کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

الميزان فى تفسير القرآن

الجزء الأول

المقدمة في مسلك البحث التفسيري في الكتاب.

(2)«سورة البقرة و هي مائتان و ست و ثمانون آية»(286)

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

(الأخلاق) بيان (بحث روائي في البرزخ و حياة الروح بعد الموت) (بحث فلسفي) تجرد النفس أيضا. (بحث أخلاقي) (بحث روائي آخر) في متفرقات متعلقة بما تقدم

الجزء الثاني

بقية سورة البقرة

الجزء الثالث

(3) سورة آل عمران مدنية و هي مائتا آية(200)

الجزء الرابع

بقية سورة آل عمران

(4) سورة النساء مدنية و هي مائة و ست و سبعون آية(176)

الجزء الخامس

(5)«سورة المائدة مدنية و هي مائة و عشرون آية»(120)

الجزء السادس

بقية سورة المائدة

الجزء السابع

(6)(سورة الأنعام - مكية و هي مائة و خمس و ستون آية)(165)

الجزء الثامن

(7) سورة الأعراف مكية و هي مائتا و ستة آية(206)

الجزء التاسع

(9)(سورة التوبة مدنية و هي مائة و تسع و عشرون آية)(129)

الجزء العاشر

(11)(سورة هود مكية و هي مائة و ثلاث و عشرين آية)(123)

[سورة هود(11): الآيات 36 الى 49]

(بيان) (بحث روائي)

الجزء الحادي عشر

(12) سورة يوسف مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

الجزء الثاني عشر

الجزء الثالث عشر

(17) سورة الإسراء مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

(18) سورة الكهف مكية و هي مائة و عشر آيات(110)

الجزء الرابع عشر

الجزء الخامس عشر

الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر

الجزء الثامن عشر

الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون

الميزان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏4، ص: 313

أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم، و هو في نفسه دليل على كونه سنة فطرية.

على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر و الأنثى مجهزين بحسب البنية الجسمانية بوسائل التناسل و التوالد كما ذكرناه مرارا، و الطائفتان (الذكر و الأنثى) في ابتغاء ذلك شرع سواء و إن زيدت الأنثى بجهاز الإرضاع و العواطف الفطرية الملائمة لتربية الأولاد.

ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الأولاد، و تقبل قضاء الطبيعة بكون الإنسان باقيا ببقاء نسله، و تذعن بكون المرأة سكنا للرجل و بالعكس، و تحترم أصل الوراثة بعد احترامها لأصل الملك و الاختصاص، و تحترم لزوم تأسيس البيت.

و المجتمعات التي تحترم هذه الأصول و الأحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها من الإذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال و النساء على نحو يبطل الأنساب و إن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة و قوة التوالد الذي يوجبه شيوع الزنا و الفحشاء.

هذه أصول معتبرة عند جميع الأمم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء خصوا الواحد بالواحد، أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الأمم فإنهم مع ذلك يعتبرون النكاح بخاصته التي هي نوع ملازمة و مصاحبة بين الزوجين.

فالفحشاء و السفاح الذي يقطع النسل و يفسد الأنساب أول ما تبغضه الفطرة الإنسانية القاضية بالنكاح، و لا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الأمم المختلفة و المجتمعات المتنوعة حتى الأمم التي تعيش على الحرية التامة في الرجال و النساء في المواصلات و المخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه الخلاعات المسترسلة، و تراهم يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الأنساب بوجه.

و الإنسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع، و لا يحرم على نفسه ذا قرابة أو أجنبيا، و لا يجتنب الذكر من الإنسان أما و لا أختا و لا بنتا و لا

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏4، ص: 314

غيرهن، و لا الأنثى منه أبا و لا أخا و لا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ و النقل يثبت نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و غيرهن في الأمم العظيمة الراقية و المنحطة، و الأخبار تحقق الزنا الفاشي في الملل المتمدنة اليوم بين الإخوة و الأخوات، و الآباء و البنات و غيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شي‏ء، و ما كان بين هذه الأمم من اجتناب نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و ما يلحق بهن فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى بعض الآداب و الرسوم القومية.

و إنك إذا قايست القوانين المشرعة في الإسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر القوانين و السنن الدائرة في الدنيا و تأملت فيها منصفا وجدتها أدق و أضمن لجميع شئون الاحتياط في حفظ الأنساب و سائر المصالح الإنسانية الفطرية، و جميع ما شرعه من الأحكام في أمر النكاح و ما يلحق به يرجع إلى حفظ الأنساب و سد سبيل الزنا.

فالذي روعي فيه مصلحة حفظ الأنساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من النساء، و بذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإن فيه فساد الأنساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة بنفسها ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه.

و أما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها و هي أربعة عشر صنفا المعدودة في آيات التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الإنسان- و هو في المجتمع المنزلي- أكثر ما يعاشر و يختلط و يسترسل و يديم في المصاحبة إنما هو مع هذه الأصناف الأربعة عشر، و دوام المصاحبة و مساس الاسترسال يوجب كمال توجه النفس و ركوز الفكر فيهن بما يهدي إلى تنبه الميول و العواطف الحيوانية و هيجان دواعي الشهوة، و بعثها الإنسان إلى ما يستلذه طبعه، و تتوق له نفسه، و من يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام المصاحبة، و تكرر هجوم الوساوس النفسانية و ورود الهم بعد الهم لا يدع للإنسان مجال التحفظ على نهي واحد من الزنا.

بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا، و تقع عليه التربية الدينية حتى‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏4، ص: 315

يستقر في القلوب اليأس التام من بلوغهن و النيل منهن، و يميت ذلك تعلق الشهوة بهن و يقطع منبتها و يقلعها من أصلها، و هذا هو الذي نرى من كثير من المسلمين حتى في المتوغلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم، و هتك ستر الأمهات و البنات، و لو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا و نحوه.

و هذا كما أن الإسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب، و المنع عن اختلاط الرجال بالنساء و النساء بالرجال، و لو لا ذلك لم ينجح النهي عن الزنا في الحجز بين الإنسان و بين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين: إما أن يمنع الاختلاط كما في طائفة، و إما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة يتربى عليها الإنسان حتى يستوي على هذه العقيدة، لا يبصر مثاله فيما يبصر، و لا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا.

و تصديق ذلك ما نجده من حال الأمم الغربية فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى حرمة الزنا، و تعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم تلبث حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الألف منهم واحد يسلم من هذا الداء، و لا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من صلبه، ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الأخوات و البنات و الأمهات، ثم إلى ما بين الرجال و الغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم ... و ثم ... آل الأمر إلى أن صارت هذه الطائفة التي ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر، و نعمة يقيم بها صلب الإنسانية، و يطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن سياسي و اقتصادي و اجتماعي و وسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع و الفرد، و عادت الحياة الإنسانية أمنية تخيلية، و لعبا و لهوا بتمام معنى الكلمة، و قد اتسع الخرق على الراتق.

هذا هو الذي بنى عليه الإسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات و غيرها في باب النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت.

و تأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا و تسربه في المجتمع المنزلي كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا و سريان الفساد في المجتمع المدني على ما عرفت.

و قد تقدم أن قوله تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ‏ الآية، لا تخلو عن إشارة إلى هذه الحكمة، و يمكن أن تكون الإشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم:

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏4، ص: 316

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً : «النساء: 28» فإن تحريم هذه الأصناف الأربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الإنسان ثقل الصبر على هواهن و الميل إليهن و النيل منهن على إمكان من الأمر، و قد خلق الإنسان ضعيفا في قبال الميول النفسانية، و الدواعي الشهوانية، و قد قال تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ‏ : «يوسف:

28» فإن من أمر الصبر أن يعيش الإنسان مع واحدة أو أكثر من النساء الأجنبيات، و يصاحبهن في الخلوة و الجلوة، و يتصل بهن ليلا و نهارا و يمتلئ سمعه و بصره من لطيف إشاراتهن و حلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهن و لا يجيبها في ما تتوق إليه، و الحاجة إحدى الحاجتين الغذاء و النكاح، و ما سواهما فضل يعود إليهما، و كأنه هو الذي‏

أشار إليه (ص) بقوله: «من تزوج أحرز نصف دينه- فليتق الله في النصف الآخر»

«1» .

[سورة النساء (4): الآيات 29 الى 30]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

بيان‏

في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهي عن أكل المال بالباطل و كانت الآيات السابقة متضمنة للنهي عن أكل مهور النساء بالعضل و التعدي ففي الآية انتقال من الخصوص إلى العموم.

قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ» إلى قوله: «مِنْكُمْ»

(1) مروية في نكاح الوسائل.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏4، ص: 317

الأكل‏ معروف و هو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه و بلعه مثلا، و لما فيه من معنى التسلط و الإنفاد يقال: أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد الأكل الغذاء بالتناول و البلع، و يقال أيضا: أكل فلان المال أي تصرف فيه بالتسلط عليه، و ذلك بعناية أن العمدة في تصرف الإنسان في الأشياء هو التغذي بها لأنه أشد ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه و أمسه منه، و لذلك سمي التصرف أكلا لكن لا كل تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال بالتملك و نحوه كأنه ينفده ببسط سلطته عليه و التصرف فيه كما ينفد الأكل الغذاء بالأكل.

و الباطل من الأفعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي، و التجارة هي التصرف في رأس المال طلبا للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى، فتنطبق على المعاملة بالبيع و الشري.

و في تقييد قوله: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ» بقوله: «بَيْنَكُمْ» الدال على نوع تجمع منهم على المال و وقوعه في وسطهم إشعار أو دلالة بكون الأكل المنهي عنه بنحو إدارته فيما بينهم و نقله من واحد إلى آخر بالتعاور و التداول، فتفيد الجملة أعني قوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ‏ ، بعد تقييدها بقوله: بِالْباطِلِ‏ النهي عن المعاملات الناقلة التي لا تسوق المجتمع إلى سعادته و نجاحه بل تضرها و تجرها إلى الفساد و الهلاك، و هي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا و القمار و البيوع الغررية كالبيع بالحصاة و النواة و ما أشبه ذلك.

و على هذا فالاستثناء الواقع في قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ‏ ، استثناء منقطع جي‏ء به لدفع الدخل فإنه لما نهى عن أكل المال بالباطل- و نوع المعاملات الدائرة في المجتمع الفاسد التي يتحقق بها النقل و الانتقال المالي كالربويات و الغرريات و القمار و أضرابها باطلة بنظر الشرع- كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك يوجب انهدام أركان المجتمع و تلاشي أجزائها و فيه هلاك الناس فأجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع، و تقيم صلبه، و تحفظه على استقامته، و هي التجارة عن تراض و معاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع، و ذلك نظير قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏ : «الشعراء: 89» فإنه لما نفي النفع عن المال و البنين يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح يومئذ و لا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الإنسان إنما هو المال و البنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلا اليأس و الخيبة فأجيب أن هناك‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏4، ص: 318

أمرا آخر نافعا كل النفع و إن لم يكن من جنس المال و البنين و هو القلب السليم.

و هذا الذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الأوفق بسياق الآية و كون قوله:

بِالْباطِلِ‏ قيدا أصليا في الكلام نظير قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ‏ الآية: «البقرة: 188» و على هذا لا تخصص الآية بسائر المعاملات الصحيحة و الأمور المشروعة غير التجارة مما يوجب التملك و يبيح التصرف في المال كالهبة و الصلح و الجعالة و كالأمهار و الإرث و نحوها.

و ربما يقال: إن الاستثناء متصل و قوله: بِالْباطِلِ‏ قيد توضيحي جي‏ء به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى و تعلق النهي، و التقدير: لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل منهيا عنه كقولك: لا تضرب اليتيم ظلما إلا تأديبا، و هذا النحو من الاستعمال و إن كان جائزا معروفا عند أهل اللسان إلا أنك قد عرفت أن الأوفق لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء.

و ربما قيل: إن المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله، و بالتجارة صرفه فيما يرضاه. و ربما قيل: إن الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض، و أنه كان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ‏ - إلى قوله- أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً : «النور: 61» و قد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة على أمثال هذه المعاني.

و من غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتصال الاستثناء مع أخذ قوله: بِالْباطِلِ‏ قيدا احترازيا فقال ما حاصله: أن المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله فالجملة المستثنى منها تدل على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل و من غير عوض ثم استثنى من ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإن تقدير العوض بالقسطاس المستقيم بحيث يعادل المعوض عنه في القيمة حقيقة متعسر جدا لو لم يكن متعذرا.

فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر، و ما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته و ترويجها بزخرف القول من غير

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏4، ص: 319

غش و لا خداع و لا تغرير كما يقع ذلك كثيرا إلى غير ذلك من الأسباب.

و كل ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة و تسهيلا لأهلها، و لو لم يجز ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة و اختل نظام المجتمع الديني.

انتهى ملخصا.

و فساده ظاهر مما قدمناه فإن الباطل على ما يعرفه أهل اللغة ما لا يترتب عليه أثره المطلوب منه، و أثر البيع و التجارة تبدل المالين و تغير محل الملكين لرفع حاجة كل واحد من البيعين إلى مال الآخر بأن يحصل كل منهما على ما يرغب فيه و ينال إربه بالمعادلة، و ذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة القليل الكثير إذا انضم إلى القليل شي‏ء من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة أخرى يعادل بانضمامها الكثير، و الكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين، و مع وقوع التراضي لا تعد المبادلة باطلة البتة.

على أن المستأنس بأسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أن من المحال أن يعد القرآن أمرا من الأمور باطلا ثم يأمر به و يهدي إليه و قد قال تعالى في وصفه:

يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ‏ :- الأحقاف: 30، و كيف يهدي إلى الحق ما يهدي إلى الباطل؟.

على أن لازم هذا التوجيه أن يهتدي الإنسان اهتداء حقا فطريا إلى حاجته إلى المبادلة في الأموال ثم يهتدي اهتداء حقا فطريا إلى المبادلة بالموازنة ثم لا يكون ما يهتدي إليه وافيا لرفع حاجته حقا حتى ينضم إليه شي‏ء من الباطل و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها، و لا يفي إلا ببعض شأنها؟ و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل و هل الفارق بين الحق و الباطل في الأعمال إلا اهتداء الفطرة و عدم اهتدائها؟ فلا مفر لمن يجعل الاستثناء متصلا من أن يجعل قوله: بِالْباطِلِ‏ قيدا توضيحيا.

صفحه بعد