کتابخانه تفاسیر
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج2، ص: 19
و ما كذب قط، و لكن إذا ذهب بنو قصىّ باللواء و السقاية و الحجابة و النبوّة، فما ذا يكون لسائر قريش، فنزلت، و قوله وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ من إقامة الظاهر مقام المضمر، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم.
[سورة الأنعام (6): آية 34]
وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «1» و هذا دليل على أن قوله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ليس بنفي لتكذيبه، و إنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك و لكنهم أهانونى عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا على تكذيبهم و إيذائهم وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ بعض أنبائهم و قصصهم و ما كابدوا من مصابرة المشركين.
[سورة الأنعام (6): الآيات 35 الى 36]
كان يكبر على النبي صلى اللّه عليه و سلم كفر قومه و إعراضهم عما جاء به فنزل لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ* ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ منها بِآيَةٍ فافعل. يعنى أنك لا تستطيع ذلك. و المراد بيان حرصه على إسلام قومه و تهالكه عليه، و أنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. و قيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يورّ أن يجابوا
(1). عاد كلامه. قال: «و قوله و لقد كذبت رسل من قبلك تسلية ... الخ» قال أحمد: و لا دلالة فيه لأنه مؤتلف مع نفى التكذيب أيضا، و موقعه حينئذ من الفضيلة أبين، أى هؤلاء لم يكذبوك فحقك أن تصبر عليهم و لا يحزنك أمرهم، و إذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم فصبروا عليهم، فأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبره فقد ائتلف كما ترى بالتفسيرين جميعا، و لكنه من غير الوجه الذي استدل به فيه تقريب لما اختاره: و ذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحا بها في نحو قوله وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فسلاه عن تكذيبهم له بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم و ما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع مؤيد بالنظائر، و اللّه أعلم.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج2، ص: 20
إليها لتمادى حرصه على إيمانهم. فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون. و يجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآيات، كأنه قيل: لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقى إلى السماء لفعلت، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها.
و حذف جواب «أن» كما تقول: إن شئت أن تقوم بنا إلى فلان نزوره وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بأن يأتيهم بآية ملجئة، و لكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ من الذين يجهلون ذلك و يرومون ما هو خلافه «1» إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعنى أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسماعون، و إنما يستجيب من يسمع، كقوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى* وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان. و أنت لا تقدر على ذلك. و قيل معناه: و هؤلاء الموتى- يعنى الكفرة- يبعثهم اللّه. ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسماعون. و أما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم «2» و قرئ: يرجعون، بفتح الياء.
[سورة الأنعام (6): آية 37]
لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ نزل بمعنى أنزل. و قرئ أن ينزل بالتشديد و التخفيف. و ذكر الفعل و الفاعل مؤنث، لأن تأنيث آية غير حقيقى، و حسن للفصل. و إنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عناداً منهم قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً تضطرهم إلى الإيمان.
كنتق الجبل على بنى إسرائيل و نحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(1). قال محمود: «بأن يأتيهم بآية ملجئة و لكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ من الذين يجهلون ذلك و يرومون ما هو خلافه» قال أحمد: و هذه الآية أيضا كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن اللّه تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن. ألا ترى أن الجملة مصدرة بلو، و مقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها، فامتناع اجتماعهم على الهدى إذاً إنما كان لامتناع المشيئة، فمن ثم ترى الزمخشري يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة لا يكون الايمان معها اختيارا، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع، و إن مشيئة اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم ثابتة غير ممتنعة و لكن لم يقع متعلقها، و هذه من خباياه و مكامنه فاحذرها، و اللّه الموفق.
(2). قوله «إلى استماعهم» لعله: إسماعهم. (ع)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج2، ص: 21
أنّ اللّه قادر على أن ينزل تلك الآية، و أن صارفا من الحكمة يصرفه عن إنزالها.
[سورة الأنعام (6): آية 38]
أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مكتوبة أرزاقها و آجالها و أعمالها كما كتبت أرزاقكم و آجالكم و أعمالكم ما فَرَّطْنا ما تركنا و ما أغفلنا فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مِنْ شَيْءٍ من ذلك لم نكتبه و لم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعنى الأمم كلها من الدواب و الطير فيعوضها و ينصف بعضها من بعض، كما روى أنه يأخذ للجماء من القرناء. فإن قلت: كيف قيل: إِلَّا أُمَمٌ مع إفراد الدابة و الطائر؟ فإن قلت: لما كان قوله تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ دالا على معنى الاستغراق و مغنيا عن أن يقال: و ما من دواب و لا طير، حمل قوله إِلَّا أُمَمٌ على المعنى، فإن قلت، هلا قيل: و ما من دابة و لا طائر «1» إلا أمم أمثالكم؟ و ما معنى زيادة قوله فِي الْأَرْضِ و يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ قلت: معنى ذلك زيادة التعميم و الإحاطة، كأنه قيل: و ما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع، و ما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها. فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، و لطف علمه، و سعة سلطانه و تدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، و هو حافظ لما لها و ما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، و أنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. و قرأ ابن أبى عبلة: و لا طائر، بالرفع على المحل، كأنه قيل:
و ما دابة و لا طائر. و قرأ علقمة: ما فرطنا، بالتخفيف.
[سورة الأنعام (6): آية 39]
فإن قلت: كيف أتبعه قوله وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ؟ قلت: لما ذكر من خلائقه و آثار قدرته ما يشهد لربوبيته و ينادى على عظمته قال: و المكذبون صُمٌ لا يسماعون كلام المنبه
(1). قال محمود: «إن قلت هلا قبل: و ما من دابة و لا طائر ... الخ» قال أحمد: و لم يبين وجه زيادتها للتعميم.
و لقائل أن يقول: يلزم من العموم في أجناس الطير دخول كل طائر في الجو في العموم و إن لم يذكر في الجو، و كذلك يلزم من عموم الدواب في سائر أصنافها أن يندرج في ذلك كل دابة في الأرضين و إن لم يذكر في الأرض، فلا بد من بيان وجه الزيادة فنقول: موقع قوله فِي الْأَرْضِ و يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ موقع الوصف العام، و صفة العام عامة ضرورة المطابقة، فكأنه مع زيادة الصفة تظافرت صفتان عامتان، و اللّه أعلم.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج2، ص: 22
بُكْمٌ لا ينطقون بالحق، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك و التفكر فيه، ثم قال إيذاناً بأنهم من أهل الطبع «1» مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أى يخذله و يخله و ضلاله لم يلطف به، «2» لأنه ليس من أهل اللطف وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أى يلطف به لأنّ اللطف يجدى عليه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 40 الى 41]
أَ رَأَيْتَكُمْ أخبرونى. و الضمير الثاني لا محل له من الإعراب، لأنك تقول: أ رأيتك زيداً ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول: أ رأيت نفسك زيدا ما شأنه؟ و هو خلف من القول و متعلق الاستخبار محذوف، تقديره: إن أتاكم عذاب انّه «3» أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ من تدعون. ثم بكتهم بقوله أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ بمعنى أ تخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ، أم تدعون اللّه دونها بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أى ما تدعونه إلى كشفه إِنْ شاءَ إن أراد أن يتفضل عليكم و لم يكن مفسدة وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ و تتركون آلهتكم، «4» أو لا تذكرونها في ذلك الوقت، لأنّ أذهانكم في ذلك الوقت مغمورة بذكر ربكم وحده، إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره. و يجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ «5» كأنه قيل:
(1). قوله «إيذانا بأنهم من أهل الطبع» أى الختم على القلوب. و قوله «أى يخذله ... الخ» فسر الإضلال بذلك، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة، أما عند أهل السنة فيخلق الشر كالخير، فالاضلال على ظاهره عندهم بمعنى خلق الضلال في القلب. (ع)
(2). قال محمود: «معنى يضلله يخذله و لم يلطف به ... الخ» قال أحمد: و هذا من تحريفاته للهداية و الضلالة اتباعا لمعتقده الفاسد في أن اللّه تعالى لا يخلق الهدى و لا الضلال، و أنهما من جملة مخلوقات العباد. و كم تخرق عليه هذه العقيدة فيروم أن يرقعها، و قد اتسع الخرق على الراقع، و اللّه الموفق.
(3). قال محمود: «متعلق الاستخبار محذوف تقديره ... الخ» قال أحمد: هو لا يدع أن يحجر واسعا فيوجب على اللّه رعاية المصالح بناء على القاعدة الفاسدة من مراعاة الصلاح و الأصلح.
(4). عاد كلامه. قال: «و تنسون ما تشركون: أى و تتركون آلهتكم ... الخ» قال أحمد: و إنما يلقى الاختصاص حيث يقول: معناه أ تخصون آلهتكم، ثم قال: بل تخصون اللّه بالدعاء من حيث تقدم المفعول على الفعل في قوله أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ و قوله بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ و تقديم المفعول عنده يفيد الاختصاص و الحصر. و قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ في قوة قولك: لا نعبد إلا إياك. و قد مضى الكلام عليه.
(5). عاد كلامه. قال: «و يجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أ غير اللّه تدعون ... الخ» قال أحمد: و لقد سدد النظر لو لا أنه نغص ذلك بما يفهم وجوب مراعاة المصالح. و أن مشيئة اللّه تعالى تابعة للمصلحة، و قد تقدم آنفا فاحذره. و عليك بما سواه فانه من بديع النظر، و اللّه الموفق.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج2، ص: 23
أ غير اللّه تدعون إن أتاكم عذاب اللّه. فإن قلت: إن علقت الشرط به فما تصنع بقوله:
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ مع قوله أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ و قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشف المشيئة، و هو قوله: إِنْ شاءَ إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 42 الى 45]
البأساء، و الضراء: البؤس، و الضر. و قيل البأساء: القحط و الجوع. و الضراء: المرض و نقصان الأموال و الأنفس. و المعنى: و لقد أرسلنا إليهم الرسل فكذبوهم فأخذناهم لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون و يتخشعون لربهم و يتوبون عن ذنوبهم فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه: نفى التضرع، كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. و لكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم و قسوة قلوبهم، و إعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء و الضراء: أى تركوا الاتعاظ به و لم ينفع فيهم و لم يزجرهم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من الصحة و السعة و صنوف النعمة، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء و السراء، كما يفعل الأب المشفق بولده يخاشنه تارة و يلاطفه أخرى، طلباً لصلاحه حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من الخير و النعم، لم يزيدوا على الفرح و البطر، من غير انتداب لشكر و لا تصدّ لتوبة و اعتذار أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ واجمون «1» متحسرون آيسون فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم لم يترك منهم أحد، قد استؤصلت شأفتهم «2» وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
(1). قوله «واجمون» في الصحاح «الواجم» الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام. (ع)
(2). قوله «شأفتهم» قرحة تخرج من أسفل القدم فتكوى فتذهب، ثم ضربت مثلا في الاستئصال. أوده الصحاح. (ع)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج2، ص: 24
إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة «1» و أنه من أجلّ النعم و أجزل القسم. و قرئ «فتحنا» بالتشديد.
[سورة الأنعام (6): آية 46]
إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ بأن يصمكم و يعميكم وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن يغطى عليها ما يذهب عنده فهمكم و عقلكم يَأْتِيكُمْ بِهِ أى يأتيكم بذاك، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة أو بما أخذ و ختم عليه يَصْدِفُونَ يعرضون عن الآيات بعد ظهورها.
[سورة الأنعام (6): آية 47]
لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به و تظهر أماراته، قيل بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً و عن الحسن: ليلا أو نهاراً. و قرئ بغتة أو جهرة «2» هَلْ يُهْلَكُ أى ما يهلك هلاك تعذيب و سخط إلا الظالمون. و قرئ. هل يهلك بفتح الياء.
[سورة الأنعام (6): آية 48]
مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ من آمن بهم و بما جاءوا به و أطاعهم، و من كذبهم و عصاهم و لم يرسلهم ليتلهى بهم و يقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة وَ أَصْلَحَ ما يجب عليه إصلاحه مما كلف.
[سورة الأنعام (6): آية 49]
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
(1). قال محمود: «الحمد هاهنا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك ... الخ» قال أحمد: و نظيرها قوله تعالى وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ* ، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فيمن وقف هاهنا و جعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين. و منهم من وقف على المنذرين و جعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية اللّه تعالى، و أنه جل جلاله خير مما يشركون، فعلى الأول يكون الحمد حتما، و على الثاني فاتحة، و هو مستعمل فيهما شرعا، و لكنه في، آية النمل أظهر في كونه مفتتحا لما بعده، و في آية الأنعام ختم لما تقدمه ختما، إذ لا يقتضى السياق غير ذلك، و اللّه أعلم.
(2). قوله «بغتة أو جهرة» كذا في أبى السعود و البيضاوي. و في بعض نسخ هذا الكتاب بغتة أو جهرة، و كتب عليه: أى بتحريك الغين و الهاء. اه (ع)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج2، ص: 25
جعل العذاب ماسا، كأنه حىّ يفعل بهم ما يريد من الآلام. و منه قولهم: لقيت منه الأمرّين و الأقورين «1» حيث جمعوا جمع العقلاء: و قوله إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً .
[سورة الأنعام (6): آية 50]
أى لا أدعى ما يستبعد في العقول «2» أن يكون لبشر من ملك خزائن اللّه- و هي قسمه بين الخلق و إرزاقه، و علم الغيب، و أنى من الملائكة الذين هم أشرف جنس «3» خلقه اللّه تعالى و أفضله و أقربه منزلة منه. أى لم أدّع إلهية و لا ملكية، لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي و تستنكرونها. و إنما أدّعى ما كان مثله لكثير من البشر و هو النبوّة هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ مثل للضالّ و المهتدى «4» و يجوز أن يكون
(1). قوله «الأمرين و الأقورين» الأمرين- بنون الجمع-: الدواهي. و الأقورين- بكسر الراء-: الدواهي العظام، كذا في الصحاح. (ع)
(2). قال محمود: «أى لا أدعى ما يستبعد في العقول ... الخ» قال أحمد رحمه اللّه: هو ينبنى على القاعدة المتقدمة له في تفضيل الملائكة على الأنبياء. و لعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها و لمخالفة أن يقول: إنما وردت الآية رداً على الكفار في قولهم ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ... الآية فرد قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، بأنه بشر و ذلك شأن البشر، و لم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، و حينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء لأنه لا خلاف أن الأنبياء يأكلون الطعام و أن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، و لا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء. و كذلك رد قولهم. أو يلقى إليه كنز، بأنه لا يملك خزائن اللّه تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، و لا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به. و هذه الآية جاء الترتيب فيها مخالفاً لترتيب قوله لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ قال الزمخشري: لأنهم أعلى من الأنبياء، و قد أخر هاهنا دعوى الملكية عن دعوى الالهية، إذ الالهية أجل و أعلى، و الملكية أدنى، و لا محل لذلك إلا التمهيد الذي أسلفته و قد جعلت الأمر في التقديم و التأخير تبعا للسياق، فقد تقضى البلاغة في بعضه عكس ما تقتضيه في الآخر. و لم يحسن الزمخشري في قوله: ليس يعد الالهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، فانه جعل الالهية من جملة المنازل كالملكية. و مثل هذا الإطلاق لا يسوغ. و المنزلة عبارة عن المحل الذي ينزل اللّه فيه العبد من علو و غيره، فاطلاقها على الالهية تحريف، و اللّه الموفق للصواب.
(3). قوله «من الملائكة الذين هم أشرف جنس» أى عند المعتزلة، أما عند أهل السنة، فالبشر أشرف، على ما تقرر في التوحيد. (ع)