کتابخانه تفاسیر
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج4، ص: 315
كان قطع الطريق بالسلب فاشيا فيهم، و قال ابن زيد: كانوا يقطعون الطرق على الناس لطلب الفاحشة فكانوا يخيفون، و قالت فرقة: بل أراد قطع سبيل النسل في ترك النساء و إتيان الرجال، و قالت فرقة: أراد أنهم لقبح الأحدوثة عنهم يقطعون سبل الناس عن قصدهم في التجارات و غيرها، و «النادي» المجلس الذي يجتمع فيه الناس و هو اسم جنس لأن الأندية في المدن كثيرة فكأنه قال و تأتون في اجتماعكم حيث اجتمعتم.
و اختلف الناس في الْمُنْكَرَ ، فقالت فرقة كانوا يحذفون الناس بالحصباء و يستخفون بالغريب و الخاطر عليهم و روته أم هاني عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و كانت حلقهم مهملة لا يربطهم دين و لا مروءة، و قال مجاهد و منصور: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم و بعضهم يرى بعضا، و قال القاسم بن محمد:
منكرهم أنهم كانوا يتفاعلون في مجالسهم، ذكره الزهراوي، و قال ابن عباس كانوا يتضارطون و يتصافعون في مجالسهم، و قال مجاهد أيضا: كان أمرهم لعب الحمام و تطريف الأصابع بالحناء و الصفير و الحذف و نبذ الحياء في جميع أمورهم و قد توجد هذه الأمور في بعض عصاة أمة محمد صلى اللّه عليه و سلم فالتناهي واجب، فلما وقفهم لوط على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب و اللجاج فقالوا ائْتِنا بالعذاب، أي أن ذلك لا يكون و لا تقدر عليه، و هم لم يقولوا هذا إلا و هم مصممون على اعتقاد كذبه، و ليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا، ثم استنصر لوط عليه السلام ربه عليهم، فبعث ملائكة لعذابهم و رجمهم بالحاصب فجاؤوا إبراهيم أولا مبشرين بإسحاق و مبشرين بنصرة لوط على قومه، و كان لقاؤهم لإبراهيم على الصورة التي بينت في غير هذه الآية، فلفظة «البشرى» في هذه الآية تتضمن أمر إسحاق و نصرة لوط، و لما أخبره بإهلاك القرية على ظلمهم أشفق إبراهيم على لوط فعارضهم بأمره حسبما يأتي.
قوله عز و جل:
[سورة العنكبوت (29): الآيات 32 الى 35]
روي عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما علم من قبل الملائكة أن قرية لوط تعذب أشفق على المؤمنين فجادل الملائكة و قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم مائة بيت من المؤمنين أ تتركونهم، قالوا ليس فيهم ذلك، فجعل ينحدر حتى انتهى إلى عشرة أبيات، فقال له الملائكة ليس فيهم عشرة و لا خمسة و لا ثلاثة و لا اثنان، فحينئذ قال إبراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً فراجعوه حينئذ بأنا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها أي لا تخف أن يقع حيف على مؤمن، و قرأ نافع و أبو عمرو و ابن عامر «لننجّينّه» بفتح النون الوسطى و شد الجيم و «منجّوك» بفتح النون و شد الجيم.
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج4، ص: 316
و قرأ حمزة و الكسائي «لننجينه» بسكون النون و تخفيف الجيم، «و منجوك»، بسكون النون و تخفيف الجيم، و قرأ ابن كثير و عاصم في رواية أبي بكر «لننجّينه» بالتشديد و «منجوك» بالتخفيف، و قرأت فرقة «لننجينه» بسكون النون الأخيرة من الكلمة و هذا إنما يجيء على أنه خفف النون المشددة و هو يريدها، و امرأة لوط هذه كانت كافرة تعين عليه و تنبه على أضيافه، و «الغابر» الباقي و معناه مِنَ الْغابِرِينَ في العذاب، و قالت فرقة مِنَ الْغابِرِينَ أي ممن عمر و بقي من الناس و عسا في كفره، و الضمير في بِهِمْ في الموضعين عائد على الأضياف الرسل، و ذلك من تخوفه لقومه عليهم فلما أخبروه بما هم فيه فرج عنه، و قرأ عامة القراء «سيء» بكسر السين، و قرأ عيسى و طلحة بضمها، و «الرجز»، العذاب، و قوله: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ، أي عذابهم بسبب فسقهم، و كذلك كل أمة عذبها اللّه، فإنما عذبها على الفسوق و المعصية لكن بأن يقترن ذلك بالكفر الذي يوجب عذاب الآخرة، و قرأ أبو حيوة و الأعمش «يفسقون» بكسر السين، و قوله تعالى: وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من خبرها و ما بقي من أثرها، ف «من» لابتداء الغاية و يصح أن تكون للتبعيض على أن يريد ما ترك من بقايا بناء القرية و منظرها، و «الآية» موضع العبرة و علامة القدرة و مزدجر النفوس عن الوقوع في سخط اللّه تعالى، و قرأ جمهور القراء «منزلون» بتخفيف الزاي، و قرأ ابن عامر «منزّلون» بشد الزاي و هي قراءة الحسن و عاصم بخلاف عنهما، و قرأ الأعمش «إنا مرسلون» بدل مُنْزِلُونَ ، و قرأ ابن محيصن «رجزا» بضم الراء.
قوله عز و جل:
[سورة العنكبوت (29): الآيات 36 الى 38]
نصب شُعَيْباً بفعل مضمر يحسن مع إلى تقديره بعثنا أو أرسلنا، فأمر شعيب بعبادة اللّه تعالى و الإيمان بالبعث و اليوم الآخر و مع الإيمان به يصح رجاؤه، و ذهب أبو عبيدة إلى أن المعنى و خافوا، و تَعْثَوْا ، معناه تفسدون، يقال عثا يعثو وعث يعث و عاث يعيث و عثى يعثي إذا فسد، و أهل مَدْيَنَ قوم شعيب هذا على أنها اسم البلدة، و قيل مَدْيَنَ اسم القبيلة و أصحاب الأيكة و غيرهم، و قيل هم بعضهم و منهم و ذلك أن معصيتهم في أمر الموازين و المكاييل كانت واحدة.
و الرَّجْفَةُ ميد الأرض بهم و زلزلتها عليهم و تداعيها بهم و ذلك نحو من الخسف، و منه الإرجاف بالأخبار، و «الجثوم» في هذا الموضع تشبيه، أي كان همودهم على الأرض كالجثوم الذي هو للطائر و الحيوان، و منه قول لبيد: [الكامل]
فغدوت في غلس الظلام و طيره
غلب على خضل العضاة جثوم
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج4، ص: 317
و قوله وَ عاداً منصوب بفعل مضمر تقديره و اذكر عادا، و قيل هو معطوف على الضمير في قوله فَأَخَذَتْهُمُ ، و قال الكسائي هو معطوف على قوله وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: 3]، و قرأ، «و ثمودا» عاصم و أبو عمرو و ابن وثاب، و قرأ «و ثمود» بغير تنوين أبو جعفر و شيبة و الحسن، و قرأ ابن وثاب «و عاد و ثمود» بالخفض و التنوين، ثم دل عز و جل على ما يعطي العبرة في بقايا مَساكِنِهِمْ و رسوم منازلهم و دثور آثارهم، و قرأ الأعمش «تبين لكم مساكنهم» دون «من»، و قوله تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ عطف جملة من الكلام على جملة، و السَّبِيلِ ، هي طريق الإيمان باللّه و رسله، و منهج النجاة من النار، و قوله، مُسْتَبْصِرِينَ ، قال ابن عباس و مجاهد و الضحاك معناه لهم بصيرة في كفرهم و إعجاب به و إصرار عليه فذمهم بذلك، و قيل لهم بصيرة في أن الرسالة و الآيات حق لكنهم كانوا مع ذلك يكفرون عنادا و يردهم الضلال إلى مجاهله و متالفه، فيجري هذا مجرى قوله تعالى في غيرهم وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14]، و تزيين الشيطان هو بالوسواس و مناجاة ضمائر الناس، و تزيين اللّه تعالى الشيء هو بالاختراع و خلق محبته و التلبس به في نفس العبد.
قوله عز و جل:
[سورة العنكبوت (29): الآيات 39 الى 40]
نصب قارُونَ إما بفعل مضمر تقديره اذكر و إما بالعطف على ما تقدم، و قارُونَ من بني إسرائيل و هو الذي تقدمت قصته في الكنوز و في البغي على موسى بن عمران عليه السلام، وَ فِرْعَوْنَ مشهور، و هامانَ وزيره، و هو من القبط، و «البينات» المعجزات و الآيات الواضحة، و سابِقِينَ ، معناه مفلتبن من أخذنا و عقابنا، و قيل معناه سابِقِينَ أولياءنا، و قيل معناه ما كانُوا سابِقِينَ الأمم إلى الكفر، أي قد كانت تلك عادة أمم مع رسل، و الذين أرسل عليهم الحاصب قال ابن عباس: هم قوم لوط.
قال الفقيه الإمام القاضي: و يشبه أن يدخل قوم عاد في «الحاصب» لأن تلك الريح لا بد أنها كانت تحصبهم بأمور مؤذية، و «الحاصب» هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء، و منه قول الأخطل:
[الكامل]
ترمي العضاة بحاصب من ثلجها
حتى يبيت على العضاة جفالا
و منه قول الفرزدق: [البسيط]
مستقبلين شمال الشام تضربهم
بحاصب كنديف القطن منثور
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج4، ص: 318
و الذين أخذتهم الصَّيْحَةُ قوم ثمود، قاله ابن عباس و قال قتادة: هم قوم شعيب، و «الخسف» كان بقارون، قاله ابن عباس.
قال الفقيه الإمام القاضي: و يشبه أن يكون أصحاب الرجفة في هذا النوع من العذاب، و الغرق كان في قوم نوح، و به فسر ابن عباس و في فرعون و حزبه، و به فسر قتادة، و ظلمهم أنفسهم كان بالكفر و وضع العبادة في غير موضعها و قدم المفعول على يَظْلِمُونَ للاهتمام و هذا نحو إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] و غيره، و حكى الطبري عن قتادة أن رجفة قوم شعيب كان صيحة أرجفتهم على هذا مع ثمود.
قوله عز و جل:
[سورة العنكبوت (29): الآيات 41 الى 43]
شبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام و بنائهم جميع أمورهم على ذلك ب الْعَنْكَبُوتِ التي تبني و تجتهد و أمرها كلها ضعيف متى مسته أدنى هابة أذهبته فكذلك أمر أولئك و سعيهم مضمحل لا قوة له و لا معتمد، و من حديث ذكره النقاش «العنكبوت شيطان مسخه اللّه تعالى فاقتلوه»، و روي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر»، و قوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، أي يَعْلَمُونَ أن هذا مثلهم و أن حالهم و نسبتهم من الحق هذه الحال، و قوله إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ .
قرأ أبو عمرو و سلام «يعلم ما» بالإدغام، و قرأ عامة القراء بالفك، و قرأ الجمهور «تدعون» بالتاء من فوق، و قرأ أبو عمرو و عاصم بخلاف «يدعون» بالياء من تحت على الغيبة، فأما موضع ما من الإعراب فقيل معناه أن اللّه يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء أن حالهم هذه و أنهم لا قدرة لهم، و قيل قوله إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إخبار تام، و قوله وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ متصل به، و اعترض بين الكلامين ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، و ذلك على هذا النحو من النظر يحتمل معنيين أحدهما أن تكون ما نافية أي لستم تدعون شيئا له بال و لا قدر و لا خلاق فيصلح أن يسمى شيئا و في هذا تعليق يَعْلَمُ و فيه نظر، الثاني أن تكون ما استفهاما كأنه قرر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ما هو إذ لم يكن اللّه تعالى أي ليس لهم على هذا التقرير جواب مقنع البتة، ف مِنْ على القول الأول و الثالث للتبعيض المجرد، و على القول الوسط هي زائدة في الجحد و معناها التأكيد، و قال أبو علي ما استفهام نصب ب يَدْعُونَ و لا يجوز نصبها ب يَعْلَمُ ، و التقدير أن اللّه يعلم أوثانا تدعون من دونه أو غيره لا يخفى ذلك عليه، و قوله وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ إشارة إلى هذا المثل و نحوه، و نَضْرِبُها مأخوذ من الضرب
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج4، ص: 319
أي النوع كما تقول هذان من ضرب واحد و هذا ضريب هذا أي قرينه و شبهه، فكأن ضرب المثل هو أن يجعل للأمر الممثل ضريب، و باقي الآية بين. و قرأت فرقة «يدعون» بالياء من تحت، و قرأت فرقة «تدعون» بالتاء على المخاطبة، و قال جابر: قال النبي صلى اللّه عليه و سلم في قوله إِلَّا الْعالِمُونَ : «العالم من عقل عن اللّه فعمل بطاعته و انتهى عن معصيته».
قوله عز و جل:
[سورة العنكبوت (29): الآيات 44 الى 45]
نبه في ذكر خلق السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ على أمر يوقع الذهن على صغر قدر الأوثان و كل معبود من دون اللّه، و قوله تعالى: بِالْحَقِ أي بالواجب النير لا للعبث و اللعب، بل ليدل على سلطانه و يثبت شرائعه و يضع الدلالات لأهلها و يعم بالمنافع إلى غير ذلك مما لا يحصى عدا، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره و تلاوة القرآن الذي أوحي إليه، و إقامة الصلاة أي إدامتها و القيام بحدودها ثم أخبر حكما منه إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى صاحبها و ممتثلها عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ .
قال الفقيه الإمام القاضي: و ذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع و الإخبات و تذكر اللّه تعالى و توهم الوقوف بين يدي العظمة، و أن قلبه و إخلاصه مطلع عليه مرقوب صلحت لذلك نفسه و تذللت و خامرها ارتقاب اللّه تعالى فاطرد ذلك في أقواله و أعماله و انتهى عن الفحشاء و المنكر، و لم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله، فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، و قد روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد و اصفر لونه فكلم في ذلك فقال: إني أقف بين يدي اللّه تعالى و حق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهذه صلاة تنهى و لا بد عن الفحشاء و المنكر، و من كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها و لا تذكر و لا فضائل فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص تبعده من اللّه تركته الصلاة يتمادى على بعده و على هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود و ابن عباس و الحسن و الأعمش قولهم «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم تزده من اللّه إلا بعدا». و قد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و ذلك غير صحيح السند، سمعت أبي رضي اللّه عنه يقوله فإذا قررناه و نظرنا معناه فغير جائز أن نقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من اللّه حتى كأنها معصية، و إنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من اللّه تعالى بل تتركه في حاله و معاصيه من الفحشاء و المنكر تبعده، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان بسبيله، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن اللّه تعالى، و قيل لابن مسعود إن فلانا كثير الصلاة، فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها، و قرأ الربيع بن أنس «إن الصلاة تأمر بالمعروف و تنهى عن الفحشاء و المنكر»، و قال ابن عمر الصَّلاةَ هاهنا
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج4، ص: 320
القرآن، و قال حماد بن أبي سليمان و ابن جريج و الكلبي: إن الصلاة تنهى ما دمت فيها.
قال الفقيه الإمام القاضي: و هذه عجمة و أنى هذا مما روى أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا يدع شيئا من الفواحش و السرقة إلا ركبه، فقيل ذلك للنبي صلى اللّه عليه و سلم فقال «إن صلاته ستنهاه»، فلم يلبث أن تاب و صلحت حاله، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «ألم أقل لكم»؟ و قوله تعالى: وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عباس و أبو الدرداء و سلمان و ابن مسعود و أبو قرة: معناه، وَ لَذِكْرُ اللَّهِ إياكم أَكْبَرُ من ذكركم إياه، و قيل معناه وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء و المنكر، قال ابن زيد و قتادة معناه وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ من كل شيء، و قيل لسلمان أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ . و منه حديث الموطأ عن أبي الدرداء «ألا أخبركم بخير أعمالكم؟» الحديث، و قيل معناه وَ لَذِكْرُ اللَّهِ كبير كأنه يحض عليه في هذين التأويلين الأخيرين.
قال الفقيه الإمام القاضي: و عندي أن المعنى وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء و المنكر.
فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك و كذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر مراقب، و ثواب ذلك الذكر أن يذكره اللّه تعالى كما في الحديث «و من ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه»، و الحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي، و الذكر النافع هو مع العلم و إقبال القلب و تفرغه إلا من اللّه تعالى، و أما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى، و ذكر اللّه تعالى العبد هو إفاضة الهدى و نور العلم عليه، و ذلك ثمرة لذكر العبد ربه، قال اللّه عز و جل فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152]، و باقي الآية ضرب من التوعد و الحث على المراقبة.
قوله عز و جل:
[سورة العنكبوت (29): آية 46]
قرأ الجمهور «إلا» على الاستثناء، و قرأ ابن عباس «ألا» بفتح الهمزة و تخفيف اللام، و اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية، فقال ابن زيد: معناها «لا تجادلوا» من آمن بمحمد من أَهْلَ الْكِتابِ فكأنه قال أَهْلَ الْكِتابِ المؤمنين إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم و غير ذلك، و قوله تعالى على هذا التأويل إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يريد به من بقي على كفره منهم، كمن كفر و غدر من قريظة و النضير و غيرهم، و الآية على هذا محكمة غير منسوخة، و قال مجاهد: المراد ب أَهْلَ الْكِتابِ اليهود و النصارى الباقون على دينهم أمر اللّه تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من الدعاء إلى اللّه تعالى و التنبيه على آياته، و أن يزال معهم عن طريق الإغلاظ و المخاشنة، و قوله على هذا التأويل إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا معناه ظلموكم و إلا فكلهم ظلمة على الإطلاق يراد بهم من لم يؤد جزية
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج4، ص: 321
الحرب، و من قال و صرح بأن للّه ولدا أو له شريك أو يده مغلولة، فالآية على هذا منسوخة في مهادنة من لم يحارب، قال قتادة هي منسوخة بقول اللّه تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29].
قال الفقيه الإمام القاضي: و الذي يتوجه في معنى الآية إنما يتضح مع معرفة الحال في وقت نزول الآية، و ذلك أن السورة مكية من بعد الآيات العشر الأول، و لم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض و لا طلب جزية و لا غير ذلك، و كانت اليهود بمكة و فيما جاورها فربما وقع بينهم و بين بعض المؤمنين جدال و احتجاج في أمر الدين و تكذيب، فأمر اللّه تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم بالمحاجة إلا بالحسنى دعاء إلى اللّه تعالى و ملاينة، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين إما بفعل، و إما بقول، و إما بإذاية محمد صلى اللّه عليه و سلم، و إما بإعلان كفر فاحش كقول بعضهم عزير ابن اللّه و نحو هذا، فإن هذه الصنيفة استثني لأهل الإسلام مقارضتها بالتغيير عليها و الخروج معها عن التي هي أحسن، ثم نسخ هذا بعد بآية القتال و الجزية و هذا قول قتادة و قوله تعالى: وَ قُولُوا آمَنَّا الآية، قال أبو هريرة كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم، وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . و روى عبد اللّه بن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم و قد ضلوا إما أن تكذبوا بحق و إما أن تصدقوا بباطل».
قوله عز و جل:
[سورة العنكبوت (29): الآيات 47 الى 49]