کتابخانه تفاسیر
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 104
الأعمال كلها يوم الدين، و أنها هي بنفسها الجزاء، و أنّ الدين الحق هو الميزان لثقل الميزان و خفته «وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ» فالقيامة هي يوم الدين الشّرعة و الكتاب ميزانا، و الدين الطاعة و المعصية ظهورا، و الدين بحقيقته جزاء وفاقا.
و هكذا يكون آيات السبع المثاني بكلماتها، نماذج رئيسية محكمة عن تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .
العبادة هي الانتصاب للمعبود في منصب المعبودية، استجاشة لكل الطاقات و الإمكانيات في جانحة او جارحة لخدمته، بكل ذل و انكسار، بعيدا عن كل عزّة و استكبار، و هي درجات كما الاستكبار دركات، و لأن العبد «المملوك» قد يملك بعضه و يملك في بعض، لمالك او مالكين، و هو مطلق العبد، و آخر يملك كله لشركاء متشاكسين و هو العبد المطلق و لكن ليس في إطلاق العبودية و إخلاصه لمالك واحد، و قد يملكه مالك واحد و لكنه يستسلم له مع أهواء آخرين، و ذلك الثالوث خارج عن مغزى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» فإنها عبادة خالصة للّه رب العالمين، بملكية حقيقة لا تشذ عن ذاته و لا عن عبادته شيئا لغير اللّه و في غير اللّه.
و هي جوهريا تنافي الاستكبار: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» (40: 60) كما الإخلاص فيها ينافي الإشراك لها: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (18: 110) كما و بأحرى ينافي الإشراك فيها «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» (17: 23) .
إن المعبود الحق و هو اللّه يملك عبادا سواك ف «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 105
السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا» (19: 94) و لكنك لا تجد معبودا بحق سواه، و هو يربّيك كأن ليس له عبد سواك، ثم أنت تعبده- ان كنت عابده- كأن لك أربابا سواه! إنه لا بد لك من معبود حقا أو باطلا، و قولة القائل: إن العبودية ذلّ أيا كان المعبود، و الإنسان عزيز أيا كان، فليرفض العبودية لايّ كان، إنه هرطقة هراء، و اللّه منها براء.
أجل إن العبودية الذل أمام الذليل و الأذل كما يفعلها الذين يعبدون من دون اللّه، إنها ذلّ و ظلم و مس من كرامة الإنسان، و لكنها أمام اللّه عز و عدل و فضل يرجع إلى الإنسان، و لا يتحلّل أي ذي حجى أم ذي شعور عن عبادة مّا حقا أو باطلا.
و بصيغة مختصرة محتصرة إن في الكون إلهين اثنين معبودين: حق و باطل، فالباطل هو عبادة النفس و الهوى، و الحق هو عبادة اللّه على هدى، و ليست عبادة من سوى اللّه إلّا ناتجة عن عبادة الهوى: «وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (38: 26) .
و مثلا على العابدين الإنسان أيا كان، و حتى الذي يدعي الألوهية من دون اللّه، فإن له إلها و آلهة من أصنام و أوثان، مهما كان هو طاغوتا لمستضعفي الإنسان، و لأقل تقدير هو يعبد نفسه و هواه «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» (45: 26) .
إنه ليست للّه تعالى حظوة في عباداتنا، فنحن الذين نحظوا بعبادته، حظوة معنوية لأنها اتصال معرفي باللّانهاية في الكمال، و أخرى حيويّة أخرى، أنه يدلنا بها إلى التقوى و يردعنا عن الطغوى: «ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 106
و الناس بين من يعبد اللّه وحده على درجاتهم، أم يعبده مشركا في عبادته، أم مشركا به معبودا سواه، ام لا يعبد إلا سواه، بديل ألّا يعبد إلّا إياه «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» فضلا عن تخصيص العبادة لغير اللّه.! إن العبودية العادلة الحكيمة هي مفرق الطريق بين التحرر المطلق عن كل عبودية، و بين العبودية لغير اللّه من طواغيت، و أوثان و أصنام و نظم و أوهام و عادات و أحلام، فالناس بين عابدين لغير اللّه، و مدعين التحلل عن كل عبادة و عبودية حتى اللّه، مفرطين فيها أو مفرّطين عنها، رغم استحالة التحلّل عن أية عبادة و عبودية، فإنهم يعبدون شهواتهم و مشتهيات غيرهم من طواغيت ثم يدعون التحلل عن كل عبودية و لهم منها أبطلها و أحمقها!.
فإذا يعبد الإنسان ربه الخالق له المدبر أمره فهذه مفخرة له إذ ترفع من كيانه، و حين يعبد أضرابه أو من دونه فقد حطّ من كيانه كإنسان، و ردّ إلى أسفل سافلين.
ثم و «نعبد» قد تكون من العبودة كما هي من العبادة، فمن العبودة الرضى بلا خصومة، و الصبر بلا شكاية، و اليقين بلا شبهة، و الشهود بلا غيبة، و الإقبال بلا رجعة، و الإيصال بلا قطيعة.
و من العبادة الصلاة بلا غفلة، و الصوم بلا غيبة، و الصدقة بلا منة، و الحج بلا إراءة، و الغزو بلا سمعة، و الذكر بلا ملالة، و سائر العبادات بلا أية رئاء و سمعة و آفة.
ف «نعبد» تشمل بإطلاق التعبير كلا العبادة و العبودة كما كلّ منهما
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 107
درجات و في التخلف عنهما دركات.
و هنا في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» انتقالة من غياب الحمد إلى حضور العبادة و الاستعانة، حيث المعرفة البدائية و هي شرط العبادة، هي غائبة بطبيعة الحال، و من ثم إلى حضور المعبود المعروف بما عرّف نفسه و تعرّفنا إليه في خطوات سابقة سابغة: «بِسْمِ اللَّهِ - إلى- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» أنت قبل صلاتك منشغل عن اللّه بمشاغل الحياة و شواغلها، فلما تكبّر و تعني به أنه أكبر من أن يوصف، تأخذ في التغافل عما سوى اللّه و الانشغال باللّه، و لكي تتهيّأ لحضوره في معراج الصلاة تقدّم ما تقدّم على «إِيَّاكَ نَعْبُدُ ..» و حين تكمّل أصول المعرفة و الدين بالبسملة- إلى- مالك يوم الدين، هنا يسمح لك أن تخاطب صاحب المعراج ب «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
فمن قبل كنت في غياب هو مطلق الحضور، و أنت الآن في الحضور المطلق.
ف «اعبد ربك كأنك تراه و إن لم تكن تراه فإنه يراك».
في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» خرق لكافة الحجب ظلمانية و نورانية، و هو مجال فاسح لمقام التدلّي في «أو أدنى» بعد ما «دنى» فالدنو المعرفي العبودي كقاب قوسين، يعني أن ليس بينه و بين اللّه أحد، ثم التدلي هو أن ينمحي العابد عن نفسه كما محّى ما سواه فلا يبقى إلّا حجاب الذات المقدسة و هو لزام الألوهية: بيني و بينك إني ينازعني- فارفع بلطفك إني من البين.
اللّه تبارك و تعالى حاضر لدى كل كائن، و ناظر إليه رقيب عليه، و هو أقرب منه إليه «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» قربا علميا و قيوميا، لا
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 108
ذاتيا او زمانيا و مكانيا فانها بعد في ساحة الألوهية، و مس من كرامة الربوبية:
فلتكن في حاضر خاطرك، في علمك و عملك، في سرّك و علانيتك، في جوارحك و جوانحك، حاضرا لديه، أقرب منك إلى نفسك فضلا عما سواك، انمحاء لنفسك لكمال الحضور، فانعدم هنا عن كافة شخصياتك و تعلقاتك أمام ربك حتى تنوجد متعلقا بل و تعلقا بربك متدليا به.
أم تحضر بحضرته كما أنت حاضر لنفسك، ام- لأقل تقدير- كما أنت حاضر عند عزيز من أعزتك و أنت تراه، أم و ادنى منه أنه يراك، آه يا ويلنا و نحن بعيدون في معراجنا عن هذه الأربع، بل نجد كل ضالة سوى اللّه في صلاتنا! أ فنحن أضعف من نساء في المدينة بالنسبة لحضرة يوسف «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» و يوسف عبد من عبيد اللّه، فهن؟؟؟ أنفسهن فيقطعن أيديهن من جمال الحضور، و نحن نتثاقل عن معراج الصلاة لحد النفور، فأين تفرون؟! فليكن المصلى في معراجه حضورا مطلقا لدى ربه دون غياب، فان إليه الإياب و عليه الحساب و هو رب الأرباب.
تتقدم «إياك» هنا على «نعبد و نستعين» تدليلا على حصر العبادة في اللّه و للّه، و حصر الاستعانة في اللّه: نعبدك أنت لا سواك، و نستعينك أنت لا سواك، تعبيرا عبيرا عن «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» .
تتقدم، لأن اللّه أحق في التقديم عليك و على عبادتك بكل موازين التقديم، فمن أنت حتى تتقدم على ربك و إن في حضرة العبودية، و ما هي عبادتك حتى تتقدم على المعبود في حضرته؟! و «نعبد .. و نستعين» جمعا ليس جمع التعظيم للمفرد حيث المقام مقام
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 109
التطامن و التذلل، فإبراز نفسك كفرد زائد أمام ربك فضلا عن جمعك.
و إنما يعني أمورا عدة بين راجحة و مفروضة، و كلها مفروضة في شرعة المعرفة.
فلكي لا تكذب في صلاتك ادعاء لحصر عبادتك في اللّه، تدمج نفسك في جموع العابدين، من الملائكة و الجنة و الناس أجمعين، من السابقين و المقربين و أصحاب اليمين، حتى تصدق دعواك في حصر العبادة، فان المخلصين صادقون في حصرهم بأسرهم، فأنا- إذا- قائل عنهم، و ناقل منهم و ان لم أكن بنفسي أهلا لتلك الدعوى، فلّعلي أسير بسيرتهم فأكون معهم وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (4: 69) .
فإذا أنت تقبل حق العبادة أيها الرب الجليل، فاقبل مني أنا الذليل البائس الهزيل، تلك العبادة الخليطة بعبادات المخلصين.
ثم دمجا لنفسي في كل العالمين ممن يعبده و يسجد له طوعا أو كرها ف «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» و الكون محراب فسيح تعبد فيه الكائنات ربها بلسان فصيح و غير فصيح.
و لأن الصلاة جماعة أحرى أم هي مفروضة كأصلها ف «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» هي حكاية الحال الحاضرة و المقال لجموع المصلين، و معنا ملائكة اللّه إن كنا في صلاتنا فاردين، و معنا سائر الكون على أية حال.
و حتى إن كنا في حصر العبادة للّه صادقين، علينا أن نخفي أنفسنا في جموع العابدين تحرزا عن الإنّية و الظهور، و إعفاء لأثر الشخوص و الغرور، فلا أنا لائق للإشخاص و الشخوص، و لا عبادتي تليق بحضرة المعبود، إذا ف «نعبد و نستعين و اهدنا» في مثلث من انمحاء الشخصية أمام
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 110
حضرة المعبود.
إن العبودية المطلقة تقتضي الطاعة المطلقة و بينهما عموم مطلق، فكل عبودية طاعة و ليست كل طاعة عبودية اللهم إلّا مطلق العبودية الجامعة مع الشرك خفيا و جليا.
و لماذا تنحصر العبادة بأسرها في اللّه؟ لأنه «اللّه- الرحمن- الرحيم- رب العالمين- مالك يوم الدين» و كل من هذه برهان تام لا مردّ له على ضرورة الانحصار.
فهو «اللّه» في مثلث الزمان و قبله و بعده، سرمديا ما له من فواق و لا رفاق، الكمال المطلق الصادر منه كل كامل و كمال «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ» ؟ «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» ؟! و هو «الرحمن» لا سواه، قبل أن يخلقك و بعد خلقك، لا رحمان إلّا إياه، «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» «أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» ؟!.
و هو «الرحيم» بمن يستحق خاصة الرحمات لا سواه.
و هو «رَبِّ الْعالَمِينَ» لا ربّ سواه خلقا و لا تدبيرا، فمن ذا نعبد إلّا إياه؟
و هو «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ليس إلّا إيّاه فكيف نعبد سواه، و إليه الإياب و عليه الحساب؟
فإن كنت تعبد ما تعبد حبا للكمال المطلق فهو اللّه فلا تعبد- إذا- إلّا إياه.