کتابخانه تفاسیر
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 16
صراط المسلمين؛ ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه و آكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس و أفضلهم؟ فلان؛ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم و الفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملا أوّلا، و مفصلا ثانيا، و أوقعت فلانا تفسيراً و إيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم و الفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع و لا منازع. و الذين أنعمت عليهم: هم المؤمنون، و أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام؛ «1» لأنّ من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته و اشتملت عليه. و عن ابن عباس: هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا، و قيل هم الأنبياء. و قرأ ابن مسعود: (صراط من أنعمت عليهم) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى أنّ المنعم عليهم: هم الذين سلموا من غضب اللَّه و الضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة و هي نعمة الإيمان، و بين السلامة من غضب اللَّه و الضلال. فإن قلت: كيف صح أن يقع (غير) صفة للمعرفة و هو لا يتعرّف و إن أضيف إلى المعارف؟ قلت: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لا توقيت فيه كقوله:
وَ لَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنى «2»
(1). قال محمود رحمه اللَّه: و أطلق الانعام ليشمل كل إنعام. قال أحمد رحمه اللَّه: إن إطلاق الانعام يفيد الشمول كقوله:
إن إطلاق الاستعانة يتناول كل مستعان فيه، و ليس بمسلم فان الفعل لا عموم لمصدره، و التحقيق أن الإطلاق إنما يقتضى إبهاما و شيوعا، و النفس إلى المبهم أشوق منها إلى المقيد لتعلق الأمل مع الإبهام لكل نعمة تخطر بالبال
(2).
و لقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمة قلت لا يعنيني
غضبان ممتلئ على إهابه
إنى و ربك سخطه يرضيني
لرجل من بنى سلول، و يسبني صفة للئيم و إن قرن بأل، لأنه ليس المراد لئيما بعينه بدليل مقام التمدح فأل فيه للعهد الذهني لا الخارجي، و مدخولها في المعنى كالنكرة، فجاز وصفه بالجملة و إن كانت لا يوصف بها إلا النكرة، و هذا يفيد اتصافه بالسب دائما لا حال المرور فقط و هو المراد، و كان الظاهر أن يقول: فأمضى ثم أقول، و لكن أتى بالماضي دلالة على تحقق ذلك منه، و روى: فأعف ثم أقول: أى أكف عنه و عن مكافأته، و يحتمل أنه أراد صررت على صبغه الماضي بالمضارع لحكايه الحال، هذا و الظاهر أن الجملة حالية، أى: أمر على اللئيم حال كونه يسبني و أنا أسمع فأعرض عنه و أقول إنه لا يقصدني بذلك السب الذي سمعته منه، و ليس المراد وصفه بالسب الدائم، لأنه لا يظهر مع تخصيص السب بوقوعه على ضمير المار، على أنه يمكن جعل الحال لازمة فتفيد الدوام. هو غضبان ممتلئ جلده غضبا على لكن لا أبالى بذلك، فانى و حق ربك غضبه يرضيني، فليدم عليه و ليزدد منه، و الإهاب: الجلد قبل دبغه بل و قبل سلخه كما هنا.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 17
و لأنّ المغضوب عليهم و الضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في- غير- إذاً الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف، و قرئ بالنصب على الحال و هي قراءة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم و عمر بن الخطاب، و رويت عن ابن كثير. و ذو الحال الضمير في عليهم، و العامل أنعمت، و قيل المغضوب عليهم: هم اليهود؛ لقوله عز و جل: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ) . و الضالون:
هم النصارى؛ لقوله تعالى: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) . فإن قلت: ما معنى غضب اللَّه؟ قلت: هو إرادة الانتقام «1» من العصاة، و إنزال العقوبة بهم، و أن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده- نعوذ باللَّه من غضبه، و نسأله رضاه و رحمته. فإن قلت: أى فرق بين (عليهم) الأولى و (عليهم) الثانية؟ قلت: الأولى محلها النصب على المفعولية، و الثانية محلها الرفع على الفاعلية.
فإن قلت: لم دخلت لَا في وَ لَا الضَّالِّينَ ؟ قلت: لما في- غير- من معنى النفي، كأنه قيل:
لا المغضوب عليهم و لا الضالين. و تقول: أنا زيداً غير ضارب، مع امتناع قولك: أنا زيداً مثل ضارب؛ لأنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب. و عن عمر و على رضى اللَّه عنهما أنهما قرءا: و غير الضالين. و قرأ أيوب السختياني: و لا الضألين- بالهمز، كما قرأ عمرو بن عبيد: (و لا جأن) و هذه لغة من جدّ في الهرب من التقاء الساكنين. و منها ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأبة، و دأبة.
آمين: صوت سمى به الفعل الذي هو استجب، كما أنّ «رويد، و حيهل، و هلم» أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل، و أسرع، و أقبل». و عن ابن عباس: سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم عن معنى آمين «2» فقال: «افعل» و فيه لغتان: مدّ ألفه، و قصرها. قال:
وَ يَرْحَمُ اللَّهُ عَبْداً قالَ آمِينَا «3»
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «و معنى الغضب من اللَّه تعالى إرادة الانتقام ... الخ» قال أحمد: أدرج في هذا ما يقتضى عنده وجوب وعيد العصاة، و ليس مذهب أهل السنة، بل الأمر عندهم في المؤمن العاصي موكول إلى المشيئة: فمنهم من أراد اللَّه تعالى عقوبته و الانتقام منه فيقع ذلك لا محالة، و منهم من أراد العفو عنه و إثابته فضلا منه تعالى، على أن المغضوب عليهم و الضالين واقعان على الكفار، و وعيدهم واقع لا محالة و مراد، و اللَّه الموفق. أقول: قال الزمخشري رحمه اللَّه: الغضب من اللَّه تعالى إرادة الانتقام من العصاة الخ لا يدل على ما فسره، فان وجوب وعيد العصاة لا يعلم منه.
و الغضب من اللَّه عند أهل السنة و المعتزلة: عبارة عما ذكره الزمخشري رحمه اللَّه، إلا أن عند أهل السنة أن اللَّه تعالى إن شاء عذب صاحب الكبيرة و إن شاء غفر له، و عند المعتزلة وجوب عذابه؛ فعند المعتزلة ظاهر أن الغضب عبارة عن إرادة الانتقام، و عند أهل السنة: إن غفر له فلا غضب، و إن لم يغفر له فغضبه عبارة عما ذكره.
(2). أخرجه الثعلبي من رواية أبى صالح عنه بإسناد و اه
(3).
يا رب إنك ذو من و مغفرة
ببت بعافية ليل المحبينا
الذاكرين الهوى من بعد ما رقدوا
الساقطين على الأيدى المكبينا
يا رب لا تسلبنى حبها أبداً
و يرحم اللَّه عبداً قال آمينا
لقيس بن معاذ الملوح مجنون لبلى العامرية، اشتد وجده بها، فأخذه أبوه إلى الكعبة ليدعو اللَّه عسى أن يشفيه، فأخذ بحلقة بابها و قال ذلك. و الدعاء لليل المحبين مجاز عقلى، و هو في الحقيقة لهم، و بين أن رقادهم ليس على المعتاد بقوله: الساقطين على الأيدى، المكيين على الوجوه حيرة و سكرة، ثم دعا بأن يديم اللَّه حبها، و دعا لمن يؤمن على دعائه بأن يقول: آمين، و هو اسم فعل، أى استجب يا اللَّه هذا الدعاء، و هو بالمد، و يجوز قصره.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 18
و قال:
أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ ما بَيْننَا بُعْدَا «1»
و عن النبي صلى اللَّه عليه و سلم: «لقني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب «2» و قال: إنه كالختم على الكتاب»، و ليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف.
و عن الحسن: لا يقولها الإمام لأنه الداعي. و عن أبى حنيفة رحمه اللَّه مثله، و المشهور عنه و عن أصحابه أنه يخفيها. و روى الإخفاء عبد اللَّه بن مغفل و أنس عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم «3» . و عند الشافعي يجهر بها. و عن وائل بن حجر أنّ النبي صلى اللَّه عليه و سلم كان إذا قرأ: و لا الضالين، قال آمين و رفع بها صوته «4» . و عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم «5»
(1).
تباعد عنى فطحل إذ دعوته
أمين فزاد اللَّه ما بيننا بعدا
لجبير كان قد سأل فطحلا الأسدى فأعرض عنه فدعا عليه، و يروى تباعد منى فطحل و أبى، و أمين: بقصر الهمزة على اللغة العربية الأصلية، و أما بالمد فقيل أعجمي؛ لأنه ليس في لغة العرب فاعيل. و قيل: أصله بالقصر فأشبعت همزته: اسم فعل بمعنى استجب، و رتبته بعد ما بعده. قدمه حرصا على طلب الاجابة و وقوع الدعاء مجابا من أول وهلة. و الفاء للسببية عما قبلها، أى: حيثما تباعد عنى فزد ما بيننا بعداً يا اللَّه، و بعداً: يجوز أن يكون تمييزاً، و أن يكون منقولا.
(2). لم أجده هكذا. و في الدعاء لابن أبى شيبة من رواية أبى ميسرة أحد كبار التابعين قال: «أقرأ جبريل عليه السلام النبي صلى اللَّه عليه و سلم فاتحة الكتاب فلما قال وَ لَا الضَّالِّينَ قال له قل: آمين. فقال آمين» قلت و عند أبى داود عن أبى زهير قال «آمين مثل الطابع على الصحيفة» و روى ابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا «آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين» و هو في الدعاء للطبراني
(3). لم أجده عن واحد منهما
(4). أخرجه أبو داود من رواية حجر بن عنبسة عنه. و إسناده حسن
(5). قوله: و عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم: اعلم أن صاحب الكتاب التزم أن يذكر آخر كل سورة حديثا لبيان فضلها، و لكن ليست كلها صحيحة فقد قال الجلال السيوطي: اعلم أن السور التي صحت الأحاديث في فضلها:
الفاتحة، و الزهراوان، و الأنعام، و السبع الطوال مجملا، و الكهف، و يس، و الدخان، و الملك، و الزلزلة، و النصر، و الكافرون. و الإخلاص، و المعوذتان. و ما عداها لم يصح فيه شيء اه. و الزهراوان: البقرة، و آل عمران.
و السبع الطوال: من أول البقرة إلى آخر براءة- بعدها مع الأنفال سورة واحدة- قاله الأجهورى على البيقونية في مصطلح الحديث. (ع)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 19
أنه قال لأبىّ بن كعب: «ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة و الإنجيل و القرآن مثلها؟ «1» قلت: بلى يا رسول اللَّه. قال: «فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته» و عن حذيفة بن اليمان أنّ النبي صلى اللَّه عليه و سلم قال: «إنّ القوم ليبعث اللَّه عليهم العذاب حتما مقضيا «2» فيقرأ صبّى من صبيانهم في الكتاب (الحمد للَّه رب العالمين) فيسمعه اللَّه تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة»
سورة البقرة
مدنية، و هي مائتان و ست و ثمانون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم اعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فقولك- ضاد- اسم سمى به «ضه» من ضرب إذا تهجيته، و كذلك: را، با: اسمان لقولك:
ره، به؛ و قد روعيت في هذه التسمية لطيفة، و هي أن المسميات لما كانت ألفاظا كأساميها و هي حروف وحدان و الأسامى عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية
(1). أخرجه الترمذي و النسائي و الحاكم من رواية عبد الحميد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة. و رواه مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن: أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبره «أن النبي صلى اللَّه عليه و سلم نادى أبى بن كعب- فذكره» و هو مرسل؛ لأن أبا سعيد هذا تابعي. و هذا الحديث قد أخرجه البخاري من وجه آخر عن أبى سعيد بن المعلى «أن النبي صلى اللَّه عليه و سلم مر به و هو يصلى، فدعاه- فذكر الحديث» و وهم صاحب جامع الأصول فجعلهما واحدا فأخطأ. لأن الأول مكي مولى تابعي. و الثاني أنصارى مدنى من أنفسهم. صحابى. قال البيهقي: يحتمل أن يكون ذلك صدر منه صلى اللَّه عليه و سلم لأبى بن كعب مرة، و لسعيد بن المعلى مرة أخرى
(2). أخرجه الثعلبي من رواية أبى معاوية عن أبى مالك الأشجعى عن ربعي عنه. قلت: إلا أن دون أبى معاوية من لا يحتج به. و له شاهد في مسند الدارمي عن ثابت بن عجلان قال «كان يقال إن اللَّه ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان بالحكمة صرف ذلك عنهم» يعنى بالحكمة: القرآن، و حديث أبى بن كعب رضى اللَّه عنه في فضائل القرآن سورة سورة. أخرجه الثعلبي من طرق عن أبى بن كعب رضى اللَّه عنه كلها ساقطة. و أخرجه ابن مردويه من طريقين. و أخرجه الواحدي في الوسيط. و له قصة ذكرها الخطيب ثم ابن الصلاح عمن اعترف بوضعه. و لهذا روى عن أبى عصمة أنه وضعه.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 20
على المسمى فلم يغفلوها، و جعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها؛ لأنه لا يكون إلا ساكنا. و مما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى: التهليل، و الحولقة، و الحيعلة، و البسملة؛ و حكمها- ما لم تلهها العوامل- أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال: واحد اثنان ثلاثة؛ فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب. تقول: هذه ألف، و كتبت ألفاً، و نظرت إلى ألف؛ و هكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها، فحقك أن تلفظ به موقوفا. ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناسا مختلفة ليرفع حسبانها، كيف تصنع و كيف تلقيها أغفالا من سمة الإعراب؟ فتقول: دار، غلام، جارية، ثوب، بساط. و لو أعربت ركبت شططا. فإن قلت: لم قضيت لهذه الألفاظ بالاسمية؟ و هلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدّمين؟ قلت: قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح، و قد وجدناهم متسامحين في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف و غيرها بالحروف، مستعملين الحرف في معنى الكلمة، و ذلك أن قولك: «ألف» دلالته على أوسط حروف «قال، و قام» دلالة «فرس» على الحيوان المخصوص، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين. ألا ترى أنّ الحرف: ما دلّ على معنى في غيره، و هذا كما ترى دال على معنى في نفسه؛ و لأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك: با، تا. و بالتفخيم كقولك: يا، ها. و بالتعريف، و التنكير، و الجمع و التصغير، و الوصف، و الإسناد، و الإضافة، و جميع ما للأسماء المتصرفة. ثم إنى عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك. قال سيبويه: قال الخليل يوما- و سأل أصحابه-: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف «1» التي في لك، و الباء التي في ضرب؟ فقيل: نقول: باء، كاف؛ فقال: إنما جئتم بالاسم، و لم تلفظوا بالحرف، و قال: أقول: كه، به. و ذكر أبو على في كتاب الحجة في: (يس): و إمالة يا، أنهم قالوا: يا زيد، في النداء؛ فأمالوا و إن كان حرفا، قال: فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يس أجدر.
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «و قد سأل الخليل أصحابه كيف ينطقون بالكاف ... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه:
و سألهم أيضا كيف ينطقون بالقاف من يقبل؟ فقالوا: قاف، كقولهم الأول، فأجابهم كجوابه الأول و قال: أما أنا فأقول: اقه، فألحق رضى اللَّه عنه أولا هاء السكت؛ لأن الحرف المنطوق به متحرك، و ثانيا همزة الوصل؛ لأنه ساكن.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 21
ألا ترى أنّ هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت: من أى قبيل هي من الأسماء، أ معربة أم مبنية؟ قلت: بل هي أسماء معربة، و إنما سكنت سكون زيد و عمرو و غيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضية و موجبه. و الدليل على أنّ سكونها وقف و ليس ببناء:
أنها لو بنيت لحذى بها حذو: كيف، و أين، و هؤلاء. و لم يقل: ص، ق، ن مجموعا فيها بين الساكنين. فإن قلت: فلم لفظ المتهجى بما آخره ألف منها مقصورا، فلما أعرب مدّ فقال هذه باء، و ياء، و هاء؛ و ذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا» مقصورة؛ فإذا جعلتها اسما مددت فقلت: كتبت لاء؟ قلت: هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل؛ و السبب في أن قصرت متهجاة، و مدّت حين مسها الإعراب: أنّ حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز، و استعمالها فيه أكثر. فإن قلت: قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم، و أنها من قبيل المعربة، و أن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت:
فيه أوجه: أحدها و عليه إطباق الأكثر: أنها أسماء السور. و قد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب «باب أسماء السور» و هي في ذلك على ضربين:
أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب، نحو: كهيعص، و المر. و الثاني: ما يتأتى فيه الإعراب، و هو إما أن يكون اسما فردا كص و ق و ن، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد ك «حم و طس و يس؛» فإنها موازنة لقابيل و هابيل، و كذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها، و تصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسماء واحد؛ كدارابجرد؛ فالنوع الأول محكي ليس إلا؛ و أما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران: الإعراب، و الحكاية؛ قال قاتل محمد بن طلحة السجاد و هو شريح ابن أوفى العبسي «1»
(1). قوله «قال قاتل محمد بن طلحة ... الخ» هكذا نسبه البخاري لشريح في تفسير غافر. و لفظه: و يقال إن (حم) اسم. لقول شريح بن أبى أوفى، فذكره. و نسب ذلك لغير شريح، ففي الطبقات لابن سعد و المستدرك للحاكم من رواية الواقدي عن محمد بن الضحاك بن عثمان عن أبيه قال: كان محمد بن طلحة يوم الجمل مع أبيه، فنهى على رضى اللَّه عنه عن قتله و قال: من رأى صاحب البرنس الأسود فلا يقتله- يعنيه- فقتله رجل من بنى أسد بن خزيمة يقال له: طلحة بن مدلج، و قيل: شداد بن معاوية العبسي. و قيل عصام بن متشعر و عليه الأكثر. و هو الذي يقول في قتله. فذكره. قلت: و هو من جملة أبيات. أولها:
و أشعث قوام بآيات ربه
قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 22
يُذَكِّرُنِى حَامِيمَ وَ الرُّمْحُ شَاجِرٌ
فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ «1»
فأعرب حاميم و منعها الصرف، و هكذا كل ما أعرب من أخواتها؛ لاجتماع سببى منع الصرف فيها، و هما: العلمية، و التأنيث. و الحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى. كقولك: دعني من تمرتان، و بدأت بالحمد للَّه، و قرأت سورة أنزلناها. قال:
وَجَدْنا في كِتَابِ بَنى تَمِيم
أَحَقُّ الْخَيْلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ «2»
(1).
و أشعث قوام بآيات ربه
قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
شككت له بالرمح جيب قميصه
فخر صريعاً لليدين و للفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا
عليا و من لا يتبع الحق يظلم
يذكرني حاميم و الرمح شاجر
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
لشريح بن أوفى العبسي يوم الجمل، حين أمر أبو طلحة محمد بن طلحة أن يبرز للقتال، و كان من قرابة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم، فكان كلما حمل عليه رجل قال: نشدتك بحم لما فيها من آية (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) حتى حمل عليه العبسي فقتله و أنشأ يقول: و رب أشعث من أثر العبادة كثير القيام و العمل بآيات ربه، أو القيام في الليل بتلاوتها، قليل الأذى، و روى الكرى: أى النوم، و روى القذى: و هو ما يتساقط في العين فيغمضها: كنى بقلته عن قلة النوم فيما ترى العين: أى في رأى العين، شككت: أى خرقت له بالرمح جيب: أى طوق قميصه، كناية عن طعنه به في صدره أو من خلفه حتى نفذ من صدره، أو نظمت و ربطت جيب قميصه بصدره فسقط مطروحا على يديه و وجهه. و عبر بالفم مبالغة في التنكيل؛ و لأنه أول ما يلقى الأرض من الوجه، و ذلك بلا سبب غير أنه ليس تابعاً لعلى بن أبى طالب، و هكذا حال كل من لا يتبع الحق، و هو أنه يعاقب و يهان. يذكرني حاميم، و الحال أن رمحي مختلط في ثيابه و أضلاعه. و قيل المعنى: و الحال أن الرماح مختلطة و الحرب قائمة، و قوله فهلا، فيه نوع توبيخ: أى كان من حقه أن يذكرني بها قبل التقدم للحرب.
(2).
وجدنا في كتاب بنى تميم
أحق الخيل بالركض المعار
يضمر بالأصائل فهو نهد
أقب مقلص فيه اقورار
كأن سراته و الخيل شعث
غداة و جيفها مسد مغار
كأن حفيف منخره إذا ما
كتمن الربو كير مستعار
لبشر بن أبى خازم الأسدى، و قيل للطرماح. و الركض: ضرب الراكب دابته برجله، و عار الفرس: ذهب هاهنا و هاهنا مرحا عند انفلاته، و أعاره صاحبه فهو معار. قال أبو عبيدة: و الناس يرونه أى يظنون المعار من العارية و هو خطأ. و يروى: المعار بكسر الميم. و يروى: يشمر، بدل يضمر. و الأصائل جمع أصيل كالآصال و هي أواخر النهار. أى يترك بلا علف من أول النهار فيجوع حتى يكون ضامر البطن في آخره، أو يهيأ و يرسل للقتال في آخر النهار فما بال أوله. و النهد: غليظ الجنبين مرتفع الأضلاع، و الأقب، رقيق الخصر، و المقلص- كمعظم على اسم المفعول- المشمر المشرف طويل القوائم، و يجوز جعله على اسم الفاعل بمعنى المتشمر المكتنز اللحم.
يقال: قلصه بالتشديد شمره، فقلص هو أيضا: أى تشمر، و يقال قلصت الناقة كذلك: إذا استمرت على السير.
و الاقورار: رقة الجسم و نحافته. و السراة: أعلى الظهر. و الوجيف: سرعة سير الخيل. و المسد: الحبل. شبه السراة به في الامتداد و الصلابة، و قوله: و الخيل شعث، جملة حالية، و الشعث جمع أشعث، أو شعث، و غداة: ظرف له.
و الحفيف: دوى الجري و الطيران. يقال: حف الفرس حفيفاً، و أحففته: إذا حملته على الحفيف، و ضمير كتمن للخيل. و الربو: الزيادة و ما ارتفع من الأرض، و النفس العالي، و انتفاخ الفرس من عدو أو فزع. يقال منه: