کتابخانه تفاسیر
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج28، ص: 111
حين تقف قدرة الإنسان- أو أيا كان- و كل محاولاته، يقف علمه و ينتهي دوره المختار، فتنفرد القدرة الإلهية و علمه و أمره و يخلص الأمر كله للّه و هنا لك يخسر المبطلون (فَلَوْ لا تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) :
جولة ثانية تختصر الاولى، و تزيد عليها في الجزاء بين الموت و المعاد، فالاولى تستعرض الجزاء منذ القيامة الكبرى: (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ .. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) .
و هذه تستعرضها منذ الاحتضار و الموت و إلى القيامة، (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) .
في هذه الجولة نرى المقربين في مثلث الرحمة، علّ الروح و الريحان للبرزخ، و طبعا جنة نعيم و هي الخلد للآخرة «1» ، كما و ان المكذبين الضالين في مثنى:
(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) علّها للبرزخ، و (تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) و ليست إلا للآخرة «2» و من ثم لأصحاب اليمين و هم الامة الوسطى بينهما، واحد يعم سلام الإكرام و الانعام، منذ الموت إلى يوم القيام.
و ترى ما هما الروح و الريحان؟ ان الرّوح و الروح من أصل واحد، ثم اختص الثاني بالنفس، و الأول بالنفس المتنفسّ، و هما ما به الحياة، حياة الأصل للروح، و حياة النزهة للروح، فالمقربون يتنفسون بالموت عن خنق ما كانوا و حنقه، ثم يزيدهم روحا و روحا و ريحانا، و عل الروح هنا رحمة نفسانية روحانية، و نسمة من جنة الرضوان، و نفحة من معرفة الرحمان، و يا لها
(1).
امالي الصدوق باسناده إلى موسى بن جعفر عن أبيه الصادق جعفر بن محمد (ع) في حديث : «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ» يعني في قبره «وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ» يعني في الآخرة.
(2)
اصول الكافي و أمالي الصدوق بهذا الاسناد «وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ» يعني في القبر «وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» يعني في الآخرة.
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج28، ص: 112
بوحدتها من روح و ريحان، ثم الريحان عطر يعطر المشام، و يذهب بعفونة الأيام.
ثم و ما هو (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) ؟ علّه يوحي بحالة مرضية لهم تطمئن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسلام له منهم و سلوان، فلا يضطرب بما قد اقترفوه من آثام، فقد حوّلهم اللّه من لا سلام الى سلام، إذ كفّر عنهم سيئاتهم و أدخلهم مدخلا كريما، و بدّل سيئاتهم حسنات فأصبحوا في سلام و سلوان، في رحمة و غفران، فمنهم لك سلام، عطاء من ربك و إنعام: (وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) .
و ترى لماذا (سلام) و ليس (السّلام)؟ قد يكون تنكير السّلام له منهم لإثبات أصل السّلام، دون أن يناحره شيء من اللاسلام للأدنين من أصحاب اليمين، الذين قد يذوقوه في فترة البرزخ، و لو زاد ففي بداية القيامة، أم لو زاد فمصيرهم الأخير الجنة مهما ابتلوا هنا و هناك، إذا فحالهم مرضية للرسول الشفيع الأمين، و بشفاعته و ذويه يخرج غير المخلدين عن الجحيم، و هم أدنى أصحاب اليمين.
ثم الرعيل الأعلى منهم لهم السّلام كل السّلام دون عذاب و لا بلاء، ثم المتوسطون بين الأولين و الآخرين لهم وسط من السّلام (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) مهما اعتراهم من غير سلام.
كما و أن روح المقربين و ريحانهم و جنتهم النعيم درجات حسب الدرجات، فلأفضل المقربين الرسول محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فضله على سواه، لحدّ يحتاجه في الزلفى من سواه.
كما و أن للمكذبين الضالين دركات في نزل من حميم و تصلية جحيم
«حتى انصرف المشيع و رجع المتفجع، اقعد في حفرته نجيّا لبهتة السؤال و عثرة الامتحان، و أعظم ما هنا لك بليّة نزول الجحيم و فورات السعير و سورات
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج28، ص: 113
الزفير، و لا دعة مزيحة، و لا قوة حاجزة، و لا موتة ناجزة، و لا سنة مسلية بين أطوار الموتات و عذاب الساعات)
«1» .
ثم و تصلية جحيم هي إيقادها بوقود أجسادهم و أرواحهم الجهنمية:
«وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ» (3: 10) فسائر أهل النار و هم هوامش الضلالة يحرقون بنارهم كما احترقوا يوم الدنيا، ثم و منهم من ينجو مع الناجين فيلحق بأصحاب اليمين، و منهم .. ثم لا يبقى في النار إلا الوقود حتى يتم جزاءهم الوفاق، ثم تخمد النار و يموت الوقود، المؤبدون ثم لا يحيون.
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ :
«وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» (69: 52) لا علم اليقين فقط و لا عين اليقين، و إنما حق اليقين، الذي ليس فوقه يقين، و «هذا» هو اللّه، و هو كتاب اللّه، و هو يوم اللّه، لا ريب في أي من هذا و ذاك، فالمقربون لهم في ذلك حق اليقين، و أصحاب اليمين لهم عين اليقين أو علم اليقين، ثم للمكذبين الضالين عين اليقين إذ يدخلون الجحيم «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» (102: 7) و كان لهم أن يرونها قبل يوم الدين: علم اليقين أو عين اليقين أو حق اليقين.
و مهما يتعرض علم اليقين و هو اليقين العلم، للخطأ أو الإهمال في متطلبات اليقين، أو تخطأ عين اليقين أو تهمل مهما كان أقل خطأ و إهمالا من علم اليقين، فليس حق اليقين و هو اليقين الحق، الثابت الصامد، مما يخطئ أو يهمل، لأنه واضح وضح النار و أوضح.
(1). نهج البلاغة للسيد الرضي عن أمير المؤمنين علي (ع): ...
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج28، ص: 114
سورة الحديد- مدنية- و آياتها تسع و عشرون
[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج28، ص: 115
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ :
هنا و أحيانا في غيرها «سبح» و هنا لك في مواضيع «يسبح» إيحاء باستمرارية تسبيح الكائنات غابرا و مستقبلا و حاضرا دون فكاك، و أيا كان التسبيح و من اي كان.
و «سبح» مما تعدّى بنفسها، فلما ذا عدّيت هنا باللام و أحيانا بنفسها؟
لأن اللام توحي بالاختصاص، فلا تسبح ما في السماوات و الأرض إلا للّه، لا له و لسواه، فليحمل عليها المعدّى بنفسها: «وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا» فلا تسبيح إلا للّه.
و التسبيح هو الإمرار السريع دون تباطئ، من السبح: المرّ السريع في
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج28، ص: 116
الماء و الهواء أو أيا كان، فالمسبح للّه يمر سريعا في ممرات نفسه و سائر الكائنات، دون وقفة و لا ريبة، و يحمل معه تنزيه اللّه ذاتا و صفات و أفعالا و أسماء و أحكاما أم ماذا، لأن الكون محراب واسع تسجد فيه الكائنات لربها و تنزّهه عما لا يليق به.
و ترى التسبيح فقط من «ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» ؟ دونهما و من فيهما و هم أقدر و أحرى؟ .. إنه للكائنات كل الكائنات: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» (17: 44) «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» (24: 41) «وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ» (21: 79) .
فالكائنات كلها تسبيحات للّه بما لا نفقهه، من التسبيح عن شعور و إدراك ممن نحسبهم غير عقلاء و لا مدركين، أو ما نفقهه من تسبيح اختياري لمن يعرفون اللّه بدرجاتهم، أم ذاتي لمن يكفر باللّه، فذاته في صفوف الكائنات تسبح اللّه عما لا يليق به من ذات و صفات أم ماذا.
فالعارفون اللّه، و من يدق أبواب المعرفة باللّه يرون اللّه مسبّحا عبر سير البصر و البصيرة في آيات اللّه، أنفسية و آفاقية «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (41: 53) .
فالكائنات بذواتها و صفاتها و حالاتها، بأفعالها و أقوالها و كل ما لها: «سَبَّحَ لِلَّهِ» أ فلا تدل ذواتها الفقيرة البائسة على نزاهته تعالى عن البؤس و الفقر، أو لا تدل دلالة جامعة تضم سائر الدلالات أن اللّه مسبّح الذات و الأفعال و الصفات عما للكائنات كل الكائنات من ذوات و صفات: «هو خلو من خلقه و خلقه خلو منه» «كلما في الخلق يمتنع عن خالقه، و كل ما في الخالق يمتنع عن مخلوقه» و الى غير ذلك من مفارقات بين الواجب و الممكنات.
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج28، ص: 117
«سَبَّحَ لِلَّهِ .. وَ هُوَ الْعَزِيزُ ..» : غالب لا يغلب «الْحَكِيمُ» : فلا يجهل أو يخطأ أو يظلم، عزيز حكيم: في ألوهيته و ربوبيته .. و في أنه مسبّح.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ :
«له ملك» الملكية المالكية الحقة دون زوال فلا يزول و هو لا يزال «مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» المعبرة عن الكائنات كل الكائنات «يُحْيِي وَ يُمِيتُ» : كأبرز مظاهر الربوبية المطلقة، لا فحسب، بل: «وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ما هو شيء أو يمكن أن يكون شيئا، قدرة متعلقة بالممكنات في كافة الجهات.
فيا لتسبيح المملوك العبد للملك المالك بالحق من حلاوة و طلاوة، كيف لا و:
هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ :
آية فريدة منقطعة النظير، ليست إلا هي و إلا هنا كما هي، اللهم إلا في البعض من اتجاهاتها بعبارات اخرى، تعني السرمدية الإلهية: أزلية و أبدية، و الحيطة العلمية و القيومية المطلقة.
و هذه الأسماء الأربعة من مظاهر السرمدية و الحيطة المطلقة الإلهية، كونا و كيانا و علما و قدرة و قيومية أم ماذا.
«هُوَ الْأَوَّلُ» لا سواه، و ترى أنه أوّل بالنسبة لسواه في الزمان أو المكان، تقدما فيهما على أيّ كان؟ و لا زمان له و لا مكان، فهو الذي كوّن المكان و الزمان! .. أو أنه أوّل في الحدوث؟ و ليس له حدث، و إنما أحدث الأشياء و كان إذ لا كان، فلم يحدث هو أيا كان، و ان كان حدوثا بلا زمان! كلا:
«إنه الأول لا عن أول قبله و عن بدء سبقه .. و لكن قديم أول و قديم آخر»
«1» : أولية القدمة و الأزلية، فلو سألت عن ربك متى كان؟ فالجواب
(1).