کتابخانه تفاسیر
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل
الجزء الأول
سورة البقرة
سورة آل عمران
سورة النساء
سورة المائدة
الجزء الثاني
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
سورة يونس
سورة هود عليه السلام
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
سورة النحل
سورة الإسراء
سورة الكهف
الجزء الثالث
سورة مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبإ
سورة الملائكة
الجزء الرابع
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة المؤمن
سورة[فصلت، و تسمى] السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة التغابن
سورة الملك
سورة ن
سورة الحاقة
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المرسلات
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 5
و هو من الأسماء المحذوفة الأعجاز: كيد و دم، و أصله: سمو، بدليل تصريفه: كأسماء، و سمى، و سميت. و اشتقاقه من السمو، لأنّ التسمية تنويه بالمسمى و إشادة بذكره، و منه قيل للقب النبز: من النبز بمعنى النبر، و هو رفع الصوت. و النبز قشر النخلة الأعلى. فإن قلت: فلم حذفت الألف في الخط و أثبتت في قوله: باسم ربك؟ قلت: قد اتبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال، و قالوا: طولت الباء تعويضا من طرح الألف. و عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه: طوّل الباء و أظهر السنات و دوّر الميم. و (الله) أصله الإله. قال:
مَعَاذَ الالهِ أَنْ تَكُونَ كظَبْيَةٍ «1»
و نظيره: الناس، أصله الأناس. قال:
إنَّ المَنايَا يَطَّلِعْ
نَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا «2»
فحذفت الهمزة و عوّض منها حرف التعريف، و لذلك قيل في النداء: يا اللَّه بالقطع، كما يقال:
(1).
معاذ الاله أن تكون كظبية
و لا دمية و لا عقيلة ربرب
و لكنها زادت على الحسن كله
كمالا و من طيب على كل طيب
للبعيث بن حريث في محبوبته أم السلسبيل، يقال: عاذ عياذاً و عياذة و معاذاً و عوذاً، إذا التجأ إلى غيره، فالمعاذ مصدر نائب عن اللفظ بفعله، و الدمية: الصنم و الصورة من العاج و نحوه المنقوشة بالجواهر. و عقيلة كل شيء: أكرمه.
و الربرب: القطيع من بقر الوحش: شبه محبوبته بالظبية و بالدمية و بالعقلية في نفسه، ثم وجدها أحسن منها فرجع عن ذلك و التجأ إلى اللَّه منه كأنه أثم؛ أو المعنى لا أشبهها بذلك و إن وقع من الشعراء. و أتى بلا المؤكدة لما قبلها من معنى النفي أى ليست كظبية و لا دمية و لا عقيلة ربرب و لكنها زادت كمالا على الحسن المعروف كله، أو زادت على الحسن الحسى كمالا معنويا، و زادت من الطيب على كل طيب.
(2). شبه المنايا بأناس يبحثون عمن استحق الموت على طريق المكنية و الاطلاع تخييل. و المعنى: أن المنايا تأتى الناس على حين غفلة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها. و الأناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مأخوذ من الإيناس و هو الأبصار لظهورها، أو من الأنس ضد الوحشة. و الآمنون: الغافلون عن مجيء المنايا، فهو مجاز مرسل.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 6
يا إله، و الإله- من أسماء الأجناس كالرجل و الفرس- اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، و كذلك السنة على عام القحط، و البيت على الكعبة، و الكتاب على كتاب سيبويه. و أما (الله) بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق، لم يطلق على غيره. و من هذا الاسم اشتق: تأله، و أله، و استأله. كما قيل:
استنوق، و استحجر، في الاشتقاق من الناقة و الحجر. فإن قلت: أ اسم هو أم صفة؟ قلت:
بل اسم غير صفة، ألا تراك تصفه و لا تصف به، لا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل.
و تقول: إله واحد صمد، كما تقول: رجل كريم خير. و أيضا فإنّ صفاته تعالى لا بدّ لها من موصوف تجرى عليه، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها و هذا محال. فإن قلت: هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت: معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدا معنى واحد، و صيغة هذا الاسم و صيغة قولهم: أله، إذا تحير، و من أخواته: دله، و عله، ينتظمهما معنى التحير و الدهشة، و ذلك أنّ الأوهام تتحير في معرفة المعبود و تدهش الفطن، و لذلك كثر الضلال، و فشا الباطل، و قل النظر الصحيح. فإن قلت: هل تفخم لامه؟ قلت: نعم قد ذكر الزجاج أنّ تفخيمها سنة، و على ذلك العرب كلهم، و إطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر.
و الرَّحْمنِ فعلان من رحم، كغضبان و سكران، من غضب و سكر، و كذلك الرحيم فعيل منه، كمريض و سقيم، من مرض و سقم، و في الرَّحْمنِ من المبالغة ما ليس في الرَّحِيمِ ، «1» و لذلك قالوا: رحمن الدنيا و الآخرة، و رحيم الدنيا، و يقولون: إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى.
و قال الزجاج في الغضبان: هو الممتلئ غضبا. و مما طنّ على أذنى من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشقدف، و هو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي، فقال: أ ليس ذاك اسمه الشقدف؟
قلت: بلى، فقال: هذا اسمه الشقنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى، و هو من الصفات الغالبة- كالدبران، و العيوق، و الصعق- لم يستعمل في غير اللَّه عزّ و جلّ، كما أنّ (الله) من الأسماء
(1). قال محمود: «و في الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم ... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: لا يتم الاستدلال بقصر البناء و طوله على نقصان المبالغة و تمامها، ألا ترى بعض صيغ المبالغة كفعل أحد الأمثلة أقصر من فاعل الذي لا مبالغة فيه البتة. و أما قولهم: رحمن الدنيا و الآخرة و رحيم الدنيا، فلا دلالة فيه أيضا على مبالغة رحمن بالنسبة إلى رحيم؛ فان حاصله أن الرحمة منه بالدلالة على إتمامها؛ ألا ترى أن ضاربا لما كان أعم من ضراب، كان ضراب أبلغ منه لخصوصه، فلا يلزم إذاً من خصوص رحيم أن يكون أقصر مبالغة من رحمن لعمومه.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 7
الغالبة. و أما قول بنى حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، و قول شاعرهم فيه:
و أَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا «1»
فباب من تعنتهم في كفرهم. فإن قلت: كيف تقول: اللَّه رحمن، أ تصرفه أم لا؟ «2» قلت: أقيسه على أخواته من بابه، أعنى نحو عطشان و غرثان و سكران، فلا أصرفه.
(1).
سموت بالمجد يا بن الأكرمين أبا
و أنت غيث الورى لا زلت رحمانا
لرجل من بنى حنيفة يمدح مسيلمة الكذاب، يقول: علوت بسبب المجد يا بن الأكرمين من جهة الأب، و ليس المراد خصوصه، بل مطلق الأصل، و لو كان المراد خصوصه لأشعر بالذم، و هو تمييز للأكرمين أو تمييز لسماوات، و أنت كالغيث للورى في كثرة النفع، و لا زلت رحمانا: دعا بدوامه رحيما عليهم؛ و رحمن خاص باللَّه فاطلاقه على غيره جهل أو عناد. و قيل: إن الخاص به المحلى بأل.
(2). قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «فان قلت كيف تقول اللَّه رحمن أ تصرفه أم لا ... الخ»؟ قال أحمد: ليت شعري بعد امتناع فعلانة و فعلى ما الذي عين قياسه على عطشان دون ندمان مع أن قياسه على ندمان معتضد بالأصل في الأسماء و هو الصرف؟ أقول: الذي عينه هو أن باب سكران و عطشان أكثر من باب ندمان، و إذا احتمل أن يكون من كل واحد منهما فحمله على ما هو الأكثر أولى؛ و لأنّ رحمن و عطشان مشتركان في عدم وجود فعلانة، بخلاف ندمان فلهذا كان حمله على عطشان أولى، ثم قال: و قد نقل غيره خلافا في صرف رحمن مجرداً من التعريف، و بناه على تعيين العلة في منع صرف عطشان هل هي وجود فعلى فيصرف رحمن، أو امتناع فعلانة فيمتنع الصرف؟ و هو أيضاً نظر قاصر. و أتم منهما أن يقال: امتنع صرف عطشان وفاقا و امتناع صرفه معلل بشبه زيادتيه بألفي التأنيث، و الشبه دائر على وجود فعلى و امتناع فعلانة؛ فاما أن يجعل الأمر ان وصفى شبه بهما مجموعهما مستقل، أو كل واحد منهما مستقلا ببيان الشبه، أو أحدهما دون الآخر على البدل؛ فهذه أربع احتمالات. فان كان مقتضى الشبه المجموع أو وجود فعلى خاصة انصرف رحمن، و إن كان كل واحد من الأمرين مستقلا أو الشبه بامتناع فعلانة خاصة منع رحمن من الصرف؛ فلم يبق إلا تعيين ما به حصل الشبه في عطشان بين زيادتيه و بين ألفى التأنيث من الاحتمالات الأربعة، و عليه ينبنى الصرف و عدمه. و التحقيق أن كل واحد من الأمرين المذكورين مستقل باقتضاء الشبه فيمتنع صرف رحمن لوجود إحدى العلتين المتعلقتين في الشبه و هي امتناع فعلانة على هذا التقدير؛ و إنما قلنا ذلك لأن امتناع فعلانة فيه حاصله امتناع دخول تاء التأنيث على زيادتيه كامتناع دخولهما على ألفى التأنيث فحصل الشبه بهذا الوجه.
و وجود فعلى يحقق أن مذكره مختص ببناء و مؤنثه مختص ببناء آخر، فيشبه أفعل و فعلى في اختصاص كل واحد منهما ببناء غير الآخر، فهذا وجه آخر من الشبه. و من تأمل كلام سيبويه فهم منه ما قررته. فان قيل: محصل ذلك مناسبة كل واحد من الأمرين المذكورين لاقتضاء الشبه، فما الذي دل على استقلال كل واحد منهما علة في الشبه؟ و هلا كان المجموع علة و حينئذ ينصرف رحمن و هو أحد الاحتمالات الأربعة المتقدمة؟ قلت: امتناع صرف عمران العلم يدل علي استقلال كل واحد من الأمرين بالشبه المانع من الصرف؛ إذ عمران علما لا فعلى له و هو غير منصرف وفاقا. أقول: قد عثر هاهنا رحمه اللَّه و إن الجواد قد يعثر لأن اعتبار وجود فعلي أو انتفاء فعلانة إنما كان في الصفة، أما في الاسم فشرطه العلمية لا وجود فعلى و لا انتفاء فعلانة.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 8
فإن قلت: قد شرط في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى و اختصاصه باللَّه يحظر أن يكون فعلان فعلى، فلم تمنعه الصرف؟ قلت: كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى كعطشى فقد حظر أن يكون له مؤنث على فعلانة كندمانة، فإذاً لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص و هو القياس على نظائره.
فإن قلت: ما معنى وصف اللَّه تعالى بالرّحمة «1» و معناها العطف و الحنوّ و منها الرحم لانعطافها على ما فيها؟ قلت: هو مجاز عن إنعامه على عباده؛ لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه و إنعامه، كما أنه إذا أدركته الفظاظة و القسوة عنف بهم و منعهم خيره و معروفه. فإن قلت: فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه، «2» و القياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم: فلان عالم نحرير، و شجاع باسل، وجودا فياض؟ قلت: لما قال الرَّحْمنِ فتناول جلائل النعم و عظائمها و أصولها، أردفه الرَّحِيمِ كالتتمة و الرديف ليتناول ما دقّ منها و لطف.
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 3]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)
الحمد و المدح أخوان، و هو الثناء و النداء على الجميل من نعمة و غيرها. تقول: حمدت الرجل على إنعامه، و حمدته على حسبه و شجاعته.
و أمّا الشكر فعلى النعمة خاصة و هو بالقلب و اللسان و الجوارح قال:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّى ثلاثةً
يَدِي و لِسَانِى و الضَّمِيرَ المُحَجَّبَا «3»
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: ما معنى وصف اللَّه تعالى بالرحمة ... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه: فالرحمة على هذا من صفات الأفعال و لك أن تفسرها بارادة الخير فيرجع إلى صفات الذات و كلا الأمرين قال به الأشعرية في الرحمة و أمثالها مما لا يصح إطلاقه باعتبار حقيقته اللغوية على اللَّه تعالى؛ فمنهم من صرفه إلى صفة الذات، و منهم من صرفه إلى صفة الفعل.
(2). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه ... إلخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه: إنما كان القياس تقديم أدنى الوصفين؛ لأن في تقديم أعلاهما ثم الارداف بأدناهما نوعا من التكرار؛ إذ يلزم من حصول الأبلغ حصول الأدنى؛ فذكره بعده غير مفيد و لا كذلك العكس؛ فانه ترق من الأدنى إلى مزيد بمزية الأعلى لم يتقدم ما يستلزمه، و لذلك كان هذا الترتيب خاصاً بالاثبات. و أما النفي فعلى عكسه تقدم فيه الأعلى. تقول: ما فلان تحريراً و لا عالما، و لو عكست لوقعت في التكرار؛ إذ يلزم من نفى الأدنى عنه نفى الأعلى و كل ذلك مستمده في عموم الأدنى و خصوص الأبلغ، و إثبات الأخص يستلزم ثبوت الأعم، و نفى الأعم يستلزم نفى الأخص.
(3).
و ما كان شكرى وافيا بنوالكم
و لكنني حاولت في الجهد مذهبا
أفادتكم النعماء منى ثلاثة
يدي و لساني و الضمير المحجبا
أى لم يكن تعظيمي إياكم وافيا بحق عطائكم، و لكنني أردت من الاجتهاد في تعظيمكم مذهبا، و بينه بقوله: إن نعمتكم على إفادتكم من يدي و لساني و جناني، فهي و أعمالها لكم، قال السيد الشريف: هو استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة، و بيان أنه جعلها جزاء للنعمة، و كل ما هو جزاء للنعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة، فكأنه قال: كثرت نعمتكم عندي فوجب على استيفاء أنواع الشكر لكم، و بالغ في ذلك حتى جعل مواردها ملكا لهم، و قيل: النعماء جمع للنعمة، لكن ظاهر عبارة اليد أنها بمعناها، و رواية البيت الأول بعد الثاني أحسن موقعا و أظهر استشهاداً.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 9
و الحمد باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر، و منه قوله عليه السلام: «الحمد رأس الشكر، ما شكر اللَّه عبد لم يحمده» «1» و إنما جعله رأس الشكر؛ لأنّ ذكر النعمة باللسان و الثناء على موليها، أشيع لها و أدلّ على مكانها من الاعتقاد و آداب الجوارح لخفاء عمل القلب، و ما في عمل الجوارح من الاحتمال، بخلاف عمل اللسان و هو النطق الذي يفصح عن كلّ خفى و يجلى كل مشتبه.
و الحمد نقيضه الذمّ، و الشكر نقيضه الكفران، و ارتفاع الحمد بالابتداء و خبره الظرف الذي هو للَّه و أصله النصب «2» الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار، كقولهم: شكراً، و كفراً، و عجباً، و ما أشبه ذلك، و منها: سبحانك، و معاذ اللَّه، ينزلونها منزلة أفعالها و يسدّون بها مسدّها، لذلك لا يستعملونها معها و يجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة، و العدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى و استقراره. و منه قوله تعالى: (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)* ، رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم؛ لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدّده و حدوثه. و المعنى: نحمد اللَّه حمداً، و لذلك قيل:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ لأنه بيان لحمدهم له، كأنه قيل: كيف تحمدون؟ فقيل: إياك نعبد. فإن قلت:
ما معنى التعريف فيه؟ قلت: هو نحو التعريف في أرسلها العراك، «3» و هو تعريف الجنس،
(1). أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد اللَّه بن عمرو رضى اللَّه عنهما به مرفوعا، و فيه انقطاع؛ و عن ابن عباس مثله، رواه البغوي في تفسير (سبحان) و فيه نصر بن حماد. و هو ضعيف.
(2). قال محمود رحمه اللَّه: «الأصل في الحمد النصب ... الخ» قال أحمد: و لأن الرفع أثبت اختار سيبويه في قول القائل: رأيت زيداً فإذا له علم علم الفقهاء: الرفع، و في مثل: رأيت زيداً فإذا له صوت صوت حمار: النصب، و السر في الفرق بين الرفع و النصب أن في النصب إشعاراً بالفعل، و في صيغة الفعل إشعار بالتجدد و الطرو، و لا كذلك الرفع، فانه إنما يستدعى اسما: ذلك الاسم صفة ثابتة، ألا ترى أن المقدر مع النصب نحمد اللَّه الحمد. و مع الرفع الحمد ثابت للَّه أو مستقر.
(3). قال محمود رحمه اللَّه: «و تعريف الحمد نحو التعريف في أرسلها العراك و هو تعريف الجنس و معناه الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: تعريف التكرار باللام إما عهدى و إما جنسى، و العهد إما أن ينصرف العهد فيه إلى فرد معين من أفراد الجنس باعتبار يميزه عن غيره من الأفراد كالتعريف في نحو (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ، و إما أن ينصرف العهد فيه الى الماهية باعتبار يميزها عن غيرها من الماهيات كالتعريف في نحو «أكلت الخبز، و شربت الماء»، و الجنسي هو الذي ينضم إليه شمول الآحاد، نحو: الرجل أفضل من المرأة، و كلا نوعي العهد لا يوجب استغراقها، و إنما يوجبه الجنسي خاصة؛ فالزمخشرى جعل تعريف الحمد من النوع الثاني من نوعي العهد، و إن كان قد عبر عنه بتعريف الجنس؛ لعدم اعتنائه باصطلاح أصول الفقه. و غير الزمخشري جعله للجنس فقضى بافادته، لاستغراق جميع أنواع الحمد و ليس ببعيد.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 10
و معناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو، و العراك ما هو، من بين أجناس الأفعال. و الاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس و هم منهم. و قرأ الحسن البصري: (الحمد للَّه) بكسر الدال لإتباعها اللام. و قرأ إبراهيم بن أبى عبلة: (الحمد للَّه) بضم اللام لإتباعها الدال، و الذي جسرهما على ذلك- و الإتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل و مغيرة- تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين، و أشف القراءتين قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى، بخلاف قراءة الحسن.
الرب: المالك. و منه قول صفوان لأبى سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلىّ من أن يربني رجل من هوازن «1» . تقول: ربه يربه فهو رب، كما تقول: نمّ عليه ينمّ فهو نمّ.
و يجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، و لم يطلقوا الرب إلا في اللَّه وحده، و هو في غيره على التقيد بالإضافة، كقولهم: رب الدار، و رب الناقة، و قوله تعالى: (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) ، (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) . و قرأ زيد بن على رضى اللَّه عنهما: (رب العالمين) بالنصب على المدح، و قيل بما دل عليه الْحَمْدُ لِلَّهِ ، كأنه قيل: نحمد اللَّه رب العالمين.
العالم: اسم لذوي العلم من الملائكة و الثقلين، «2» و قيل: كل ما علم به الخالق من الأجسام
(1). موقوف. قال ابن إسحاق في المغازي: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد اللَّه عن أبيه في قصة حنين. و فيه قول صفوان هذا. و من طريقه أخرجه ابن حبان في صحيحه. و البيهقي في الدلائل. و رواه جويرية عن مالك عن الزهري مرسلا. و أخرجه الدارقطني في الغرائب.
(تنبيه) وقع فيه أن صفوان قال ذلك لأبى سفيان. و الذي في مرسل الزهري أنه قال لابن أخيه. و الذي في المغازي: أنه قال لأخيه ابن أمه كلدة. و أخرجه أبو يعلى من طريق ابن إسحاق.
(2). قال محمود رحمه اللَّه: «العالم اسم لذوي العلم من الملائكة ... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: تعليله الجمع بافادة استغراقه لكل جنس تحته فيه نظر؛ فان «عالما» كما قرره: اسم جنس عرف باللام الجنسية، فصار العالم- و هو مفرد- أدل على الاستغراق منه جمعاً. قال إمام الحرمين رحمه اللَّه: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور؛ فان التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظية، و التمور ترده إلى تخيل الوجدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، و في صيغة الجمع مضطرب. انتهي كلامه. و التحقيق في هذا و في كل ما يجمع من أسماء الأجناس ثم يعرف تعريف الجنس: أنه يفيد أمرين: أحدهما أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة. و الآخر أنه مستغرق لجميع ما تحته منها؛ لكن المفيد لاختلاف الأنواع الجمع، و المفيد لاستغراق جميعها التعريف؛ ألا ترى أنه إذا جمع مجردا من التعريف دل على اختلاف الأنواع، ثم إذا عرف أفاد استغراقا غير موقوف على الجمعية، إذ هذا حكم مفرده إذا عرف؛ فقول الزمخشري اذاً «إن فائدة جمع العالمين الاستغراق» مردود بثبوت هذه الفائدة و إن لم يجمع؛ و قول إمام الحرمين «إن الجمع يؤيد الاشعار بالاستغراق لما نتخيله من الرد إلى الوجدان» مرود بأن فائدة الجمع الاشعار باختلاف الأنواع، و اختلافها لا ينافي استغراقها بصيغة المفرد المقر من تعريف الجنس، و إن أراد أن الجمع يخيل الاشارة إلى أنواع محله معهودة فهذا الخيال يعينه من المفرد، فالعالم إذاً جمع ليفيد اختلاف الأنواع المندرجة تحته من الجن و الانس و الملائكة، و عرف ليفيد عموم الربوبية للَّه تعالى في كل أنواعه؛ و توضيح هذا التقرير: أنا لو فرضنا جنساً ليس تحته إلا آحاد متساوية و هو الذي يسميه غير النحاة النوع الأسفل، لما جاز جمع هذا بحال، لا معرفا و لا منكراً، و بهذا الفائدة يرد قول إمام الحرمين «إن التمور جمع من حيث اللفظ» لا معنى تحته لجمع الجمع في نحو نوق و نياق و أنيق؛ و أما تعليل الزمخشري جمعه بالواو و النون باشعاره لصفة العلم فيلحق بصفات من يعقل، فصحيح إذا بنى الأمر على أنه لا يتناول إلا أولى العلم: و أما على القول بأنه اسم لكل موجود سوى اللَّه، فيحتاج إلى مزيد نظر في تغليب العاقل في الجمع على غير العاقل
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 11
و الأعراض. فإن قلت: لم جمع؟ قلت: ليشمل كل جنس مما سمى به. فإن قلت: هو اسم غير صفة، و إنما تجمع بالواو و النون صفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام.
قلت: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه و هي الدلالة على معنى العلم.
[سورة الفاتحة (1): آية 4]