کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

الميزان فى تفسير القرآن

الجزء الأول

المقدمة في مسلك البحث التفسيري في الكتاب.

(2)«سورة البقرة و هي مائتان و ست و ثمانون آية»(286)

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

(الأخلاق) بيان (بحث روائي في البرزخ و حياة الروح بعد الموت) (بحث فلسفي) تجرد النفس أيضا. (بحث أخلاقي) (بحث روائي آخر) في متفرقات متعلقة بما تقدم

الجزء الثاني

بقية سورة البقرة

الجزء الثالث

(3) سورة آل عمران مدنية و هي مائتا آية(200)

الجزء الرابع

بقية سورة آل عمران

(4) سورة النساء مدنية و هي مائة و ست و سبعون آية(176)

الجزء الخامس

(5)«سورة المائدة مدنية و هي مائة و عشرون آية»(120)

الجزء السادس

بقية سورة المائدة

الجزء السابع

(6)(سورة الأنعام - مكية و هي مائة و خمس و ستون آية)(165)

الجزء الثامن

(7) سورة الأعراف مكية و هي مائتا و ستة آية(206)

الجزء التاسع

(9)(سورة التوبة مدنية و هي مائة و تسع و عشرون آية)(129)

الجزء العاشر

(11)(سورة هود مكية و هي مائة و ثلاث و عشرين آية)(123)

[سورة هود(11): الآيات 36 الى 49]

(بيان) (بحث روائي)

الجزء الحادي عشر

(12) سورة يوسف مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

الجزء الثاني عشر

الجزء الثالث عشر

(17) سورة الإسراء مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

(18) سورة الكهف مكية و هي مائة و عشر آيات(110)

الجزء الرابع عشر

الجزء الخامس عشر

الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر

الجزء الثامن عشر

الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون

الميزان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 318

و بالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة و علم رسوله ما ينبغي أن يجابوا و يقطع به قولهم.

أما اعتراضهم: فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شي‏ء من هذا الشرف الذاتي ما وجهه؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه و ينسخ ما شرعه، و اليهود ما كانت تعتقد النسخ (كما تقدم في آية النسخ) و إن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط و الخروج من الهداية إلى الضلال و هو تعالى و إن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.

و أما الجواب: فهو أن جعل بيت من البيوت كالكعبة أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه و لا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام و الأبنية و جميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الإنسان في أنها لا تقتضي حكما و لا يستوجب تشريعا على السواء و كلها لله يحكم فيها ما يشاء و كيف يشاء و متى يشاء، و ما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم و كمالهم الفردي و النوعي، فلا يحكم إلا ليهدي به و لا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم و صلاحهم.

قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ‏ ، أراد بهم اليهود و المشركين من العرب و لذلك عبر عنهم بالناس و إنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم و ثقوب رأيهم في أمر التشريع، و السفاهة عدم استقامة العقل و تزلزل الرأي.

قوله تعالى: ما وَلَّاهُمْ‏ ، تولية الشي‏ء أو المكان جعله قدام الوجه و أمامه كالاستقبال، قال تعالى‏ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، الآية و التولية عن الشي‏ء صرف الوجه عنه كالاستدبار و نحوه، و المعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها و هو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي و المسلمون أيام إقامته بمكة و عدة شهور بعد هجرته إلى المدينة و إنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع أن اليهود أقدم في الصلاة

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 319

إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب و أوجب للاعتراض، و إنما قيل ما وليهم عن قبلتهم و لم يقل ما ولى النبي و المسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولى النبي و المسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه و كان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه.

قوله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ‏ ، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الأصلية و الفرعية كالشمال و الجنوب و ما بين كل جهتين من الجهات الأربعة الأصلية، و المشرق و المغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم و غروبهما، يعمان جميع نقاط الأرض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال و الجنوب الحقيقيتان، و لعل هذا هو الوجه في وضع المشرق و المغرب موضع الجهات.

قوله تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ ، تنكير الصراط لأن الصراط يختلف باختلاف الأمم في استعداداتها للهداية إلى الكمال و السعادة.

قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا، و قيل إن المعنى و مثل هذا الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا (و هو كما ترى)، و أما المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس‏ فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف و لا إلى ذاك الطرف، و هذه الأمة بالنسبة إلى الناس- و هم أهل الكتاب و المشركون- على هذا الوصف فإن بعضهم- و هم المشركون و الوثنيون- إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحياة الدنيا و الاستكمال بملاذها و زخارفها و زينتها، لا يرجون بعثا و لا نشورا، و لا يعبئون بشي‏ء من الفضائل المعنوية و الروحية، و بعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية و رفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها و أولئك أصحاب الجسم أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها و الجمود عليها، لكن الله سبحانه جعل هذه الأمة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين- جانب الجسم و جانب الروح- على ما يليق به و يندب إلى جمع الفضيلتين فإن الإنسان مجموع الروح و الجسم لا روح محضا و لا جسم محضا، و محتاج‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 320

في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين و السعادتين المادية و المعنوية، فهذه الأمة هي الوسط العدل الذي به يقاس و يوزن كل من طرفي الإفراط و التفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف و النبي ص و هو المثال الأكمل من هذه الأمة- هو شهيد على نفس الأمة فهو (ص) ميزان يوزن به حال الآحاد من الأمة، و الأمة ميزان يوزن به حال الناس و مرجع يرجع إليه طرفا الإفراط و التفريط، هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية، و هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الأمة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان، و ميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى و الشهادة و هو ظاهر، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الأمة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطا، كما يترتب الغاية على المغيا و الغرض على ذيه.

على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، و اللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى‏ «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً» : النساء- 41، و قال تعالى‏ «وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» : النحل- 84 «و قال تعالى‏ وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ» : الزمر- 69، و الشهادة فيها مطلقة، و ظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم، و على تبليغ الرسل أيضا، كما يومئ إليه قوله تعالى‏ «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» : الأعراف- 6، و هذه الشهادة و إن كانت في الآخرة يوم القيامة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى- حكاية عن عيسى (ع)- «وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ» : المائدة- 117 و قوله تعالى‏ «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً» : النساء- 159، و من الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا، و القوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الأفعال و الأعمال فقط، و ذلك التحمل أيضا إنما يكون في شي‏ء يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما و لا غائبا عنه و أما حقائق الأعمال و المعاني النفسانية من الكفر و الإيمان و الفوز و الخسران، و بالجملة كل خفي عن الحس و مستبطن عند الإنسان- و هي التي تكسب‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 321

القلوب، و عليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى‏ «وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» : البقرة- 225 فهي مما ليس في وسع الإنسان إحصاؤها و الإحاطة بها و تشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره و يكشف ذلك له بيده، و يمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى‏ «وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» : الزخرف- 86، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا- و قد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء- كما مر في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحق و عالم بالحقيقة.

و الحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الأمة على دين جامع للكمال الجسماني و الروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة.

بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء و رد و قبول، و انقياد و تمرد، و أداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شي‏ء، حتى من أعضاء الإنسان، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

و من المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأمة، إذ ليست إلا كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم، و أما من دونهم من المتوسطين في السعادة، و العدول من أهل الإيمان فليس لهم ذلك، فضلا عن الأجلاف الجافية، و الفراعنة الطاغية من الأمة، و ستعرف في قوله تعالى‏ «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» : النساء- 69، إن أقل ما يتصف به الشهداء- و هم شهداء الأعمال- أنهم تحت ولاية الله و نعمته و أصحاب الصراط المستقيم، و قد مر إجمالا في قوله تعالى‏ «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» : فاتحة الكتاب- 7.

فالمراد بكون الأمة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه و منه، فكون الأمة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس و يشهد الرسول عليهم.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 322

فإن قلت: قوله تعالى‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» : الحديد- 19، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء.

قلت: قوله‏ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏ ، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، و لم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» : الطور- 21، على أن الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الأمم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الأمة فلا ينفع المستدل شيئا.

فإن قلت: جعل هذه الأمة أمة وسطا بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الأعمال و لا كون الرسول شهيدا على هؤلاء الشهداء فالإشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق.

قلت: معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الأمة وسطا فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة و الشهداء، و قد قال الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ، فَنِعْمَ الْمَوْلى‏ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ» : الحج- 78، جعل تعالى كون الرسول شهيدا عليهم و كونهم شهداء على الناس غاية متفرعة على الاجتباء و نفي الحرج عنهم في الدين ثم عرف الدين بأنه هو الملة التي كانت لأبيكم إبراهيم الذي هو سماكم المسلمين من قبل، و ذلك حين دعا لكم ربه و قال: «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» فاستجاب الله دعوته و جعلكم مسلمين، تسلمون له الحكم و الأمر من غير عصيان و استنكاف، و لذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين، فلا يشق عليكم شي‏ء منه و لا يحرج، فأنتم المجتبون المهديون إلى الصراط، المسلمون لربهم الحكم و الأمر، و قد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس، أي تتوسطوا بين الرسول و بين الناس فتتصلوا من جهة إليهم، و عند ذلك يتحقق مصداق دعائه (ع) فيكم و في الرسول‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 323

حيث قال‏ «رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ» : البقرة- 129، فتكونون أمة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب و الحكمة، و مزكين بتزكيته، و التزكية التطهير من قذرات القلوب، و تخليصها للعبودية، و هو معنى الإسلام كما مر بيانه، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديتكم، و للرسول في ذلك القدم الأول و الهداية و التربية، فله التقدم على الجميع، و لكم التوسط باللحوق به، و الناس في جانب، و في أول الآية و آخرها قرائن تدل على المعنى الذي استفدناه منها غير خفية على المتدبر فيها سنبينها في محله إن شاء الله.

فقد تبين بما قدمناه: أولا، أن كون الأمة وسطا مستتبع للغايتين جميعا، و أن قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً الآية جميعا لازم كونهم وسطا.

و ثانيا: أن كون الأمة وسطا إنما هو بتخللها بين الرسول و بين الناس، لا بتخللها بين طرفي الإفراط و التفريط، و جانبي تقوية الروح و تقوية الجسم في الناس.

و ثالثا: أن الآية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيم (ع) و أن الشهادة من شئون الأمة المسلمة.

و اعلم: أن الشهادة على الأعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختص بالشهداء من الناس، بل كل ما له تعلق ما بالعمل كالملائكة و الزمان و المكان و الدين و الكتاب و الجوارح و الحواس و القلب فله فيه شهادة.

و يستفاد منها أن الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيوية و أن لها نحوا من الحياة الشاعرة بها، تتحمل بها خصوصيات الأعمال، و ترتسم هي فيها، و ليس من اللازم أن تكون الحياة التي في كل شي‏ء، سنخا واحدا كحياة جنس الحيوان، ذات خواص و آثار كخواصها و آثارها، حتى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحياة في نحو واحد، هذا إجمال القول في هذا المقام و أما تفصيل القول في كل واحد واحد منها فموكول إلى محله اللائق به.

قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 324

يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ‏ ، المراد بقوله‏ لِنَعْلَمَ‏ : إما علم الرسل و الأنبياء مثلا، لأن العظماء يتكلمون عنهم و عن أتباعهم، كقول الأمير، قتلنا فلانا و سجنا فلانا، و إنما قتله و سجنه أتباعه لا نفسه، و إما العلم العيني الفعلي منه تعالى الحاصل مع الخلقة و الإيجاد، دون العلم قبل الإيجاد.

و الانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض، فإن الإنسان- و هو منتصب على عقبيه- إذا انقلب من جهة، إلى جهة انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الإعراض نظير قوله‏ «وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ» : الأنفال- 16، و ظاهر الآية أنه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة و نسخها، و من جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة، ما شأنها؟

و يظهر من ذلك أن المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدس الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين، و جعل الكعبة قبلة مرتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.

و بالجملة كان من المترقب أن يختلج في صدور المؤمنين: أولا، أنه لما كان من المقدر أن يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب، أولا: في جعل بيت المقدس قبلة؟

فبين سبحانه أن هذه الأحكام و التشريعات ليست إلا لأجل مصالح تعود إلى تربية الناس و تكميلهم، و تمحيص المؤمنين من غيرهم، و تمييز المطيعين من العاصين، و المنقادين من المتمردين، و السبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه، فالمراد بقوله‏ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ‏ ، إلا لنميز من يتبعك، و العدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز، و المراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حق المسلمين، و إن كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول، و الكلام على رسله من غير التفات، غير أنه بعيد من الكلام بعض البعد.

صفحه بعد