کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن

الجزء الأول

الجزء الثاني و العشرون

الجزء الخامس و العشرون

الجزء السادس و العشرون

الجزء السابع و العشرون

الجزء الثامن و العشرون

رسالة من صاحب تفسير«الميزان» تعريفا بتفسير الفرقان مقدمة

الجزء التاسع و العشرون

الجزء الثلاثون

المقدمة المدخل

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن


صفحه قبل

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏1، ص: 104

الأعمال كلها يوم الدين، و أنها هي بنفسها الجزاء، و أنّ الدين الحق هو الميزان لثقل الميزان و خفته‏ «وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ» فالقيامة هي يوم الدين الشّرعة و الكتاب ميزانا، و الدين الطاعة و المعصية ظهورا، و الدين بحقيقته جزاء وفاقا.

و هكذا يكون آيات السبع المثاني بكلماتها، نماذج رئيسية محكمة عن تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .

العبادة هي الانتصاب للمعبود في منصب المعبودية، استجاشة لكل الطاقات و الإمكانيات في جانحة او جارحة لخدمته، بكل ذل و انكسار، بعيدا عن كل عزّة و استكبار، و هي درجات كما الاستكبار دركات، و لأن العبد «المملوك» قد يملك بعضه و يملك في بعض، لمالك او مالكين، و هو مطلق العبد، و آخر يملك كله لشركاء متشاكسين و هو العبد المطلق و لكن ليس في إطلاق العبودية و إخلاصه لمالك واحد، و قد يملكه مالك واحد و لكنه يستسلم له مع أهواء آخرين، و ذلك الثالوث خارج عن مغزى‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» فإنها عبادة خالصة للّه رب العالمين، بملكية حقيقة لا تشذ عن ذاته و لا عن عبادته شيئا لغير اللّه و في غير اللّه.

و هي جوهريا تنافي الاستكبار: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» (40: 60) كما الإخلاص فيها ينافي الإشراك لها: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (18: 110) كما و بأحرى ينافي الإشراك فيها «وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» (17: 23) .

إن المعبود الحق و هو اللّه يملك عبادا سواك ف «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي‏

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏1، ص: 105

السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا» (19: 94) و لكنك لا تجد معبودا بحق سواه، و هو يربّيك كأن ليس له عبد سواك، ثم أنت تعبده- ان كنت عابده- كأن لك أربابا سواه! إنه لا بد لك من معبود حقا أو باطلا، و قولة القائل: إن العبودية ذلّ أيا كان المعبود، و الإنسان عزيز أيا كان، فليرفض العبودية لايّ كان، إنه هرطقة هراء، و اللّه منها براء.

أجل إن العبودية الذل أمام الذليل و الأذل كما يفعلها الذين يعبدون من دون اللّه، إنها ذلّ و ظلم و مس من كرامة الإنسان، و لكنها أمام اللّه عز و عدل و فضل يرجع إلى الإنسان، و لا يتحلّل أي ذي حجى أم ذي شعور عن عبادة مّا حقا أو باطلا.

و بصيغة مختصرة محتصرة إن في الكون إلهين اثنين معبودين: حق و باطل، فالباطل هو عبادة النفس و الهوى، و الحق هو عبادة اللّه على هدى، و ليست عبادة من سوى اللّه إلّا ناتجة عن عبادة الهوى: «وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (38: 26) .

و مثلا على العابدين الإنسان أيا كان، و حتى الذي يدعي الألوهية من دون اللّه، فإن له إلها و آلهة من أصنام و أوثان، مهما كان هو طاغوتا لمستضعفي الإنسان، و لأقل تقدير هو يعبد نفسه و هواه‏ «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» (45: 26) .

إنه ليست للّه تعالى حظوة في عباداتنا، فنحن الذين نحظوا بعبادته، حظوة معنوية لأنها اتصال معرفي باللّانهاية في الكمال، و أخرى حيويّة أخرى، أنه يدلنا بها إلى التقوى و يردعنا عن الطغوى: «ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ‏

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏1، ص: 106

هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (51: 58) «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (2: 21) .

و الناس بين من يعبد اللّه وحده على درجاتهم، أم يعبده مشركا في عبادته، أم مشركا به معبودا سواه، ام لا يعبد إلا سواه، بديل ألّا يعبد إلّا إياه‏ «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» فضلا عن تخصيص العبادة لغير اللّه.! إن العبودية العادلة الحكيمة هي مفرق الطريق بين التحرر المطلق عن كل عبودية، و بين العبودية لغير اللّه من طواغيت، و أوثان و أصنام و نظم و أوهام و عادات و أحلام، فالناس بين عابدين لغير اللّه، و مدعين التحلل عن كل عبادة و عبودية حتى اللّه، مفرطين فيها أو مفرّطين عنها، رغم استحالة التحلّل عن أية عبادة و عبودية، فإنهم يعبدون شهواتهم و مشتهيات غيرهم من طواغيت ثم يدعون التحلل عن كل عبودية و لهم منها أبطلها و أحمقها!.

فإذا يعبد الإنسان ربه الخالق له المدبر أمره فهذه مفخرة له إذ ترفع من كيانه، و حين يعبد أضرابه أو من دونه فقد حطّ من كيانه كإنسان، و ردّ إلى أسفل سافلين.

ثم و «نعبد» قد تكون من العبودة كما هي من العبادة، فمن العبودة الرضى بلا خصومة، و الصبر بلا شكاية، و اليقين بلا شبهة، و الشهود بلا غيبة، و الإقبال بلا رجعة، و الإيصال بلا قطيعة.

و من العبادة الصلاة بلا غفلة، و الصوم بلا غيبة، و الصدقة بلا منة، و الحج بلا إراءة، و الغزو بلا سمعة، و الذكر بلا ملالة، و سائر العبادات بلا أية رئاء و سمعة و آفة.

ف «نعبد» تشمل بإطلاق التعبير كلا العبادة و العبودة كما كلّ منهما

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏1، ص: 107

درجات و في التخلف عنهما دركات.

و هنا في‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» انتقالة من غياب الحمد إلى حضور العبادة و الاستعانة، حيث المعرفة البدائية و هي شرط العبادة، هي غائبة بطبيعة الحال، و من ثم إلى حضور المعبود المعروف بما عرّف نفسه و تعرّفنا إليه في خطوات سابقة سابغة: «بِسْمِ اللَّهِ‏ - إلى- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» أنت قبل صلاتك منشغل عن اللّه بمشاغل الحياة و شواغلها، فلما تكبّر و تعني به أنه أكبر من أن يوصف، تأخذ في التغافل عما سوى اللّه و الانشغال باللّه، و لكي تتهيّأ لحضوره في معراج الصلاة تقدّم ما تقدّم على‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ ..» و حين تكمّل أصول المعرفة و الدين بالبسملة- إلى- مالك يوم الدين، هنا يسمح لك أن تخاطب صاحب المعراج ب «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .

فمن قبل كنت في غياب هو مطلق الحضور، و أنت الآن في الحضور المطلق.

ف «اعبد ربك كأنك تراه و إن لم تكن تراه فإنه يراك».

في‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» خرق لكافة الحجب ظلمانية و نورانية، و هو مجال فاسح لمقام التدلّي في «أو أدنى» بعد ما «دنى» فالدنو المعرفي العبودي كقاب قوسين، يعني أن ليس بينه و بين اللّه أحد، ثم التدلي هو أن ينمحي العابد عن نفسه كما محّى ما سواه فلا يبقى إلّا حجاب الذات المقدسة و هو لزام الألوهية: بيني و بينك إني ينازعني- فارفع بلطفك إني من البين.

اللّه تبارك و تعالى حاضر لدى كل كائن، و ناظر إليه رقيب عليه، و هو أقرب منه إليه‏ «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» قربا علميا و قيوميا، لا

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏1، ص: 108

ذاتيا او زمانيا و مكانيا فانها بعد في ساحة الألوهية، و مس من كرامة الربوبية:

فلتكن في حاضر خاطرك، في علمك و عملك، في سرّك و علانيتك، في جوارحك و جوانحك، حاضرا لديه، أقرب منك إلى نفسك فضلا عما سواك، انمحاء لنفسك لكمال الحضور، فانعدم هنا عن كافة شخصياتك و تعلقاتك أمام ربك حتى تنوجد متعلقا بل و تعلقا بربك متدليا به.

أم تحضر بحضرته كما أنت حاضر لنفسك، ام- لأقل تقدير- كما أنت حاضر عند عزيز من أعزتك و أنت تراه، أم و ادنى منه أنه يراك، آه يا ويلنا و نحن بعيدون في معراجنا عن هذه الأربع، بل نجد كل ضالة سوى اللّه في صلاتنا! أ فنحن أضعف من نساء في المدينة بالنسبة لحضرة يوسف‏ «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» و يوسف عبد من عبيد اللّه، فهن؟؟؟ أنفسهن فيقطعن أيديهن من جمال الحضور، و نحن نتثاقل عن معراج الصلاة لحد النفور، فأين تفرون؟! فليكن المصلى في معراجه حضورا مطلقا لدى ربه دون غياب، فان إليه الإياب و عليه الحساب و هو رب الأرباب.

تتقدم «إياك» هنا على «نعبد و نستعين» تدليلا على حصر العبادة في اللّه و للّه، و حصر الاستعانة في اللّه: نعبدك أنت لا سواك، و نستعينك أنت لا سواك، تعبيرا عبيرا عن‏ «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» .

تتقدم، لأن اللّه أحق في التقديم عليك و على عبادتك بكل موازين التقديم، فمن أنت حتى تتقدم على ربك و إن في حضرة العبودية، و ما هي عبادتك حتى تتقدم على المعبود في حضرته؟! و «نعبد .. و نستعين» جمعا ليس جمع التعظيم للمفرد حيث المقام مقام‏

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏1، ص: 109

التطامن و التذلل، فإبراز نفسك كفرد زائد أمام ربك فضلا عن جمعك.

و إنما يعني أمورا عدة بين راجحة و مفروضة، و كلها مفروضة في شرعة المعرفة.

فلكي لا تكذب في صلاتك ادعاء لحصر عبادتك في اللّه، تدمج نفسك في جموع العابدين، من الملائكة و الجنة و الناس أجمعين، من السابقين و المقربين و أصحاب اليمين، حتى تصدق دعواك في حصر العبادة، فان المخلصين صادقون في حصرهم بأسرهم، فأنا- إذا- قائل عنهم، و ناقل منهم و ان لم أكن بنفسي أهلا لتلك الدعوى، فلّعلي أسير بسيرتهم فأكون معهم‏ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (4: 69) .

فإذا أنت تقبل حق العبادة أيها الرب الجليل، فاقبل مني أنا الذليل البائس الهزيل، تلك العبادة الخليطة بعبادات المخلصين.

ثم دمجا لنفسي في كل العالمين ممن يعبده و يسجد له طوعا أو كرها ف «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» و الكون محراب فسيح تعبد فيه الكائنات ربها بلسان فصيح و غير فصيح.

و لأن الصلاة جماعة أحرى أم هي مفروضة كأصلها ف «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» هي حكاية الحال الحاضرة و المقال لجموع المصلين، و معنا ملائكة اللّه إن كنا في صلاتنا فاردين، و معنا سائر الكون على أية حال.

و حتى إن كنا في حصر العبادة للّه صادقين، علينا أن نخفي أنفسنا في جموع العابدين تحرزا عن الإنّية و الظهور، و إعفاء لأثر الشخوص و الغرور، فلا أنا لائق للإشخاص و الشخوص، و لا عبادتي تليق بحضرة المعبود، إذا ف «نعبد و نستعين و اهدنا» في مثلث من انمحاء الشخصية أمام‏

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏1، ص: 110

حضرة المعبود.

إن العبودية المطلقة تقتضي الطاعة المطلقة و بينهما عموم مطلق، فكل عبودية طاعة و ليست كل طاعة عبودية اللهم إلّا مطلق العبودية الجامعة مع الشرك خفيا و جليا.

و لماذا تنحصر العبادة بأسرها في اللّه؟ لأنه «اللّه- الرحمن- الرحيم- رب العالمين- مالك يوم الدين» و كل من هذه برهان تام لا مردّ له على ضرورة الانحصار.

فهو «اللّه» في مثلث الزمان و قبله و بعده، سرمديا ما له من فواق و لا رفاق، الكمال المطلق الصادر منه كل كامل و كمال‏ «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ» ؟ «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» ؟! و هو «الرحمن» لا سواه، قبل أن يخلقك و بعد خلقك، لا رحمان إلّا إياه، «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» «أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» ؟!.

و هو «الرحيم» بمن يستحق خاصة الرحمات لا سواه.

و هو «رَبِّ الْعالَمِينَ» لا ربّ سواه خلقا و لا تدبيرا، فمن ذا نعبد إلّا إياه؟

و هو «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ليس إلّا إيّاه فكيف نعبد سواه، و إليه الإياب و عليه الحساب؟

فإن كنت تعبد ما تعبد حبا للكمال المطلق فهو اللّه فلا تعبد- إذا- إلّا إياه.

صفحه بعد