کتابخانه تفاسیر
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 57
بسورة البناء أي القطعة منه، لأن كل بناء فإنما يبنى قطعة بعد قطعة، و كل قطعة منها سورة، و جمع سورة القرآن سور بفتح الواو، و جمع سورة البناء سور بسكونها.
قال أبو عبيدة: «إنما اختلفا في هذا فكأن سور القرآن هي قطعة بعد قطعة حتى كمل منها القرآن».
و يقال أيضا للرتبة الرفيعة من المجد و الملك سورة. و منه قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:
[الطويل].
ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورة
ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
فكأن الرتبة انبنت حتى كملت.
و أما الآية فهي العلامة في كلام العرب. و منه قول الأسير الموصي إلى قومه باللّغز: «بآية ما أكلت معكم حيسا».
فلما كانت الجملة التامة من القرآن علامة على صدق الآتي بها و على عجز المتحدى بها سمّيت آية. هذا قول بعضهم، و قيل سميت آية لما كانت جملة و جماعة كلام كما تقول العرب: «جئنا بآيتنا» أي بجماعتنا. و قيل: لما كانت علامة للفصل بين ما قبلها و ما بعدها سميت آية. و وزن آية عند سيبويه فعلة بفتح العين أصلها أيية تحركت الياء الأولى و ما قبلها مفتوح فجاءت آية.
و قال الكسائي: «أصل آية آيية على وزن فاعلة، حذفت الياء الأولى مخافة أن يلتزم فيها من الإدغام ما لزم في دابة».
و قال مكي في تعليل هذا الوجه: «سكّنت الأولى و أدغمت فجاءت آية على وزن دابة، ثم سهلت الياء المثقلة»، و قيل: أصلها أية على وزن فعلة بسكون العين، أبدلت الياء الساكنة ألفا استثقالا للتضعيف، قاله الفراء، و حكاه أبو علي عن سيبويه في ترجمة وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ [آل عمران: 146].
و قال بعض الكوفيين: «أصلها أيية على وزن فعلة بكسر العين أبدلت الياء الأولى ألفا لثقل الكسر عليها و انفتاح ما قبلها».
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 58
باب القول في الاستعاذة
قال اللّه عز و جل: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98].
معناه: إذا أردت أن تقرأ و شرعت فأوقع الماضي موقع المستقبل لثبوته. و أجمع العلماء على أن قول القارئ: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم» ليس بآية من كتاب اللّه. و أجمعوا على استحسان ذلك و التزامه في كل قراءة في غير صلاة، و اختلفوا في التعوذ في الصلاة، فابن سيرين، و إبراهيم النخعي، و قوم، يتعوذون في الصلاة في كل ركعة، و يمتثلون أمر اللّه بالاستعاذة على العموم في كل قراءة، و أبو حنيفة، و الشافعي، يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة، و يريان أن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة. و مالك رحمه اللّه لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة، و يراه في قيام رمضان. و لم يحفظ عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه تعوذ في صلاة.
و حكى الزهري عن الحسن أنه قال: «نزلت الآية في الصلاة، و ندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة و ليس بفرض».
قال غيره: «كانت فرضا على النبي صلى اللّه عليه و سلم وحده، ثم تأسينا به».
و أما لفظ الاستعاذة فالذي عليه جمهور الناس هو لفظ كتاب اللّه تعالى «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم».
و روي عن ابن عباس أنه قال: «أول ما نزل جبريل على محمد صلى اللّه عليه و سلم قال له: قل يا محمد: أستعيذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم».
و روى سليمان بن سالم عن ابن القاسم رحمه اللّه: أن الاستعاذة «أعوذ باللّه العظيم من الشيطان الرجيم إن اللّه هو السميع العليم بسم اللّه الرّحمن الرّحيم».
و أما المقرءون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم اللّه تعالى و في الجهة الأخرى كقول بعضهم: «أعوذ باللّه المجيد من الشيطان المريد». و نحو هذا مما لا أقول فيه نعمت البدعة و لا أقول إنه لا يجوز.
و معنى الاستعاذة: الاستجارة، و التحيز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه، و الكلام على المكتوبة يجيء في بسم اللّه فذلك الموضع أولى به.
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 59
و أما الشيطان فاختلف الناس في اشتقاقه، فقال الحذاق: «هو فيعال من شطن إذا بعد لأنه بعد عن الخير و رحمة اللّه». و من اللفظة قولهم: نوى شطون، أي بعيدة.
قال الأعشى: [الوافر].
نأت بسعاد عنك نوى شطون
فبانت و الفؤاد بها رهين
و منه قيل للحبل شطن، لبعد طرفيه و امتداده، و قال قوم: إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هاج و أحرق و نحوه، إذ هذه أفعاله، فهو فعلان.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: و يرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن فلان إذا فعل أفاعيل الشياطين، فهذا بين أنه تفعيل من شطن، و لو كان من شاط لقالوا تشيط.
و يرد أيضا عليهم بيت أمية بن أبي الصلت: [الخفيف].
أيّما شاطن عصاه عكاه
ثمّ يلقى في السّجن و الأكبال
فهذا شاطن من شطن لا شك فيه.
و أما الرجيم فهو فعيل بمعنى مفعول، كقتيل و جريح و نحوه، و معناه أنه رجم باللعنة، و المقت، و عدم الرحمة.
قال المهدوي رحمه اللّه: «أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول قراءة سورة الحمد إلا حمزة فإنه أسرها».
و روى المسيب عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة.
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 60
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
(القول في تفسير بسم اللّه الرحمن الرحيم)
روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي اللّه عنه أنه قال: «البسملة تيجان السور».
و روي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى اللّه عليه و سلم: تعس الشيطان، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لا تقل ذلك، فإنه يتعاظم عنده، و لكن قل: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فإنه يصغر حتى يصير أقل من ذباب».
و قال علي بن الحسين رضي اللّه عنه في تفسير قوله تعالى: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء: 46] قال: «معناه إذا قلت: «بسم اللّه الرحمن الرحيم».
و روي عن جابر بن عبد اللّه أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال له: «كيف تفتتح الصلاة يا جابر؟
قلت: بالحمد للّه رب العالمين. قال: قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم».
و روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «أتاني جبريل فعلمني الصلاة فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم يجهر بها».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: و هذان الحديثان يقتضيان أنها آية من الحمد، و يرد ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح إذ قال له النبي صلى اللّه عليه و سلم: «هل لك ألا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الفرقان مثلها»، قال: فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك، فقال لي: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأت الحمد للّه رب العالمين حتى أتيت على آخرها.
و يرده الحديث الصحيح بقوله عز و جل: «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي، يقول العبد الحمد للّه رب العالمين».
و يرده أنه لم يحفظ عن النبي صلى اللّه عليه و سلم، و لا عن أبي بكر، و لا عن عمر، و لا عثمان، رضي اللّه عنهم أنهم قرؤوا في صلاتهم: «بسم اللّه الرحمن الرحيم».
و يرده عدد آيات السورة لأن الإجماع أنها سبع آيات، إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست آيات، و هذا شاذ لا يعول عليه و كذلك روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] آية، فهي على عده ثماني آيات، و هذا أيضا شاذ. و قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] هو الفصل في
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 61
ذلك. و الشافعي- رحمه اللّه- يعد «بسم اللّه الرحمن الرحيم» آية من الحمد، و كثير من قراء مكة و الكوفة لا يعدون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7]. و مالك- رحمه اللّه-، و أبو حنيفة، و جمهور الفقهاء، و القراء، لا يعدون البسملة آية. و الذي يحتمله عندي حديث جابر، و أبي هريرة- إذا صحّا- أن النبي صلى اللّه عليه و سلم رأى قراءة جابر و حكايته أمر الصلاة قراءة في غير صلاة على جهة التعلم فأمره بالبسملة لهذا لا لأنها آية. و كذلك في حديث أبي هريرة رآها قراءة تعليم، و لم يفعل ذلك مع أبيّ لأنها قصد تخصيص السورة و وسمها من الفضل بما لها، فلم يدخل معها ما ليس منها، و ليس هذا القصد في حديث جابر و أبي هريرة، و اللّه أعلم.
و قال ابن المبارك: «إن البسملة آية في كل سورة»، و هذا قول شاذ رد الناس عليه. و روى الشعبي و الأعمش أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يكتب «باسمك اللهم»، حتى أمر أن يكتب «بسم اللّه» فكتبها. فلما نزلت قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] كتب: «بسم اللّه الرحمن». فلما نزلت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] كتبها.
و روى عمرو بن شرحبيل: أن جبريل أول ما جاء النبي عليه السلام قال له: قل: «بسم اللّه الرحمن الرحيم».
و روي عن ابن عباس: أن أول ما نزل به جبريل: «بسم اللّه الرحمن الرحيم». و في بعض طرق حديث خديجة و حملها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى ورقة، أن جبريل قال للنبي عليهما السلام:
قل: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فقالها: فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ ... الحديث.
و البسملة تسعة عشر حرفا. فقال بعض الناس: إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال اللّه فيهم عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] إنما ترتب عددهم على حروف بسم اللّه الرحمن الرحيم، لكل حرف ملك، و هم يقولون في كل أفعالهم: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فمن هنالك هي قوتهم، و باسم اللّه استضلعوا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: و هذه من ملح التفسير، و ليست من متين العلم، و هي نظير قولهم في ليلة القدر: «إنها ليلة سبع و عشرين»، مراعاة للفظة هي في كلمات سورة إِنَّا أَنْزَلْناهُ [القدر: 1] و نظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: «ربنا و لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه»، فإنها بضعة و ثلاثون حرفا، قالوا: فلذلك قال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «لقد رأيت بضعة و ثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول». و الباء في: بسم اللّه متعلقة عند نحاة البصرة باسم تقديره ابتداء مستقر أو ثابت بسم اللّه و عند نحاة الكوفة بفعل تقديره ابتدأت بسم اللّه، فبسم اللّه في موضع رفع على مذهب البصريين، و في موضع نصب على مذهب الكوفيين، كذا أطلق القول قوم، و الظاهر من مذهب سيبويه أن الباء متعلقة باسم كما تقدم، و بسم اللّه في موضع نصب تعلقا بثابت أو مستقر بمنزلة: في الدار من قولك زيد في الدار، و كسرت باء الجر ليناسب لفظها عملها، أو لكونها لا تدخل إلا على الأسماء فخصت بالخفض الذي
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 62
لا يكون إلا في الأسماء، أو ليفرق بينها و بين ما قد يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول الأعشى:
[البسيط].
أ تنتهون و لا ينهى ذوي شطط
كالطّعن يذهب فيه الزيت و الفتل
و حذفت الألف من بسم اللّه في الخط اختصارا و تخفيفا لكثرة الاستعمال. و اختلف النحاة إذا كتب «باسم الرحمن و باسم القاهر» فقال الكسائي و سعيد الأخفش: «يحذف الألف». و قال يحيى بن زياد: «لا تحذف إلا مع بسم اللّه فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: فأما في غير اسم اللّه تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.
و اسم أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها، و هو عند البصريين مشتق من السمو. يقال: سما يسمو، فعلى هذا تضم السين في قولك سمو و يقال: سمي يسمى فعلى هذا تكسر، و حذفت الواو من سمو، و كسرت السين من سم، كما قال الشاعر: [الرجز].
باسم الذي في كلّ سورة سمه و سكنت السين من بسم اعتلالا على غير قياس، و إنما استدل على هذا الأصل الذي ذكرناه بقولهم في التصغير سمّي، و في الجمع أسماء، و في جمع الجمع أسامي.
و قال الكوفيون: أصل اسم و سم من السمة، و هي العلامة. لأن الاسم علامة لمن وضع له، و حذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس، و التصغير و الجمع المذكوران يردان هذا المذهب الكوفي. و أما المعنى فيه فجيد لولا ما يلزمهم من أن يقال في التصغير و سيم، و في الجمع أوسام، لأن التصغير و الجمع يردان الأشياء إلى أصولها. و قد ذكر بعض المفسرين في هذا الموضع الاسم و المسمى هل هما واحد؟
و قال الطبري رحمه اللّه: إنه ليس بموضع للمسألة، و أنحى في خطبته على المتكلمين في هذه المسألة و نحوها، و لكن بحسب ما قد تدوول القول فيها، فلنقل إن الاسم كزيد و أسد و فرس قد يرد في الكلام و يراد به الذات، كقولك زيد قائم و الأسد شجاع، و قد يراد به التسمية ذاتها، كقولك أسد ثلاثة أحرف، ففي الأول يقال الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى و في الثاني لا يراد به المسمى. و من الورود الأول قولك يا رحمن اغفر لي، و قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1] و من الورود الثاني قولك: الرحمن وصف للّه تعالى. و أما اسم الذي هو ألف و سين و ميم، فقد يجري في لغة العرب مجرى الذات. يقال: ذات، و نفس، و اسم، و عين، بمعنى. و على هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] و قوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ [الرحمن: 78]. و قوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ [يوسف: 40].
و عضدوا ذلك بقول لبيد: [الطويل].
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما
و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 63
و قالوا: إن لبيدا أراد التحية، و قد يجري «اسم» في اللغة مجرى ذات العبارة، و هو الأكثر من استعمالها، فمنه قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] على أشهر التأويلات فيه. و منه قول النبي عليه السلام: «إن للّه تسعة و تسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة»، و على هذا النحو استعمل النحويون الاسم في تصريف أقوالهم فالذي يتنخل من هذا: أن الأسماء قد تجيء يراد بها ذوات المسميات، و في هذا يقال الاسم هو المسمى، و قد تجيء يراد بها ذواتها نفسها لا مسمياتها. و مر بي أن مالكا رحمه اللّه سئل عن الاسم أهو المسمى؟ فقال: «ليس به و لا هو غيره»، يريد دائما في كل موضع، و هذا موافق لما قلناه، و المكتوبة التي لفظها اللّه أبهر أسماء اللّه تعالى و أكثرها استعمالا، و هو المتقدم لسائرها في الأغلب، و إنما تجيء الأخر أوصافا، و اختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة من أهل العلم:
«هو اسم مرتجل، لا اشتقاق له من فعل، و إنما هو اسم موضوع له تبارك و تعالى، و الألف و اللام لازمة له لا لتعريف و لا لغيره، بل هكذا وضع الاسم». و ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد، و تأله إذا تنسك. و من ذلك قول رؤبة بن العجاج: [الرجز]
لله در الغانيات المدّه
سبّحن و استرجعن من تألّهي
و من ذلك قول اللّه تعالى: وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ [الأعراف: 127] على هذه القراءة فإن ابن عباس و غيره قال: و عبادتك، قالوا: فاسم اللّه مشتق من هذا الفعل، لأنه الذي يألهه كل خلق و يعبده، حكاه النقاش في صدر سورة آل عمران فإلاه فعال من هذا.
و اختلف كيف تعلل إله حتى جاء اللّه، فقيل: حذفت الهمزة حذفا على غير قياس و دخلت الألف و اللام للتعظيم على لاه، و قيل بل دخلتا على اله ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام فجاء اللاه ثم أدغمت اللام في اللام. و قيل إن أصل الكلمة لاه، و عليه دخلت الألف و اللام، و الأول أقوى.
و روي عن الخليل أن أصل إله ولاه و أن الهمزة مبدلة من واو كما هي في إشاح و وشاح و إسادة و وسادة، و قيل إن أصل الكلمة ولاه كما قال الخليل إلا أنها مأخوذة من وله الرجل إذا تحير، لأنه- تعالى- تتحير الألباب في حقائق صفاته، و الفكر في المعرفة به، و حذفت الألف الأخيرة من «اللّه» لئلا يشكل بخط اللات، و قيل طرحت تخفيفا، و قيل هي لغة فاستعملت في الخط و منها قول الشاعر ابن الأعرابي: [الرجز]
أقبل سيل جاء من أمر اللّه
يحرد حرد الجنّة المغلّة
و الرحمن صفة مبالغة من الرحمة، و معناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران و غضبان، و هي صفة تختص باللّه و لا تطلق على البشر، و هي أبلغ من فعيل، و فعيل أبلغ من فاعل، لأن راحما يقال لمن رحم و لو مرة واحدة، و رحيما يقال لمن كثر منه ذلك، و الرحمن النهاية في الرحمة. و قال بعض الناس: «الرحمن الرحيم» بمعنى واحد، كالندمان و النديم، و زعم أنهما من فعل واحد، و لكن أحدهما أبلغ من الآخر. و أما المفسرون فعبروا عن «الرحمن الرحيم» بعبارات، فمنها أن العرزمي قال: