کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 181
عليه فيكون معنى قولهم: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً معناه يا ليتنا نرد فنكون من المؤمنين حتى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالة على وقوع الشفاعة.
و في التوحيد،: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبي ص قال: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي- فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر، و الله تعالى يقول: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى و من ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال (ع): ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه، و قال النبي ص: كفى بالندم توبة، و قال (ص) من سرته حسنة و ساءته سيئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن- و لم تجب له الشفاعة و كان ظالما- و الله تعالى ذكره يقول: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ ، فقيل له: يا بن رسول الله- و كيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه- فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي- و هو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، و متى لم يندم عليها كان مصرا و المصر لا يغفر له، لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم- و قد قال النبي ص: لا كبيرة مع الاستغفار- و لا صغيرة مع الإصرار، و أما قول الله عز و جل: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى - فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، و الدين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب- لمعرفته بعاقبته في القيامة.
أقول: قوله (ع) و كان ظالما، فيه تعريف الظالم يوم القيامة و إشارة إلى ما عرفه به القرآن حيث يقول: «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ» : الأعراف- 44 و 45، و هو الذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسف على فوت أوامر الله تعالى و لا يسوؤه اقتحام محارمه إما بجحد جميع المعارف الحقة و التعاليم الدينية و إما بالاستهانة لأمرها و عدم الاعتناء بالجزاء و الدين يوم الجزاء و الدين فيكون قوله به استهزاء بأمره و تكذيبا له، و قوله (ع): فتكون تائبا مستحقا للشفاعة، أي راجعا إلى الله ذا دين
الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 182
مرضي مستحقا للشفاعة، و أما التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، و قوله (ع): و قد قال النبي لا كبيرة مع الاستغفار، إلخ تمسكه (ع) به من جهة أن الإصرار و هو عدم الانقباض بالذنب و الندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الذي له إلى شأن آخر و هو تكذيب المعاد و الظلم بآيات الله فلا يغفر لأن الذنب إنما يغفر إما بتوبة أو بشفاعة متوقفة على دين مرضي و لا توبة هناك و لا دين مرضيا.
و نظير هذا المعنى واقع
في رواية العلل، عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع): يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر- إذا بلغ في المعرفة و كمل هل يزني؟ قال: اللهم لا، قلت: فيلوط قال اللهم لا، قلت فيسرق؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر؟ قال: لا- قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر- أو فاحشة من هذه الفواحش؟ قال لا، قلت فيذنب ذنبا؟ قال: نعم و هو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم؟ قال: المسلم لا يلزمه و لا يصر عليه.
الحديث.
و في الخصال،: بأسانيد عن الرضا عن آبائه (ع) قال قال: رسول الله ص: إذا كان يوم القيامة تجلى الله عز و جل لعبده المؤمن- فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا- ثم يغفر الله له لا يطلع الله له ملكا مقربا و لا نبيا مرسلا- و يستر عليه أن يقف عليه أحد، ثم يقول لسيئاته: كوني حسنات.
و عن صحيح مسلم، مرفوعا إلى أبي ذر قال: قال رسول الله ص: يؤتى بالرجل يوم القيامة- فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه و نحوا عنه كبارها- فيقال: عملت يوم كذا و كذا و كذا- و هو مقر لا ينكر و هو مشفق من الكبائر- فيقال: أعطوه مكان كل سيئة حسنة- فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا، قال: و لقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه.
و في الأمالي،: عن الصادق (ع): إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك و تعالى رحمته- حتى يطمع إبليس في رحمته.
أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات و الأخبار الدالة على وقوع
الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 183
شفاعة النبي ص يوم القيامة من طرق أئمة أهل البيت و كذا من طرق أهل السنة و الجماعة بالغة حد التواتر، و هي من حيث المجموع إنما تدل على معنى واحد و هو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إما بالتخليص من دخول النار و إما بالإخراج منها بعد الدخول فيها، و المتيقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار و قد عرفت أن القرآن أيضا لا يدل على أزيد من ذلك.
(بحث فلسفي) [بحث آخر في الشفاعة.]
البراهين العقلية و إن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتابا و سنة في المعاد لعدم نيلها المقدمات المتوسطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ ابن سينا لكنها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقلية و المثالية في صراطي السعادة و الشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرد العقلي و المثالي الناهض عليهما البرهان.
فالإنسان في بادئ أمره يحصل له من كل فعل يفعله هيئة نفسانية و حال من أحوال السعادة و الشقاوة، و نعني بالسعادة ما هو خير له من حيث إنه إنسان، و بالشقاوة ما يقابل ذلك، ثم تصير تلك الأحوال بتكررها ملكة راسخة، ثم يتحصل منها صورة سعيدة أو شقية للنفس تكون مبدأ لهيئات و صور نفسانية، فإن كانت سعيدة فآثارها وجودية ملائمة للصورة الجديدة، و للنفس التي هي بمنزلة المادة القابلة لها، و إن كانت شقية فآثارها أمور عدمية ترجع بالتحليل إلى الفقدان و الشر، فالنفس السعيدة تلتذ بآثارها بما هي إنسان، و تلتذ بها بما هي إنسان سعيد بالفعل، و النفس الشقية و إن كانت آثارها مستأنسة لها و ملائمة بما أنها مبدأ لها لكنها تتألم بها بما أنها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة و الشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتا و الصالح عملا و الإنسان الشقي ذاتا و الطالح عملا، و أما الناقصة في سعادتها و شقاوتها فالإنسان السعيد ذاتا الشقي فعلا بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحق الثابت غير أن في نفسه هيئات شقية ردية من الذنوب و الآثام اكتسبتها حين تعلقها بالبدن الدنيوي و ارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي أمور قسرية غير ملائمة لذاته، و قد أقيم البرهان على أن القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهر منها في برزخ أو
الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 184
قيمة على حسب قوة رسوخها في النفس، و كذلك الأمر فيما للنفس الشقية من الهيئات العارضة السعيدة فإنها ستسلب عنها و تزول سريعا أو بطيئا، و أما النفس التي لم تتم لها فعلية السعادة و الشقاوة في الحياة الدنيا حتى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عز و جل، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب و العقاب المقتضية لكونها من لوازم الأعمال و نتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعية الاعتبارية بالآخرة إلى روابط حقيقية وجودية هذا.
ثم إن البراهين قائمة على أن الكمال الوجودي مختلف بحسب مراتب الكمال و النقص و الشدة و الضعف و هو التشكيك خاصة في النور المجرد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب و البعد من مبدإ الكمال و منتهاه في سيرها الارتقائي و عودها إلى ما بدأت منها و هي بعضها فوق بعض، و هذه شأن العلل الفاعلية (بمعنى ما به) و وسائط الفيض، فلبعض النفوس و هي النفوس التامة الكاملة كنفوس الأنبياء (ع) و خاصة من هو في أرقى درجات الكمال و الفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقية الردية القسرية من نفوس الضعفاء، و من دونهم من السعداء إذا لزمتها قسرا، و هذه هي الشفاعة الخاصة بأصحاب الذنوب.
(بحث اجتماعي) [بحث آخر في الشفاعة.]
الذي تعطيه أصول الاجتماع أن المجتمع الإنساني لا يقدر على حفظ حياته و إدامة وجوده إلا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، و الحكومة في أعمال الأفراد و شئونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع و غريزة الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كل على حسب ما يلائم شأنه و يناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيرا حثيثا و يتولد بتألف أطرافه و تفاعل متفرقاته العدل الاجتماعي و هي موضوعة على مصالح و منافع مادية يحتاج إليها ارتقاء الاجتماع المادي، و على كمالات معنوية كالأخلاق الحسنة الفاضلة التي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول و الوفاء بالعهد و النصح و غير ذلك، و حيث كانت القوانين و الأحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقررة أخرى في المجازاة لتكون
الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 185
هي الحافظة لحماها عن تعدي الأفراد المتهوسين و تساهل آخرين، و لذلك كلما قويت حكومة (أي حكومة كانت) على إجراء مقررات الجزاء لم يتوقف المجتمع في سيره و لا ضل سائره عن طريقه و مقصده، و كلما ضعفت اشتد الهرج و المرج في داخله و انحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، و إيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، و من الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلص عن حكم الجزاء، و تبعة المخالفة و العصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشيء من الحيل و الدسائس المهلكة، و لذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أن المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة و يكون الدين إذ ذاك هادما للإنسانية، مؤخرا للمدنية، راجعا بالإنسان القهقرى كما قيل. و أن الإحصاء يدل من أن المتدينين أكثر كذبا و أبعد من العدل من غيرهم و ليس ذلك إلا أنهم يتكلون بحقية دينهم، و ادخار الشفاعة في حقهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنهم خلوا و غرائزهم و فطرهم و لم يبطل حكمها بما بطل به في المتدينين فحكمت بقبح التخلف عما يخالف حكم الإنسانية و المدنية الفاضلة.
و بذلك عول جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام و قد نطق به الكتاب و تواترت عليه السنة.
و لعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الذي فسروها به، و لا الشفاعة التي تثبتها تؤثر الأثر الذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية و تطبيق ما شرعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح و المدنية الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الأصول و القوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثم يحصل ما هي الشفاعة الموعودة و ما هو محلها و موقعها بين المعارف التي جاء بها.
فيعلم أولا: أن الذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أن المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربهم بالإيمان المرضي و الدين الحق فهو وعد وعده القرآن مشروطا ثم نطق بأن الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب و لا سيما الكبائر و لا سيما الإدمان منها و الإمرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم،
الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 186
و بذلك يتحصل رجاء النجاة و خوف الهلاك، و يسلك نفس المؤمن بين الخوف و الرجاء فيعبد ربه رغبة و رهبة، و يسير في حياته سيرا معتدلا غير منحرف لا إلى خمود القنوط و لا إلى كسل الوثوق.
و ثانيا: أن الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادياتها و معنوياتها ما يستوعب جميع الحركات و السكنات الفردية و الاجتماعية، ثم اعتبر لكل مادة من موادها ما هو المناسب له من التبعة و الجزاء من دية و حد و تعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع و اللوم و الذم و التقبيح، ثم تحفظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكل على الكل بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثم أحيا ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالإنذار و التبشير بالعقاب و الثواب في الآخرة، و بنى أساس تربيته بتلقين معارف المبدإ و المعاد على هذا الترتيب.
فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبي ص و صدقه التجارب الواقع في عهده و عهد من يليه حتى أثبت به أيدي الولاة في السلطنة الأموية و من شايعهم في استبدادهم و لعبهم بأحكام الدين و إبطالهم الحدود و السياسات الدينية حتى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم و ارتفعت أعلام الحرية و ظهرت المدنية الغربية و لم يبق من الدين بين المسلمين إلا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين و ارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزلهم في الفضائل و الفواضل و انحطاطهم في الأخلاق و الآداب الشريفة و انغمارهم في الملاهي و الشهوات و خوضهم في الفواحش و المنكرات، هو الذي أجرأهم على انتهاك كل حرمة و اقتراف كل ما يستشنعه حتى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيله المعترض من استناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية التي لا غاية لها و فيها إلا سعادة الإنسان في آجله و عاجله و الله المعين، و الإحصاء الذي ذكروها إنما وقع على جمعية المتدينين و ليس عليهم قيم و لا حافظ قوي و على جمعية غير المنتحلين، و التعليم و التربية الاجتماعيان قيمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئا
[سورة البقرة (2): الآيات 49 الى 61]
الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 187
[سورة البقرة (2): الآيات 49 الى 61]
[سورة البقرة (2): الآيات 49 الى 61]