کتابخانه تفاسیر
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 276
فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت: ذهب سفيان و الأوزاعى و أبو عبيد و مالك و غيرهم إلى أنه غير جائز، و هو جائز عند أبى حنيفة مع الكراهة. و عنه أنهما إن أضمرا التحليل و لم يصرحا به فلا كراهة. و عن النبي صلى اللَّه عليه و سلم: أنه لعن المحلل و المحلل له «1» . و عن عمر رضى اللَّه عنه: لا أوتى بمحلل و لا محلل له إلا رجمتهما «2» . و عن عثمان رضى اللَّه عنه: لا إلا نكاح رغبة غير مدالسة «3» . فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني. أَنْ يَتَراجَعا أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج إِنْ ظَنَّا إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. و لم يقل: إن علما أنهما يقيمان، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا اللَّه عز و جل. و من فسر الظن هاهنا بالعلم فقد و هم من طريق اللفظ و المعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، و لكن: علمت أنه يقوم، و لأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد، و إنما يظن ظنا.
[سورة البقرة (2): الآيات 231 الى 232]
(1). روى عن ابن مسعود و على و جابر و عقبة بن عامر، و أبى هريرة. و ابن عباس. قلت: أحال بها على تخريج الهداية و حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي و النسائي و صححه ابن دقيق العيد على شرط البخاري. و حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجة. و حديث على أخرجه أحمد و أبو داود. و حديث أبى هريرة رواه أحمد و البيهقي و حديث عقبة بن عامر أخرجه ابن ماجة. و حديث جابر ذكره الترمذي.
(2). أخرجه عبد الرزاق و ابن أبى شيبة، من رواية المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر عن عمر فذكره.
(3). لم أجده عن عثمان بل وجدته عن ابن عمر. أخرجه الحاكم من رواية عمر بن نافع عن أبيه أنه قال «جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا إلا نكاح رغبة. كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم» و قد روى مرفوعا أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنها «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم سئل عن المحلل. فقال:
لا، إلا نكاح رغبة غير دلسة، و لا مستهزئ بكتاب اللَّه تعالى لم يذق العسيلة» و في إسناده إبراهيم بن إسماعيل ابن أبى حبيبة و هو ضعيف.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 277
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أى آخر عدتهن و شارفن منتهاها. و الأجل يقع على المدّة كلها، و على آخرها، يقال لعمر الإنسان: أجل، و للموت الذي ينتهى به: أجل، و كذلك الغاية و الأمد، يقول النحويون «من» لابتداء الغاية، و «إلى» لانتهاء الغاية. و قال:
كُلُّ حَىٍ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْرِ
وَ مُودٍ إذَا انْتَهَى أمَدُهْ «1»
و يتسع في البلوغ أيضاً فيقال: بلغ البلد إذا شارفه و داناه. و يقال: قد وصلت، و لم يصل و إنما شارف، و لأنه قد علم أنّ الإمساك بعد تقضى الأجل لا وجه له، لأنها بعد تقضيه غير زوجة له في غير عدّة منه، فلا سبيل له عليها فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ و إما أن يخليها حتى تنقضي عدّتها و تبين من غير ضرار وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً كان الرجل يطلق المرأة و يتركها حتى يقرب انقضاء عدتها، ثم يراجعها لا عن حاجة، و لكن ليطوّل العدة عليها، فهو الإمساك ضراراً لِتَعْتَدُوا لتظلموهنّ. و قيل:
لتلجئوهن إلى الافتداء فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها لعقاب اللَّه وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً أى جدّوا في الأخذ بها و العمل بما فيها، و ارعوها حق رعايتها، و إلا فقد اتخذتموها هزواً و لعباً.
و يقال لمن لم يجدّ في الأمر: إنما أنت لاعب و هازئ. و يقال: كن يهودياً و إلا فلا تلعب بالتوراة.
و قيل: كان الرجل يطلق و يعتق و يتزوّج و يقول: كنت لاعباً. و عن النبي صلى اللَّه عليه و سلم:
«ثلاث جدّهن جدّ و هزلهن جدّ: الطلاق «2» و النكاح و الرجعة «3» وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام و بنبوّة محمد صلى اللَّه عليه و سلم وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ من القرآن و السنة و ذكرها مقابلتها بالشكر و القيام بحقها يَعِظُكُمْ بِهِ بما أنزل عليكم فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ إما أن يخاطب به الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً و قسراً، و لحمية الجاهلية لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج. و المعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم و يصلحون لهنّ، و إما أن يخاطب به الأولياء في عضلهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ.
روى أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل. و قيل: في جابر
(1). يقال: أودى إذا هلك، و أودى به السبل و نحوه أهلكه و ذهب به. و الودي كالغنى: الهلاك. و يروى أجله. و الأمد و الأجل يطلقان على جميع مدة الشيء. و على منتهاها، كما تطلق الغاية على جميع المسافة و على آخرها.
يقول: كل حى لا بد أنه يستكمل مدة عمره و يهلك إذا انتهت مدته و تسكين العمر لغة فيه.
(2). قوله «و هزلهن جد الطلاق و النكاح و الرجعة» في أبى السعود: النكاح و الطلاق و العتاق. (ع)
(3). أخرجه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و الدارقطني و البيهقي، من حديث أبى هريرة. و في إسناده ضعف.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 278
ابن عبد اللَّه حين عضل بنت عم له. و الوجه أن يكون خطاباً للناس، أى لا يوجد فيما بينكم عضل، لأنه إذا وجد بينهم و هم راضون كانوا في حكم العاضلين. و العضل: الحبس و التضييق. و منه:
عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم نخرج. و أنشد لابن هرمة:
وَ إنَّ قَصَائِدِى لَكَ فَاصْطَنِعْنِى
عَقَائِلُ قَدْ عَضُلْنَ عَنِ النِّكَاحِ «1»
و بلوغ الأجل على الحقيقة. و عن الشافعي رحمه اللَّه: دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين إِذا تَراضَوْا إذا تراضى الخطاب و النساء بِالْمَعْرُوفِ بما يحسن بالدين و المروءة من الشرائط و قيل: بمهر المثل. و من مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فللأولياء أن يعترضوا. فإن قلت: لمن الخطاب في قوله ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ ؟ قلت: يجوز أن يكون لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم و لكل أحد. و نحوه (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ) . أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ من أدناس الآثام: و قيل (أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ) أفضل و أطيب وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما في ذلك من الزكاء و الطهر وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، أو و اللَّه يعلم ما تستصلحون به من الأحكام و الشرائع و أنتم تجهلونه.
[سورة البقرة (2): آية 233]
يُرْضِعْنَ مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد كامِلَيْنِ توكيد كقوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) لأنه مما يتسامح فيه فتقول: أقمت عند فلان حولين، و لم تستكملهما. و قرأ ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أن يكمل الرضاعة: و قرئ الرِّضاعة. بكسر الراء. و الرضعة. و أن تتم الرضاعة و أن يتم الرضاعة، برفع الفعل تشبيهاً ل «أن» ب «ما» لتأخيهما في التأويل. فإن قلت: كيف
(1). العقائل: جمع عقيلة، و هي المعقولة في خدرها من النساء. يقول: إن قصائدى لك مثل المخدرات، فلك:
حال من القصائد أو العقائل. و قوله «فاصطنعنى» اعتراض، أى فاتخذني مادحا و كافئنى على مدحي إياك بما لا أمدح به غيرك من القصائد. و لما شبه القصائد بالنساء رشح ذلك بالعضل، و هو المنع من النكاح الخاص بالنساء.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 279
اتصل قوله لِمَنْ أَرادَ بما قبله؟ قلت: هو بيان لمن توجه إليه الحكم، كقوله تعالى: (هَيْتَ لَكَ) لك بيان للمهيت به، أى هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع. و عن قتادة: حولين كاملين، ثم أنزل اللَّه اليسر و التخفيف فقال لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ أراد أنه يجوز النقصان، و عن الحسن:
ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. و قيل: اللام متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أى يرضعن حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة من الآباء، لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، و عليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه، و هي مندوبة إلى ذلك و لا تجبر عليه. و لا يجوز استئجار الأم عند أبى حنيفة رحمه اللَّه ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح. و عند الشافعي يجوز. فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق. فان قلت:
فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت: إما أن يكون أمراً على وجه الندب، و إما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبى إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار. و قيل: أراد الوالدات المطلقات، و إيجاب النفقة و الكسوة لأجل الرضاع وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ و على الذي يولد له و هو الوالد. و (لَهُ) في محل الرفع على الفاعلية، نحو (عَلَيْهِمْ) في: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فإن قلت لم قيل (الْمَوْلُودِ) له دون الوالد. قلت: ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء، و لذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. و أنشد للمأمون بن الرشيد:
فَإنَما أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَةٌ
مُسْتَوْدَعَاتٌ وَ لِلآبَاءِ أبْنَاءُ «1»
فكان عليهم أن يرزقوهن و يكسوهن إذا أرضعن ولدهم، كالأظآر. ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى، و هو قوله تعالى: (وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ، بِالْمَعْرُوفِ تفسيره ما يعقبه، و هو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه و لا يتضارّا. و قرئ (لا تكلف) بفتح التاء؛ و (لا نكلف) بالنون. و قرئ: لا تُضَارَّ بالرفع على
(1).
لا تزرين بفتى من أن يكون له
أم من الروم أو سوداء عجماء
فإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات و للآباء أبناء
للمأمون بن الرشيد حين كتب إليه أخوه الأمين يوبخه على الخلافة بغير استحقاق، و في آخره: ابن الأمة ما ألأمه:
فأجابه بذلك. و أزرى به: إذا أوقع به العيب و رماه به. و النون في الفعل للتوكيد. و يروى: لا تزدرين فتى، على خطاب المؤنثة، و كأنه أراد به إسماع أخيه. و زرى عليه: إذا عاب عليه. و الازدراء: افتعال منه، أى لا تعيبى، و النون ثابتة بعد النهى شذوذا. و العجماء: التي لا تفصح في كلامها. و شبه النساء بالأوعية التي تودع فيها الأشياء تشبيها بليغا، أو على طريق التصريحية على رأى السعد في كل تشبيه بليغ. و روى: و للأبناء آباء. و المعنى أن الرفعة و الضعة من جهة الآباء لا من جهة الأمهات، لأنها كالأوعية للأبناء. لكن هذا التشبيه مبنى على الظاهر. ثم كتب المأمون أيضا في جواب أخيه: القلم بمده، و السيف بحده، و المرء بسعده، لا بأبيه و لا يجده.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 280
الإخبار، و هو يحتمل البناء للفاعل و المفعول، و أن يكون الأصل: تضارر بكسر الراء، و تضارر بفتحها. و قرأ (لا تُضَارَّ) بالفتح أكثر القراء. و قرأ الحسن بالكسر على النهى، و هو محتمل للبناءين أيضاً. و يبين ذلك أنه قرئ لا تضارَرْ، و لا تضارِرْ، بالجزم و فتح الراء الأولى و كسرها.
و قرأ أبو جعفر: لا تضارّ، بالسكون مع التشديد على نية الوقف. و عن الأعرج (لا تضارْ) بالسكون و التخفيف، و هو من ضاره يصيره. و نوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا. و عن كاتب عمر بن الخطاب: لا تضرر. و المعنى: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، و هو أن تعنف به و تطلب منه ما ليس بعدل من الرزق و الكسوة، و أن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، و أن تقول بعد ما ألفها الصبى: اطلب له ظئراً، و ما أشبه ذلك؛ و لا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها و كسوتها؛ و لا يأخذه منها و هي تريد إرضاعه، و لا يكرهها على الإرضاع. و كذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهى عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، و عن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد: و يجوز أن يكون (تُضَارَّ) بمعنى تضر، و أن تكون الباء من صلته، أى لا تضرّ والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه و تعهده، و لا تفرط فيما ينبغي له، و لا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. و لا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد. فان قلت: كيف قيل بولدها و بولده؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه و أنه ليس بأجنبىّ منها، فمن حقها أن تشفق عليه و كذلك الوالد وَ عَلَى الْوارِثِ عطف على قوله وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَ ، و ما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف و المعطوف عليه. فكان المعنى: و على وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق و الكسوة، أى إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها و يكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف و تجنب الضرار. و قيل: هو وارث الصبى الذي لو مات الصبى ورثه. و اختلفوا، فعند ابن أبى ليلى كل من ورثه، و عند أبى حنيفة من كان ذا رحم محرم منه. و عند الشافعي: لا نفقة فيما عدا الولاد. و قيل من ورثه من عصبته مثل الجد و الأخ و ابن الأخ و العم و ابن العمّ. و قيل: المراد وارث الأب و هو الصبى نفسه، و أنه إن مات أبوه و ورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه.
و قيل (عَلَى الْوارِثِ) على الباقي من الأبوين من قوله: «و اجعله الوارث منا» «1» فَإِنْ أَرادا فِصالًا صادراً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك، زادا على الحولين أو نقصا، و هذه توسعة بعد التحديد. و قيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز، و إنما اعتبر تراضيهما
(1). قوله «و اجعله الوارث منا» الرواية المشهورة: منى. (ع)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 281
في الفصال و تشاورهما: أمّا الأب فلا كلام فيه، و أمّا الأمّ فلأنها أحق بالتربية و هي أعلم بحال الصبى. و قرئ (فإن أراد). استرضع: منقول من أرضع. يقال: أرضعت المرأة الصبى، و استرضعتها الصبى، لتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، و استنجحته الحاجة. و المعنى:
أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة و لا تذكر من استنجحته، و كذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) و قرئ: ما أتيتم، من أتى إليه إحساناً إذا فعله. و منه قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أى مفعولا. و روى شيبان عن عاصم: ما أوتيتم، أى ما آتاكم اللَّه و أقدركم عليه من الأجرة، و نحوه (وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) و ليس التسليم بشرط للجواز و الصحة، و إنما هو ندب إلى الأولى. و يجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبى و احتياطاً في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزاً يداً بيد، كأنه قيل: إذا أدّيتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشرى الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.
[سورة البقرة (2): الآيات 234 الى 235]
وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ على تقدير حذف المضاف، أراد: و أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن. و قيل: معناه يتربصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم. و قرئ: يَتوفون بفتح الياء «1»
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «قرأها علي رضى اللَّه عنه بفتح الياء ... الخ»، قال أحمد رحمه اللَّه: و لعل السائل لأبى الأسود كان ممن يفهم عنه أنه لا فرق عنده بين الكسر و الفتح و هو الظاهر، و على ذلك أجابه أبو الأسود، فلا تناقض حينئذ.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 282
أى يستوفون آجالهم، و هي قراءة على رضى اللَّه عنه. و الذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشى خلف جنازة، فقال له رجل: من المتوفى- بكسر الفاء، فقال اللَّه تعالى. و كان أحد الأسباب الباعثة لعلى رضى اللَّه عنه على أن أمره بأن يضع كتابا في النحو، تناقضه هذه القراءة يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً يعتددن هذه المدّة و هي أربعة أشهر و عشرة أيام، و قيل عشراً ذهابا إلى الليالي و الأيام داخلة معها، و لا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام.
تقول: صمت عشراً «1» ، و لو ذكرت خرجت من كلامهم. و من البين فيه قوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ فإذا انقضت عدّتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأئمة و جماعة المسلمين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ من التعرّض للخطاب بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكره الشرع. و المعنى أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهنّ.
و إن فرّطوا كان عليهم الجناح فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ هو أن يقول لها إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة و من غرضي أن أتزوّج، و عسى اللَّه أن ييسر لي امرأة صالحة، و نحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، و لا يصرح بالنكاح، فلا يقول: إنى أريد أن أنكحك، أو أتزوجك، أو أخطبك. و روى ابن المبارك عن عبد اللَّه بن سليمان عن خالته قالت:
دخل علىَّ أبو جعفر محمد بن على و أنا في عدتي فقال: قد علمت قرابتي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم و حق جدّى علىّ و قدمي في الإسلام، فقلت: غفر اللَّه لك! أ تخطبنى في عدّتى و أنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت! إنما أخبرتك بقرابتي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم و موضعى، قد دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم على أم سلمة و كانت عند ابن عمها أبى سلمة فتوفى عنها، فلم يزل يذكر لها منزلته من اللَّه و هو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة «2» . فإن قلت: أى فرق بين الكناية و التعريض؟ قلت:
الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، كقولك: طويل النجاد و الحمائل لطول القامة «3»
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «تقول: صمت عشراً ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: و منه «من صام رمضان و أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر» فغلب الليالي أو كان الصوم غير متصور فيها حتى قالوا: إن شرطة النية و زمانها الليل، فلهذا جعل لها حظاً في الصوم و غلبها.
(2). هكذا هو في كتاب النكاح لابن المبارك و رواه الدارقطني من رواية محمد بن الصلت عن عبد الرحمن بن سليمان- و هو ابن الغسيل- نحوه بتمامه.