کتابخانه تفاسیر
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 1
الجزء الأول
سورة فاتحة الكتاب
مكية. و قيل مكية و مدنية لأنها نزلت بمكة مرة و بالمدينة أخرى. و تسمى أمّ القرآن؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على اللَّه تعالى بما هو أهله، و من التعبد بالأمر و النهى، و من الوعد و الوعيد. و سورة الكنز و الوافية لذلك. و سورة الحمد و المثاني لأنها تثنى في كل ركعة. و سورة الصلاة لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها. و سورة الشفاء و الشافية. و هي سبع آيات بالاتفاق، إلا أنّ منهم من عدّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ دون التسمية، و منهم من مذهبه على العكس.
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
قرّاء المدينة و البصرة و الشأم و فقهاؤها على أنّ التسمية ليست بآية من الفاتحة و لا من غيرها من السور، و إنما كتبت للفصل و التبرك بالابتداء بها، كما بدأ بذكرها في كل أمر ذى بال، و هو مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه و من تابعه، و لذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. و قرّاء مكة و الكوفة و فقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة و من كل سورة، و عليه الشافعي و أصحابه رحمهم اللَّه، و لذلك يجهرون بها. و قالوا:
قد أثبتها السلف في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن، و لذلك لم يثبتوا (آمين) فلو لا أنها من القرآن لما أثبتوها. و عن ابن عباس: «من تركها فقد ترك مائة و أربع عشرة آية من كتاب اللَّه تعالى» «1» .
(1). موقوف، ليس بمعروف عنه، و الذي في الشعب للبيهقي عنه: «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب اللَّه». و تعقب ابن الحاجب ما أورده الزمخشري بأن قال: «الصواب مائة و ثلاث عشرة» و بهذا اللفظ ذكر الشهرزوري في المصباح. و زاد: و إنما لم يقل «أربع عشرة» لأن براءة لا بسملة فيها، انتهى. روى البيهقي في الشعب عن أحمد بن حنبل أنه قال: «من لم يقل مع كل سورة بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك مائة و ثلاث عشرة آية من كتاب اللَّه تعالى». قلت: وقفت على سبب الغلط في منقول الزمخشري. و ذلك أن الحاكم روى في ترجمة عبد اللَّه بن المبارك بسند له عن على القاشاني قال: «رأيت عبد اللَّه بن المبارك يرفع يديه في أول تكبيرة على الجنازة ثم الثانية أخفض قليلا و الصلوات مثل ذلك». قال على قال عبد اللَّه «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم في فواتح السور فقد ترك مائة و ثلاث عشرة آية». قال عبد اللَّه: و أخبرنا حنظلة بن عبد اللَّه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب اللَّه تعالى». فلما لم يخص ابن عباس سورة حمله ابن المبارك على الكل إلا براءة فكان مائة و ثلاث عشرة.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 2
فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ قلت: بمحذوف تقديره: بسم اللَّه أقرأ أو أتلو؛ «1» لأن الذي يتلو التسمية مقروء، كما أنّ المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال: بسم اللَّه و البركات، كان المعنى:
بسم اللَّه أحل و بسم اللَّه أرتحل؛ و كذلك الذابح و كل فاعل يبدأ في فعله ب «بسم اللَّه» كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له. و نظيره في حذف متعلق الجارّ قوله عزّ و جلّ: (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ) ، أى اذهب في تسع آيات. و كذلك قول العرب في الدعاء للمعرس: بالرفاء و البنين، و قول الأعرابى: باليمن و البركة، بمعنى أعرست، أو نكحت. و منه قوله:
فقُلْتُ إلى الطَّعام فقَالَ مِنْهُمْ
فَرِيقٌ نحْسُدُ الإِنْسَ الطَّعامَا «2»
(1). قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «الباء في البسملة تتعلق بمحذوف تقديره: بسم اللَّه أقرأ أو أتلو» قال أحمد:
رحمه اللَّه تعالى: الذي يقدره النحاة «أبتدئ» و هو المختار لوجوه: الأول: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل بسملة ابتدئ بها فعل ما من الأفعال خلاف فعل القراءة، و العام صحة تقديره أولى أن يقدر، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبراً أو صفة أو صلة أو حالا بالكون و الاستقرار حيثما وقع و يؤثرونه لعموم صحة تقديره، و الثاني: أن تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض من البسملة إذ الغرض منها أن تقع مبدأ فتقدير فعل الابتداء أوقع بالمحل، و أنت إذا قدرت «أقرأ» فإنما تعنى أبتدئ القراءة و الواقع في أثناء التلاوة قراءة أيضا لكن البسملة غير مشروعة في غير الابتداء. و منها طهور فعل الابتداء في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) . و قال عليه السلام: «كل أمر خطير ذى بال لا يبدأ فيه باسم اللَّه فهو أبتر». و لا يعارض هذا ما ذكره من ظهور فعل القراءة في قوله تعالى:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فان فعل القراءة إنما ظهر ثم لأن الأهم هو القراءة غير منظور إلى الابتداء بها. ألا ترى إلى تقدم الفعل فيها على متعلقه لأنه الأهم و لا كذلك في البسملة؛ فان الفعل المقدر كائنا ما كان إنما يقدر بعدها، و لو قدر قبل الاسم لفات الغرض من قصد الابتداء إذاً على أنه الأهم في البسملة، فوجب تقديره، و سيأتى الكلام على هذه النكتة.
(2).
و نار قد حضأت بعيد و هن
بدار ما أريد بها مقاما
سوى ترحيل راحلة و عين
أكاليها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم
زعيم نحسد الانس الطعاما
لقد فضلتم في الأكل فينا
و لكن ذاك يعقبكم سقاما
لسمير بن الحارث الضبي، و قيل لتأبط شراً، و قيل لشمر الغساني، و قيل للفرزدق يصف نفسه بالجرأة و اقتحام المخاوف، يقول: و رب نار قد حضأتها بالحاء المهملة: أشعلتها و سعرتها، و قيل هو خضأتها، بالمعجمة، و لا أعلمه و إن ذكره بعض النحاة في باب الحكاية، و بعيد: تصغير بعد، و الوهن و الموهن: بمعنى الفتور أو النوم أو هدوء الصوت، و قيل: نحو نصف الليل. أى أوقدتها في جوف الليل في مفازة لا أريد إقامة بها سوى تجهيز ما يلزم لراحلتى في السفر و لأجل عين أكاليها أى أساهرها أو أ حافظها، فأنا أحفظها من النوم و هي تحفظني من العدو، و الضمير في أتوا: لمبهم.
و منون استفهام، و كان حقه: من أنتم، لأنه لا يأتى بصورة الجمع إلا في الوقف، و الأصل في نونه الأخيرة السكون للوزن، على أن إجراء الوصل مجرى الوقف كثير في النظم كما صرحوا به و جعلوا هذا منه، و كأن هناك قول مقدر مثل «جئناك» فحكى إعراب ضمير الفاعل فيه حتى يظهر استشهاد يونس به في الحكاية. فقالوا: نحن الجن. و كان الظاهر:
فقلت عموا. و لكن أتى به مستأنفاً جواب سؤال مقدر تقديره: فما ذا قلت لهم؟ فقال: قلت عموا، أى تنعموا في وقت الظلام، و عطف قوله «فقلت» بالفاء دلالة على التعقيب، و أما رواية «عموا صباحا» فمن قصيدة أخرى تعزى إلى خديج بن سنان الغساني و منها:
نزلت بشعب وادى الجن لما
رأيت الليل قد نشر الجناحا
و شبه الليل بطائر، فأثبت له ما للطائر، أو شبه الظلمة بالجناح. و قوله «إلى الطعام» أى هلموا و أقبلوا إليه. دل المقام على ذلك، فقال زعيم منهم، أى سيد و شريف: نحن نحسد الانس في الطعام أو على الطعام، فهو نصب على نزع الخافض، و يجوز أنه بدل، و يجيء «حسد» متعديا لاثنين، و الطعاما: مفعوله الثاني. و قال الجوهري: الأنس هنا بالتحريك: لغة في الانس، و يجوز قراءته «الانس» على اللغة المشهورة. لقد فضلتم عنا في الأكل حال كونكم فينا أى فيما بيننا، و لكن ذاك يلحقكم سقاما في العاقبة. و هذا كله من أكاذيب العرب.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 3
فإن قلت: لم قدّرت المحذوف متأخراً؟ «1» قلت: لأنّ الأهم من الفعل و المتعلق به هو المتعلق به؛ لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم اللَّه عزّ و جلّ بالابتداء، و ذلك بتقديمه و تأخير الفعل كما فعل في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص. و الدليل عليه قوله:
(بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها) . فإن قلت: فقد قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، فقدّم الفعل. قلت:
هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم.
فإن قلت: ما معنى تعلق اسم اللَّه بالقراءة؟ «2» قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك: كتبت بالقلم، على معنى أنّ المؤمن لما اعتقد أنّ فعله لا يجيء معتدا به في الشرع واقعا على السنة حتى يصدر بذكر اسم اللَّه لقوله عليه الصلاة و السلام: «كل أمر ذى بال لم يبدأ فيه
(1). قال محمود: «لم قدرت المحذوف متأخراً .. الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: لأنك لو ابتدأت بالفعل في التقدير لما كان الاسم مبتدأ به فيفوت الغرض من التبرك باسم اللَّه تعالى أول نطقك. و أما إفادة التقديم الاختصاص ففيه نظر سيأتى إن شاء اللَّه تعالى.
(2). قال محمود: «فان قلت ما معنى تعلق اسم اللَّه تعالى بالقراءة ... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه: و في قوله «إن اسم اللَّه هو الذي صير فعله معتبراً شرعا» حيد عن الحق المعتقد لأهل السنة في قاعدتين: إحداهما أن الاسم هو المسمى، و الأخرى أن فعل العبد موجود بقدرة اللَّه تعالى لا غير؛ فعلى هذا تكون الاستعانة باسم اللَّه معناها اعتراف العبد في أول فعله بأنه جار على يديه، و هو محل له لا غير؛ و أما وجود الفعل فيه فباللَّه تعالى أى بقدرته تسليما للَّه في أول كل فعل؛ و الزمخشري رحمه اللَّه لا يستطيع هذا التحقيق لاتباعه الهوى في مخالفة القاعدتين المذكورتين، فيعتقد أن اسم اللَّه تعالى الذي هو التسمية معتبر في شرعية الفعل لا في وجوده؛ إذ وجوده على زعمه بقدرة العبد، فعلى ذلك بنى كلامه.
أقول: دعواه أن عند أهل السنة الاسم غير المسمى ممنوعة، و تحقيقه قد ذكر في غير هذا الكتاب.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 4
باسم اللَّه فهو أبتر» «1» إلا كان فعلا كلا فعل، جعل فعله مفعولا باسم اللَّه كما يفعل الكتب بالقلم.
و الثاني أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات «2» في قوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) على معنى: متبرّكا بسم اللَّه أقرأ، و كذلك قول الداعي للمعرس: بالرفاء و البنين، معناه أعرست ملتبسا بالرفاء و البنين، و هذا الوجه أعرب و أحسن؛ فإن قلت: فكيف قال اللَّه تبارك و تعالى متبركا باسم اللَّه أقرأ؟ قلت:
هذا مقول على ألسنة العباد، كما يقول الرجل الشعر على لسان غيره، و كذلك:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ - إلى آخره، و كثير من القرآن على هذا المنهاج، و معناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه، و كيف يحمدونه و يمجدونه و يعظمونه. فإن قلت: من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه و لام الابتداء و واو العطف وفائه و غير ذلك، فما بال لام الإضافة و بائها بنيتا على الكسر؟
قلت: أما اللام فللفصل بينها و بين لام الابتداء، و أما الباء فلكونها لازمة للحرفية و الجر، و الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة، لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن إذا كان دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك و يقفوا على الساكن، لسلامة لغتهم من كل لكنة و بشاعة، و لوضعها على غاية من الإحكام و الرصانة، و إذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة شيء. و منهم من لم يزدها و استغنى عنها بتحريك الساكن، فقال: سم و سم. قال:
بِاسْمِ الذِي في كلِّ سُورةٍ سِمُهْ «3»
(1). لم أره هكذا. و المشهور فيه حديث أبى هريرة من رواية قرة عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه بلفظ «لا يبدأ فيه بحمد اللَّه أقطع» أخرجه أبو عوانة في صحيحه، و أصحاب السنن. و لأحمد من هذا الوجه «لا يفتتح بذكر اللَّه فهو أبتر أو أقطع» و للخطيب في الجامع من طريق مبشر بن إسماعيل عن الزهري بلفظ «لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم فهو أقطع» و الراوي له عن مبشر- مجهول
(2). قوله «تعلق الدهن بالانبات» هذا يناسب قراءة «تنبت» من أنبت الرباعي: كما يأتى. (ع)
(3).
باسم الذي في كل سورة سمة
قد وردت على طريق تعلمه
أرسل فيها بازلا يقرمه
فهو بها ينحو طريقاً يعلمه
لرؤبة بن العجاج يصف إبلا. و لفظ «اسم» من الألفاظ العشرة التي سمع بناء أوائلها على السكون كابن و امرئ، فإذا ابتدءوا بها زادوا همزة الوصل و لا حاجة لها في الدرج، و سمع تحريك أول بعضها كما في سمه بتثليث أوله و باسم متعلق بأرسل و باؤه للملابسة. و ضمير وردت للسورة. و ضمير تعلمه بالفوقية للَّه على طريق الالتفات إلى الخطاب، و يمكن أنه لمخاطب مبهم، و على روايته بالتحتية فالضمير للَّه فقط. و يحتمل من بعد أن ضمير وردت للإبل فكذلك تعلمه بالفوقية، و أما بالتحتية فضميره للَّه أو للراعي. و البازل: الذي انشق نابه من الإبل و ذلك في السنة التاسعة و ربما يزل في الثامنة، و قرم الى اللحم و نحوه: اشتاق إليه. و التقريم و الاقرام: التشويق إليه و الجملة حال من الراعي المرسل أو صفة لبازل، و عليه فلم يبرز ضمير الفاعل لأمن اللبس. فهو أى البازل؛ و ينحو: أى يقصد بها، و الباء للظرفية أو للتعدية إلى المفعول به كذهبت بزيد، و يجوز أن الضمير للراعي فالباء للتعدية فقط. و روى «نزلت» بدل «وردت» و هو يؤيد جعل الضمير للسورة، و روى البيت الثاني قبل الأول.
و المعنى أرسل فيها الراعي ملتبساً بذكر اسم اللَّه بازلا حال كونه يشوقه إليها باعفائه من العمل و حبسه عن الإبل ثم إرساله فيها، فذلك البازل يقصد بها طريق يعرفه و هو طريق الضراب، و علم ما لا يعقل مجاز عن اهتدائه إلى منافعه، على طريق الاستعارة التصريحية و المجاز المرسل، أو شبهه بالعاقل على طريق المكنية، فالعلم تخييل لذلك التشبيه. و كون اسمه تعالى في كل سورة ظاهر على القول بأن البسملة آية من كل سورة، و إلا ورد مثل سورة العصر. و ربما يدفع إيطاء القافية باختلافها في الفاعل و في معنى المفعول و في الحقيقة و المجاز.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 5
و هو من الأسماء المحذوفة الأعجاز: كيد و دم، و أصله: سمو، بدليل تصريفه: كأسماء، و سمى، و سميت. و اشتقاقه من السمو، لأنّ التسمية تنويه بالمسمى و إشادة بذكره، و منه قيل للقب النبز: من النبز بمعنى النبر، و هو رفع الصوت. و النبز قشر النخلة الأعلى. فإن قلت: فلم حذفت الألف في الخط و أثبتت في قوله: باسم ربك؟ قلت: قد اتبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال، و قالوا: طولت الباء تعويضا من طرح الألف. و عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه: طوّل الباء و أظهر السنات و دوّر الميم. و (الله) أصله الإله. قال:
مَعَاذَ الالهِ أَنْ تَكُونَ كظَبْيَةٍ «1»
و نظيره: الناس، أصله الأناس. قال:
إنَّ المَنايَا يَطَّلِعْ
نَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا «2»
فحذفت الهمزة و عوّض منها حرف التعريف، و لذلك قيل في النداء: يا اللَّه بالقطع، كما يقال:
(1).
معاذ الاله أن تكون كظبية
و لا دمية و لا عقيلة ربرب
و لكنها زادت على الحسن كله
كمالا و من طيب على كل طيب
للبعيث بن حريث في محبوبته أم السلسبيل، يقال: عاذ عياذاً و عياذة و معاذاً و عوذاً، إذا التجأ إلى غيره، فالمعاذ مصدر نائب عن اللفظ بفعله، و الدمية: الصنم و الصورة من العاج و نحوه المنقوشة بالجواهر. و عقيلة كل شيء: أكرمه.
و الربرب: القطيع من بقر الوحش: شبه محبوبته بالظبية و بالدمية و بالعقلية في نفسه، ثم وجدها أحسن منها فرجع عن ذلك و التجأ إلى اللَّه منه كأنه أثم؛ أو المعنى لا أشبهها بذلك و إن وقع من الشعراء. و أتى بلا المؤكدة لما قبلها من معنى النفي أى ليست كظبية و لا دمية و لا عقيلة ربرب و لكنها زادت كمالا على الحسن المعروف كله، أو زادت على الحسن الحسى كمالا معنويا، و زادت من الطيب على كل طيب.
(2). شبه المنايا بأناس يبحثون عمن استحق الموت على طريق المكنية و الاطلاع تخييل. و المعنى: أن المنايا تأتى الناس على حين غفلة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها. و الأناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مأخوذ من الإيناس و هو الأبصار لظهورها، أو من الأنس ضد الوحشة. و الآمنون: الغافلون عن مجيء المنايا، فهو مجاز مرسل.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 6
يا إله، و الإله- من أسماء الأجناس كالرجل و الفرس- اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، و كذلك السنة على عام القحط، و البيت على الكعبة، و الكتاب على كتاب سيبويه. و أما (الله) بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق، لم يطلق على غيره. و من هذا الاسم اشتق: تأله، و أله، و استأله. كما قيل:
استنوق، و استحجر، في الاشتقاق من الناقة و الحجر. فإن قلت: أ اسم هو أم صفة؟ قلت:
بل اسم غير صفة، ألا تراك تصفه و لا تصف به، لا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل.
و تقول: إله واحد صمد، كما تقول: رجل كريم خير. و أيضا فإنّ صفاته تعالى لا بدّ لها من موصوف تجرى عليه، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها و هذا محال. فإن قلت: هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت: معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدا معنى واحد، و صيغة هذا الاسم و صيغة قولهم: أله، إذا تحير، و من أخواته: دله، و عله، ينتظمهما معنى التحير و الدهشة، و ذلك أنّ الأوهام تتحير في معرفة المعبود و تدهش الفطن، و لذلك كثر الضلال، و فشا الباطل، و قل النظر الصحيح. فإن قلت: هل تفخم لامه؟ قلت: نعم قد ذكر الزجاج أنّ تفخيمها سنة، و على ذلك العرب كلهم، و إطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر.
و الرَّحْمنِ فعلان من رحم، كغضبان و سكران، من غضب و سكر، و كذلك الرحيم فعيل منه، كمريض و سقيم، من مرض و سقم، و في الرَّحْمنِ من المبالغة ما ليس في الرَّحِيمِ ، «1» و لذلك قالوا: رحمن الدنيا و الآخرة، و رحيم الدنيا، و يقولون: إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى.
و قال الزجاج في الغضبان: هو الممتلئ غضبا. و مما طنّ على أذنى من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشقدف، و هو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي، فقال: أ ليس ذاك اسمه الشقدف؟
قلت: بلى، فقال: هذا اسمه الشقنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى، و هو من الصفات الغالبة- كالدبران، و العيوق، و الصعق- لم يستعمل في غير اللَّه عزّ و جلّ، كما أنّ (الله) من الأسماء
(1). قال محمود: «و في الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم ... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: لا يتم الاستدلال بقصر البناء و طوله على نقصان المبالغة و تمامها، ألا ترى بعض صيغ المبالغة كفعل أحد الأمثلة أقصر من فاعل الذي لا مبالغة فيه البتة. و أما قولهم: رحمن الدنيا و الآخرة و رحيم الدنيا، فلا دلالة فيه أيضا على مبالغة رحمن بالنسبة إلى رحيم؛ فان حاصله أن الرحمة منه بالدلالة على إتمامها؛ ألا ترى أن ضاربا لما كان أعم من ضراب، كان ضراب أبلغ منه لخصوصه، فلا يلزم إذاً من خصوص رحيم أن يكون أقصر مبالغة من رحمن لعمومه.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 7
الغالبة. و أما قول بنى حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، و قول شاعرهم فيه:
و أَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا «1»
فباب من تعنتهم في كفرهم. فإن قلت: كيف تقول: اللَّه رحمن، أ تصرفه أم لا؟ «2» قلت: أقيسه على أخواته من بابه، أعنى نحو عطشان و غرثان و سكران، فلا أصرفه.
(1).
سموت بالمجد يا بن الأكرمين أبا
و أنت غيث الورى لا زلت رحمانا
لرجل من بنى حنيفة يمدح مسيلمة الكذاب، يقول: علوت بسبب المجد يا بن الأكرمين من جهة الأب، و ليس المراد خصوصه، بل مطلق الأصل، و لو كان المراد خصوصه لأشعر بالذم، و هو تمييز للأكرمين أو تمييز لسماوات، و أنت كالغيث للورى في كثرة النفع، و لا زلت رحمانا: دعا بدوامه رحيما عليهم؛ و رحمن خاص باللَّه فاطلاقه على غيره جهل أو عناد. و قيل: إن الخاص به المحلى بأل.
(2). قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «فان قلت كيف تقول اللَّه رحمن أ تصرفه أم لا ... الخ»؟ قال أحمد: ليت شعري بعد امتناع فعلانة و فعلى ما الذي عين قياسه على عطشان دون ندمان مع أن قياسه على ندمان معتضد بالأصل في الأسماء و هو الصرف؟ أقول: الذي عينه هو أن باب سكران و عطشان أكثر من باب ندمان، و إذا احتمل أن يكون من كل واحد منهما فحمله على ما هو الأكثر أولى؛ و لأنّ رحمن و عطشان مشتركان في عدم وجود فعلانة، بخلاف ندمان فلهذا كان حمله على عطشان أولى، ثم قال: و قد نقل غيره خلافا في صرف رحمن مجرداً من التعريف، و بناه على تعيين العلة في منع صرف عطشان هل هي وجود فعلى فيصرف رحمن، أو امتناع فعلانة فيمتنع الصرف؟ و هو أيضاً نظر قاصر. و أتم منهما أن يقال: امتنع صرف عطشان وفاقا و امتناع صرفه معلل بشبه زيادتيه بألفي التأنيث، و الشبه دائر على وجود فعلى و امتناع فعلانة؛ فاما أن يجعل الأمر ان وصفى شبه بهما مجموعهما مستقل، أو كل واحد منهما مستقلا ببيان الشبه، أو أحدهما دون الآخر على البدل؛ فهذه أربع احتمالات. فان كان مقتضى الشبه المجموع أو وجود فعلى خاصة انصرف رحمن، و إن كان كل واحد من الأمرين مستقلا أو الشبه بامتناع فعلانة خاصة منع رحمن من الصرف؛ فلم يبق إلا تعيين ما به حصل الشبه في عطشان بين زيادتيه و بين ألفى التأنيث من الاحتمالات الأربعة، و عليه ينبنى الصرف و عدمه. و التحقيق أن كل واحد من الأمرين المذكورين مستقل باقتضاء الشبه فيمتنع صرف رحمن لوجود إحدى العلتين المتعلقتين في الشبه و هي امتناع فعلانة على هذا التقدير؛ و إنما قلنا ذلك لأن امتناع فعلانة فيه حاصله امتناع دخول تاء التأنيث على زيادتيه كامتناع دخولهما على ألفى التأنيث فحصل الشبه بهذا الوجه.