي، و في رواية عليا و الزبير و المقداد، و في رواية أرسل عليا و عمارا و عمر و الزبير و طلحة و المقداد و أبا مرثد، و كانوا كلهم فرسانا، و قال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة و معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها و خلوا سبيلها، فإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها.
فأدركوا في ذلك المكان، فقالوا: أين الكتاب؟ فحلفت ما معها كتاب ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع، فقال علي: و اللّه ما كذب رسول اللّه و سل سيفه و قال: أخرجي الكتاب و إلا و اللّه لأجردنك و لأضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها، و في رواية من حجزتها، فخلوا سبيلها و رجعوا بالكتاب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأرسل إلى حاطب فقال: هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم و ذكر الحديث بنحو ما تقدم، و روي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمن جميع الناس يوم فتح مكة إلا أربعة هي إحداهم اه قرطبي.
و روي أن سارة عاشت إلى خلافة عمر و أسلمت و حسن إسلامها اه خازن.
قوله: (فاسترده النبي) أي: طلب ودّه بأن أرسل عليا و من معه لرده، و قوله: ممن من واقعة على امرأة و الضمير المستتر في أرسل يعود على حاطب، و البارز على الكتاب و الضمير في معه يعود على من الواقعة على المرأة، و المعنى فاسترده النبي من المرأة التي أرسله معها حاطب فصلة من جرت على غير من هي له، فكان عليه أن يبرز الضمير فيقول ممن أرسله هو معها، و قوله: بإعلام اللّه له متعلق باسترده أي: استرده بسبب إعلام اللّه بذلك أي: الكتاب، و قوله: و قبل عذر حاطب فيه أي في الكتاب قوله: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ يجوز أن يكون مستأنفا و أن يكون تفسيرا لكفرهم فلا محل لها على هذين، و أن يكون حالا من فاعل كفروا، و قوله: و إياكم عطف على الرسول و قدم عليهم تشريفا له، و قد استدل به من يجوز انفصال الضمير من القدرة على اتصاله إذ كان يجوز أن يقال يخرجونكم و الرسول فيجوز يخرجونكم و الرسول في غير القرآن و هو ضعيف اه سمين.
قوله: (لأجل أن آمنتم الخ) أشار به إلى أن تؤمنوا في محل نصب مفعول له أي: يخرجوكم لإيمانكم باللّه الخ اه كرخي.
قوله: (إن كنتم خرجتم) أي: من مكة. قوله: (للجهاد) أشار به إلى النصب على المفعول له، و يجوز أن يكون النصب على الحال أي: حال كونكم مجاهدين، و كذا ابتغاء أي: مبتغين اه كرخي.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 475
أي فلا تتخذوهم أولياء تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي إسرار خبر النبي إليهم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) أخطأ طريق الهدى و السواء في الأصل الوسط
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الضرب وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ بالسب و الشتم وَ وَدُّوا تمنوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ قراباتكم وَ لا أَوْلادُكُمْ قوله: (و جواب الشرط دل عليه الخ) عبارة السمين: قوله: إن كنتم خرجتم جوابه محذوف عند الجمهور لتقدم لا تتخذوا أو هو لا تتخذوا عند الكوفيين و من تابعهم و قد تقدم تحريره، و قال الزمخشري: إن كنتم خرجتم متعلق بلا تتخذوا يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي، و قول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه يريدون أنه متعلق به من حيث المعنى، و أما من حيث الإعراب فكما قاله جمهور النحويين.
قوله: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بدل من تلقون إليهم بدل بعض، لأن إلقاء المودة أعم من السر و الجهر أو هو استئناف و مفعول تسرون على قياس ما تقدم، كما أشار له بقوله: أي: اسرار خبر النبي، و الباء في قوله المودة سببية أو زائدة في المفعول كما تقدم، و قوله: و أنا أعلم جملة حالية من فاعل تلقون و تسرون، و اعلم أفعل تفضيل أي: من كل أحد، و يصح أن يكون فعلا مضارعا و عدي بالباء لأنك علمت بكذا و قوله: بما أخفيتم أي: في صدوركم، و ما أعلنتم أي: بألسنتكم اه شيخنا.
قوله: (طريق الهدى) إشارة إلى أن ضل متعد و سواء السبيل مفعوله، و يجوز أن يجعل قاصرا و ينصب سواء السبيل على الظرفية اه كرخي.
قوله: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ في المصباح: ثقف الشيء ثقفا من باب تعب أخذته، و ثقفت الرجل في الحرب أدركته و ثقفته ظفرت به، و ثقفت الحديث فهمته بسرعة و الفاعل ثقيف اه.
قوله: يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي: يظهروا العداوة لكم. قوله: وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ معطوف على جملة الشرط و الجزاء، و يكون تعالى قد أخبر بخبرين بما تضمنته الجملة الشرطية و بودادتهم كفر المؤمنين، و جعل الشيخ هذا راجحا على غيره من الاحتمالات ه سمين.
قوله: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ الخ لما اعتذر حاطب بأن له أولادا و أرحاما فيما بينهم بيّن اللّه عز و جل أن الأهل و الأولاد لا ينفعون شيئا يوم القيامة اه قرطبي.
و في الخطيب: لما كانت عداوتهم معروفة و إنما غطاها محبة القرابات، لأن الحب للشيء يعمي و يصم خطأ تعالى رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم، فقال مستأنفا إعلاما بأنها خطأ على كل حال لن تنفعكم أرحامكم و لا أولادكم أي: لا يحملنكم ذوو أرحامكم و قراباتكم و أولادكم الذين بمكة على خيانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين و ترك مناصحتهم و نقل أخبارهم و موالاة أعدائهم، فإنه لا تنفعكم أرحامكم و لا أولادكم الذين عصيتم اللّه لأجلهم اه.