کتابخانه تفاسیر
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص: 73
الجمع بعدها، كقولك: تقدموا و تأخروا، و هي لفظة مأخوذة من العلو، لما استعملت في دعاء الإنسان و جلبه و أشخاصه، سيقت من العلو تحسينا للأدب، كما تقول: ارتفع إلى الحق، و نحوه، و رَأَيْتَ هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة و تصريحا، و هي رؤية قلب لمن صد منهم مكرا و تخابثا و مسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه و القرائن الصادرة عنه، فإذا كانت رؤية عين ف يَصُدُّونَ في موضع نصب على الحال، و إذا كانت رؤية قلب ف يَصُدُّونَ نصب على المفعول الثاني، و صُدُوداً مصدر عند بعض النحاة من صد، و ليس عند الخليل بمصدر منه، و المصدر عنده «صدا» و إنما ذلك لأن فعولا إنما هو مصدر للأفعال غير المتعدية. كجلس جلوسا، و قعد قعودا و «صد» فعل متعد بنفسه مرة كما قال: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ* [النمل: 24- العنكبوت: 38]، و مرة بحرف الجر كقوله تعالى: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً و غيره، فمصدره: صد، و صُدُوداً اسم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4): الآيات 62 الى 64]
قالت فرقة: هي في المنافقين الذين احتكموا حسب ما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم اللّه بهذه الذنوب بنقمة منه؟ ثم حلفوا إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم و تقريبه، دون مر الحكم و تقصي الحق، و قالت فرقة: هي في المنافقين الذين طلبوا دم الذي قتله عمر، فالمعنى: فَكَيْفَ بهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ في قتل قريبهم و مثله من نقم اللّه تعالى، ثم إنهم حلفوا ما أرادوا بطلب دمه إِلَّا إِحْساناً و حقا، نحا إليه الزجّاج، و موضع «كيف» نصب بفعل تقديره: فكيف تراهم و نحوه، و يصح أن يكون موضعها رفعا، تقديره: فكيف صنيعهم.
و قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب المنافقين المتقدم ذكرهم و توعدهم، أي فهو مجازيهم بما يعلم، و «أعرض عنهم» يعني عن معاقبتهم، و عن شغل البال بهم، و عن قبول أيمانهم الكاذبة في قوله يَحْلِفُونَ و ليس بالإعراض الذي هو القطيعة و الهجر، فإن قوله: وَ عِظْهُمْ يمنع من ذلك، وَ عِظْهُمْ معناه بالتخويف من عذاب اللّه، و غيره من المواعظ، و القول البليغ اختلف فيه، فقيل:
هو الزجر و الردع و الكف بالبلاغة من القول، و قيل: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق، قاله الحسن، و هذا أبلغ ما يكون في نفوسهم، و البلاغة: مأخوذة من بلوغ المراد بالقول، و حكي عن مجاهد أن قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ ، متعلق بقوله: مُصِيبَةٌ و هو مؤخر بمعنى التقديم، و هذا ضعيف.
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص: 74
و قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت يا محمد منهم، تجب طاعتك و تتعين إجابة الدعوة إليك، و لِيُطاعَ ، نصب بلام كي، و بِإِذْنِ اللَّهِ معناه بأمر اللّه، و حسنت العبارة بالإذن، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته و إن لم ينص أمر بذلك، و يصح تعلق الباء من قوله بِإِذْنِ ب أَرْسَلْنا ، و المعنى و ما أرسلنا بأمر اللّه أي بشريعته و عبادته من رسول إلا ليطاع، و الأظهر تعلقها ب «يطاع» و المعنى: و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر اللّه بطاعته.
قال القاضي أبو محمد رحمه اللّه: و على التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأنا نقطع أن اللّه تبارك و تعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا، و لذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، و طائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، و هذا تخريج حسن، لأن اللّه إذا علم من أحد أنه يؤمن و وفقه لذلك فكأنه أذن له فيه، و حقيقة الإذن: التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه، و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، معناه: بالمعصية و النفاق، و نقصها حظها من الإيمان و «استغفروا الله» معناه: طلبوا مغفرته، و تابوا إليه رجعوا، و تَوَّاباً : معناه راجعا بعباده.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4): الآيات 65 الى 68]
قال الطبري: قوله: فَلا رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله، وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ .
قال القاضي أبو محمد رحمه اللّه: و قال غيره: إنما قدم «لا» على القسم اهتماما بالنفي، و إظهارا لقوته، ثم كررها بعده تأكيدا للتهمم بالنفي، و كان يصح إسقاط لا الثانية، و يبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، و كان يصح إسقاط الأولى و يبقى معنى النفي، و يذهب معنى الاهتمام، و شَجَرَ معناه: اختلط و التف من أمورهم، و هو من الشجر، شبيه بالتفاف الأغصان، و كذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه، و قرأ أبو السمال «شجر» بإسكان الجيم.
قال القاضي أبو محمد: و أظنه فر من توالي الحركات، و ليس بالقوي، لخفة الفتحة، و يُحَكِّمُوكَ نصب بحتى، لأنها هاهنا غاية مجردة، و يَجِدُوا عطف عليه، و الحرج: الضيق و التكلف و المشقة، قال مجاهد: حَرَجاً ، شكا، و قوله: تَسْلِيماً مصدر مؤكد، منبىء على التحقيق في التسليم، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] و قد تجيء به مبالغة و إن لم يقع، و منه: «و عجت عجيجا من جدام المطارف».
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص: 75
و قال مجاهد و غيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، و فيهم نزلت، و رجح الطبري هذا، لأنه أشبه بنسق الآية و قالت طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة، فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب ذلك الرجل و قال إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و استوعب للزبير حقه، فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء، فنزلت الآية، و اختلف أهل هذا القول في الرجل، فقال قوم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر، و قال مكي و غيره: هو حاطب بن أبي بلتعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه اللّه: و الصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار، و أن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك، و قالت طائفة: لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى اللّه عليه و سلم، بلغ ذلك النبي و عظم عليه، و قال: ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله.
و كَتَبْنا معناه فرضنا، و اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معناه ليقتل بعضكم بعضا، و قد تقدم نظيره في البقرة، و ضم النون من أَنِ و كسرها جائز، و كذلك الواو من أَوِ اخْرُجُوا و بضمها قرأ ابن عامر و نافع و ابن كثير و الكسائي، و بكسرها قرأ حمزة و عاصم، و كسر أبو عمرو النون و ضم الواو، و قَلِيلٌ رفع على البدل من الضمير في فَعَلُوهُ ، و قرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلا»، و ذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب.
و سبب الآية على ما حكي: أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام: ما رأينا أسخف من هؤلاء، يؤمنون بمحمد و يتبعونه، و يطؤون عقبة، ثم لا يرضون بحكمه، و نحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، و بلغ القتل فينا سبعين ألفا فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلناه، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين، و أنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه، و ما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت و غيره، و كذلك روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: ثابت بن قيس و عمار و ابن مسعود من القليل. و شركهم في ضمير مِنْهُمْ لما كان المنافقون و المؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام و ظواهر الشريعة، و قال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، و الحمد للّه الذي عافانا، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، و ذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق، و ذكر النقاش: أنه عمر بن الخطاب، و ذكر عن أبي بكر أنه قال: لو كتب علينا لبدأت بنفسي و بأهل بيتي.
و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا و أنابوا لكان خيرا لهم، و تَثْبِيتاً معناه: يقينا و تصديقا و نحو هذا، أي يثبتهم اللّه، ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر، و وصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم، و «الصراط المستقيم»: الإيمان المؤدي إلى الجنة، و جاء ترتيب هذه الآية كذا، و معلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان اللّه ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: و لهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص: 76
قوله تعالى:
[سورة النساء (4): الآيات 69 الى 70]
لما ذكر اللّه الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله، و هذه الآية تفسير قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 5]، و قالت طائفة إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد اللّه بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان، يا رسول اللّه إذا مت و متنا كنت في عليين فلا نراك و لا نجتمع بك، و ذكر حزنه على ذلك، فنزلت هذه الآية، و حكى مكي عن عبد اللّه هذا، أنه لما مات النبي عليه السلام، قال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده، فعمي، و ذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو نحوه، حكاه الطبري عن ابن جبير و قتادة و السدي.
قال القاضي أبو محمد: و معنى- أنهم معهم- أنهم في دار واحدة، و متنعم واحد، و كل من فيها قد رزق الرضا بحاله، و ذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، و إن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، و على قدر فضل اللّه على من شاء، و «الصدّيق» فعيل من الصدق، و قيل من الصدقة. و روي عن النبي عليه السلام، الصديقون المتصدقون، و الشهداء المقتولون في سبيل اللّه، هم المخصوصون بفضل الميتة، و هم الذين فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل و الصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم. و سموا بذلك لأن اللّه شهد لهم بالجنة، و قيل لأنهم شهدوا للّه بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته، و لكن لفظ، الشُّهَداءِ في هذه الآية يعم أنواع الشهداء، و رَفِيقاً موحد في معنى الجمع، كما قال:
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] و نصبه على التمييز، و قيل على الحال، و الأول أصوب، و قرأ أبو السمال، «و حسن» بسكون السين، و ذلك مثل شجر بينهم.
و قوله تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ رد على تقدير معترض يقول، و ما الذي يوجب استواء أهل الطاعة و النبيين في الآخرة، و الفرق بينهم في الدنيا بيّن؟ فذكر اللّه أن ذلك بفضله لا بوجوب عليه، و الإشارة ب ذلِكَ إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم، و أيضا فلا نقرر الاستواء، بل هم معهم في دار و المنازل متباينة، ثم قال وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً و فيها معنى أن يقول، فسلموا فعل اللّه و تفضله من الاعتراض عليه، و اكتفوا بعلمه في ذلك و غيره، و لذلك أدخلت الباء على اسم اللّه، لتدل على الأمر الذي في قوله:
وَ كَفى .
قوله تعالى:
[سورة النساء (4): الآيات 71 الى 73]
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص: 77
هذا خطاب للمخلصين من أمة محمد عليه السلام، و أمر لهم بجهاد الكفار، و الخروج في سبيل اللّه، و حماية الشرع، و خُذُوا حِذْرَكُمْ ، معناه: احزموا و استعدوا بأنواع الاستعداد، فهنا يدخل أخذ السلاح و غيره، و انْفِرُوا معناه: اخرجوا مجدين مصممين، يقال: نفر الرجل ينفر بكسر الفاء نفيرا، و نفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفورا، و ثُباتٍ معناه: جماعات متفرقات، فهي كناية عن السرايا و جَمِيعاً ، معناه: الجيش الكثيف مع النبي صلى اللّه عليه و سلم، هكذا قال ابن عباس و غيره، و الثبة:
حكي أنها فوق العشرة من الرجال، وزنها فعلة بفتح العين، أصلها ثبوة، و قيل: ثبية، حذفت لامها بعد أن تحركت و انقلبت ألفا حذفا غير مقبس، و لذلك جمعت ثبون، بالواو و النون عوضا من المحذوف و كسر أولها في الجمع دلالة على خروجها عن بابها، لأن بابها أن تجمع بالتاء أبدا، فيقال: ثُباتٍ ، و تصغر ثبية أصلها ثبيوة، و أما ثبة الحوض و هي وسطه الذي يثوب الماء إليه، فالمحذوف منها العين، و أصلها ثوبة و تصغيرها ثوبية، و هي من ثاب يثوب، و كذلك قال أبو علي الفارسي في بيت أبي ذؤيب: [الطويل]
فلمّا جلاها بالأيام تحيّزت
ثبات عليها ذلّها و اكتئابها
انه اسم مفرد ليس يجمع سيق على الأصل، لأن أصل ثبة ثبوة، تحركت بالواو و انفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، فساقها أبو ذؤيب في هذه الحال.
و قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْكُمْ إِنَ إيجاب، و الخطاب لجماعة المؤمنين، و المراد ب «من» المنافقون، و عبر عنهم ب مِنْكُمْ إذ هم في عداد المؤمنين، و منتحلون دعوتهم، و اللام الداخلة على «من» لام التأكيد، دخلت على اسم إِنَ لما كان الخبر متقدما في المجرور، و ذلك مهيع في كلامهم، كقولك: إن في الدار لزيدا، و اللام الداخلة على لَيُبَطِّئَنَ لام قسم عند الجمهور، تقديره وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ و اللّه لَيُبَطِّئَنَ و قيل: هي لام تأكيد، و لَيُبَطِّئَنَ معناه: يبطىء غيره أي يثبطه و يحمله على التخلف عن مغازي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و قرأ مجاهد «ليبطئن» بالتخفيف في الطاء، و مُصِيبَةٌ يعني من قتل و استشهاد، و إنما هي مصيبة بحسب اعتقاد المنافقين و نظرهم الفاسد، أو على أن الموت كله مصيبة كما شاءه اللّه تعالى، و إنما الشهادة في الحقيقة نعمة لحسن مآلها، و شَهِيداً معناه مشاهدا فالمعنى: أن المنافق يسره غيبه إذا كانت شدة و ذلك يدل على أن تخلفه إنما هو فزع من القتال و نكول عن الجهاد.
و قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ الآية، المعنى و لئن ظفرتم و غنمتم و كل ذلك من فضل اللّه، ندم المنافق إن لم يحضر و يصب الغنيمة، و قال: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ، متمنيا شيئا قد كان عاهد أن يفعله ثم غدر في عهده، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع له من الحضور عذرا واضحا، و أمرا لا قدرة له معه، فهو يتأسف بعد ذلك على فوات الخير، و المنافق يعاطي المؤمنين المودة، و يعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقا و شكا و كفرا باللّه و رسوله، ثم يتمنى عند ما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين، فعلى هذا يجيء قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص: 78
التفاتة بليغة، و اعتراضا بين القائل و المقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم. و حكى الطبري عن قتادة و ابن جريج، أنهما كانا يتأولان قول المنافق يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة، و قرأ الحسن لَيَقُولَنَ بضم اللام على معنى «من» و ضم اللام لتدل على الواو المحذوفة. و يدل مجموع هاتين الآيتين على أن خارج المنافقين فإنما كان يقصد الغنيمة، و متخلفهم إنما كان يقصد الشك و تربص الدوائر بالمؤمنين و كَأَنْ مضمنة معنى التشبيه، و لكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم و الخبر، و إنما تجيء بعدها الجمل، و قرأ ابن كثير و عاصم في رواية حفص «تكن» بتاء، و قرأ غيرهما «يكن» بياء، و ذلك حسن للفصل الواقع بين الفعل و الفاعل، و قوله: فَأَفُوزَ نصب بالفاء في جواب التمني، و قرأ الحسن و يزيد النحوي فَأَفُوزَ بالرفع على القطع و الاستئناف، التقدير: فأنا أفوز. قال روح: لم يجعل ل «ليت» جوابا. و قال الزجّاج: إن قوله: كأن لم يكن بينكم و بينه مودة مؤخر. و إنما موضعه فإن أصابتكم مصيبة.
قال القاضي أبو محمد رحمه اللّه: و هذا ضعيف لأنه يفسد فصاحة الكلام.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4): الآيات 74 الى 75]
هذا أمر من اللّه عز و جل للمؤمنين الذين و صفهم بالجهاد في سبيل اللّه، و يَشْرُونَ معناه: يبيعون في هذا الموضع، و إن جاء في مواضع: يشترون، فالمعنى هاهنا يدل على أنه بمعنى «يبيعون» ثم وصف اللّه ثواب المقاتل في سبيل اللّه، فذكر غايتي حالتيه، و اكتفى بالغايتين عما بينهما، و ذلك أن غاية المغلوب في القتال أن يقتل، و غاية الذي يقتل و يغنم أن يتصف بأنه غالب على الإطلاق، «و الأجر العظيم»: الجنة، و قالت فرقة، «فليقاتل» بسكون لام الأمر، و قرأت فرقة «فليقاتل» بكسرها، و قرأ محارب بن دثار «فيقتل أو يغلب» على بناء الفعلين للفاعل، و قرأ الجمهور نُؤْتِيهِ بالنون، و قرأ الأعمش و طلحة بن مصرف «فسوف يؤتيه» بالياء.
و قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ اللام متعلقة بما يتعلق بالمستفهم عنه من معنى الفعل، تقديره و أي شيء موجود أو كائن أو نحو ذلك لكم، و لا تُقاتِلُونَ في موضع نصب على الحال، تقديره تاركين أو مضيعين. و قوله: وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على اسم اللّه تعالى، أي و في سبيل المستضعفين، و قيل:
عطف على «السبيل»، أي و في المستضعفين لاستنقاذهم، و يعني ب الْمُسْتَضْعَفِينَ من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش و أذاهم لا يستطيعون خروجا، و لا يطيب لهم على الأذى إقامة، و في هؤلاء كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول «اللهم أنج سلمة بن هشام و عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص: 79
المستضعفين من المؤمنين». و الْوِلْدانِ بابه أن يكون جمع وليد، و قد يكون جمع ولد كورل و ورلان، فهي على الوجهين عبارة عن الصبيان، و القرية هاهنا مكة بإجماع من المتأولين.
قال القاضي أبو محمد: و الآية تتناول المؤمنين و الأسرى و حواضر الشرك إلى يوم القيامة، و وحد الظالم لأنه موضع اتخاذ الفعل، ألا ترى أن الفعل إنما تقديره الذي ظلم أهلها، و لما لم يكن للمستضعفين حيلة إلا الدعاء، دعوا في الاستنقاذ و فيما يواليهم من معونة اللّه تعالى و ما ينصرهم على أولئك الظلمة من فتح اللّه تبارك و تعالى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4): الآيات 76 الى 77]
هذه الآية تقتضي تقوية قلوب المؤمنين و تحريضهم، و الطَّاغُوتِ كل ما عبد و اتبع من دون اللّه، و تدل قرينة ذكر الشيطان بعد ذلك على أن المراد ب الطَّاغُوتِ هنا الشيطان، و إعلامه تعالى بضعف كَيْدَ الشَّيْطانِ تقوية لقلوب المؤمنين، و تجرئة لهم على مقارعة الكيد الضعيف، فإن العزم و الحزم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره و يهده، و دخلت كان دالة على لزوم الصفة.
و قوله: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ؟ فقال ابن عباس و غيره: كان عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و المقداد بن عمرو الكندي و جماعة سواهم قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة و سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين، فأمرهم اللّه تعالى بكف الأيدي، و أن لا يفعلوا، فلما كان بالمدينة و فرض القتال، شق ذلك على بعضهم و صعب موقعه، و لحقهم ما يلحق البشر من الخور و الكع عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم، و قال قوم:
كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة و الزكاة و نحوها و الموادعة و كف الأيدي، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم و جزعوا له، فنزلت الآية فيهم، و قال مجاهد و ابن عباس أيضا: إنما الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، و نهي المؤمنين عن فعل مثله، و قالت فرقة: المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد اللّه بن أبيّ و أمثاله، و ذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة و عدم القتال، فلما نزل القتال شق عليهم و صعب عليهم صعوبة شديدة، إذ كانوا مكذبين بالثواب، ذكره المهدوي.