کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

الميزان فى تفسير القرآن

الجزء الأول

المقدمة في مسلك البحث التفسيري في الكتاب.

(2)«سورة البقرة و هي مائتان و ست و ثمانون آية»(286)

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

(الأخلاق) بيان (بحث روائي في البرزخ و حياة الروح بعد الموت) (بحث فلسفي) تجرد النفس أيضا. (بحث أخلاقي) (بحث روائي آخر) في متفرقات متعلقة بما تقدم

الجزء الثاني

بقية سورة البقرة

الجزء الثالث

(3) سورة آل عمران مدنية و هي مائتا آية(200)

الجزء الرابع

بقية سورة آل عمران

(4) سورة النساء مدنية و هي مائة و ست و سبعون آية(176)

الجزء الخامس

(5)«سورة المائدة مدنية و هي مائة و عشرون آية»(120)

الجزء السادس

بقية سورة المائدة

الجزء السابع

(6)(سورة الأنعام - مكية و هي مائة و خمس و ستون آية)(165)

الجزء الثامن

(7) سورة الأعراف مكية و هي مائتا و ستة آية(206)

الجزء التاسع

(9)(سورة التوبة مدنية و هي مائة و تسع و عشرون آية)(129)

الجزء العاشر

(11)(سورة هود مكية و هي مائة و ثلاث و عشرين آية)(123)

[سورة هود(11): الآيات 36 الى 49]

(بيان) (بحث روائي)

الجزء الحادي عشر

(12) سورة يوسف مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

الجزء الثاني عشر

الجزء الثالث عشر

(17) سورة الإسراء مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

(18) سورة الكهف مكية و هي مائة و عشر آيات(110)

الجزء الرابع عشر

الجزء الخامس عشر

الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر

الجزء الثامن عشر

الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون

الميزان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص: 349

الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» : (الأعراف: 157).

فهذه الجملة أعني قوله: « وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ‏ » متممة لقول: « مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ‏ » تتميم إيضاح إذ لولاها لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة و الإنجيل أنه يصدق ما فيهما من الشرائع و الأحكام تصديق إبقاء من غير تغيير و تبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبين أن تصديقه لها تصديق أنها معارف و شرائع حقة من عند الله و لله أن يتصرف منها فيما يشاء بالنسخ و التكميل كما يشير إليه قوله ذيلا: « وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ‏ ».

فقول: « مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ‏ » معناه تقرير ما فيها من المعارف و الأحكام بما يناسب حال هذه الأمة فلا ينافيه ما تطرق إليها من النسخ و التكميل و الزيادة كما كان المسيح (ع) أو إنجيله مصدقا للتوراة مع إحلاله بعض ما فيها من المحرمات كما حكاه الله عنه في قوله:

«وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» : (آل عمران: 50).

قوله تعالى: « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ‏ » أي إذا كانت الشريعة النازلة إليك المودعة في الكتاب حقا و هو حق فيما وافق ما بين يديه من الكتب و حق فيما خالفه لكونه مهيمنا عليه فليس لك إلا أن تحكم بين أهل الكتاب- كما يؤيده ظاهر الآيات السابقة- أو بين الناس- كما تؤيده الآيات اللاحقة- بما أنزل الله إليك و لا تتبع أهواءهم بالإعراض و العدول عما جاءك من الحق.

و من هنا يظهر جواز أن يراد بقوله: « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ‏ » الحكم بين أهل الكتاب أو الحكم بين الناس لكن تبعد المعنى الأول حاجته إلى تقدير كقولنا فاحكم بينهم إن حكمت، فإن الله سبحانه لم يوجب عليه (ص) الحكم بينهم بل خيره بين الحكم و الإعراض بقوله: « فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ‏ » (الآية) على أن الله سبحانه ذكر المنافقين مع اليهود في أول الآيات فلا موجب لاختصاص اليهود برجوع الضمير إليهم لسبق الذكر و قد ذكر معهم غيرهم، فالأنسب أن يرجع الضمير إلى الناس لدلالة المقام.

و يظهر أيضا أن قوله: « عَمَّا جاءَكَ‏ » متعلق بقوله: « وَ لا تَتَّبِعْ‏ » بإشرابه معنى العدول أو الإعراض.

قوله تعالى: « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً » قال الراغب في المفردات:،

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص: 350

الشرع‏ نهج الطريق الواضح يقال: شرعت له طريقا و الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له: شرع و شرع و شريعة، و أستعير ذلك للطريقة الإلهية قال: « شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً »- إلى أن قال- قال بعضهم: سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء انتهى.

و لعل الشريعة بالمعنى الثاني مأخوذ من المعنى الأول لوضوح طريق الماء عندهم بكثرة الورود و الصدور و قال: النهج‏ (بالفتح فالسكون): الطريق الواضح، و نهج الأمر و أنهج وضح، و منهج الطريق و منهاجه.

(كلام في معنى الشريعة) (و الفرق بينها و بين الدين و الملة في عرف القرآن)

معنى الشريعة كما عرفت هو الطريقة، و الدين و كذلك الملة طريقة متخذة لكن الظاهر من القرآن أنه يستعمل الشريعة في معنى أخص من الدين كما يدل عليه قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» : (آل عمران: 19) و قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» : (آل عمران: 85) إذا انضما إلى قوله:

« لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً » (الآية) و قوله: «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى‏ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها» : (الجاثية: 18).

فكان الشريعة هي الطريقة الممهدة لأمة من الأمم أو لنبي من الأنبياء الذين بعثوا بها كشريعة نوح و شريعة إبراهيم و شريعة موسى و شريعة عيسى و شريعة محمد ص، و الدين هو السنة و الطريقة الإلهية العامة لجميع الأمم فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع.

و هناك فرق آخر و هو أن الدين ينسب إلى الواحد و الجماعة كيفما كانا، و لكن الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلا إذا كان واضعها أو القائم بأمرها يقال: دين المسلمين و دين اليهود و شريعتهم، و يقال: دين الله و شريعته و دين محمد و شريعته، و يقال: دين زيد و عمرو، و لا يقال: شريعة زيد و عمرو، و لعل ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثي و هو تمهيد الطريق و نصبه فمن الجائز أن يقال: الطريقة التي مهدها الله أو الطريقة التي مهدت للنبي أو للأمة الفلانية دون أن يقال: الطريقة التي مهدت لزيد إذ لا اختصاص له بشي‏ء.

و كيف كان فالمستفاد منها أن الشريعة أخص معنى من الدين و أما قوله تعالى:

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص: 351

«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏» : (الشورى: 13) فلا ينافي ذلك إذ الآية إنما تدل على أن شريعة محمد ص المشروعة لأمته هي مجموع وصايا الله سبحانه لنوح و إبراهيم و موسى و عيسى مضافا إليها ما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه و آله و عليهم، و هو كناية إما عن كون الإسلام جامعا لمزايا جميع الشرائع السابقة و زيادة، أو عن كون الشرائع جميعا ذات حقيقة واحدة بحسب اللب و إن كانت مختلفة بحسب اختلاف الأمم في الاستعداد كما يشعر به أو يدل عليه قوله بعده:

«أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» : (الشورى: 13).

فنسبة الشرائع الخاصة إلى الدين- و هو واحد و الشرائع تنسخ بعضها بعضا- كنسبة الأحكام الجزئية في الإسلام فيها ناسخ و منسوخ إلى أصل الدين، فالله سبحانه لم يتعبد عباده إلا لدين واحد و هو الإسلام له إلا أنه سلك بهم لنيل ذلك مسالك مختلفة و سن لهم سننا متنوعة على حسب اختلاف استعداداتهم و تنوعها، و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم كما أنه تعالى ربما نسخ في شريعة واحدة بعض الأحكام ببعض لانقضاء مصلحة الحكم المنسوخ و ظهور مصلحة الحكم الناسخ كنسخ الحبس المخلد في زنا النساء بالجلد و الرجم و غير ذلك، و يدل على ذلك قوله تعالى: « وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ‏ » (الآية).

و أما الملة فكان المراد بها السنة الحيوية المسلوكة بين الناس، و كان فيها معنى الإملال و الإملاء فيكون هي الطريقة المأخوذة من الغير، و ليس الأصل في معناه واضحا ذاك الوضوح، فالأشبه أن تكون مرادفة للشريعة بمعنى أن الملة كالشريعة هي الطريقة الخاصة بخلاف الدين، و إن كان بينهما فرق من حيث إن الشريعة تستعمل فيها بعناية أنها سبيل مهده الله تعالى لسلوك الناس إليه، و الملة إنما تطلق عليها لكونها مأخوذة عن الغير بالاتباع العملي، و لعله لذلك لا تضاف إلى الله سبحانه كما يضاف الدين و الشريعة، يقال: دين الله و شريعة الله، و لا يقال: ملة الله.

بل إنما تضاف إلى النبي مثلا من حيث إنها سيرته و سنته أو إلى الأمة من جهة أنهم سائرون مستنون به، قال تعالى: «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» : (البقرة:

135) و قال تعالى حكاية عن يوسف (ع): «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ» : (يوسف: 38) و قال‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص: 352

تعالى حكاية عن الكفار في قولهم لأنبيائهم: «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» : (إبراهيم: 13).

فقد تلخص أن الدين في عرف القرآن أعم من الشريعة و الملة و هما كالمترادفين مع فرق ما من حيث العناية اللفظية.

[ (بيان)]

قوله تعالى: « وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ‏ » بيان لسبب اختلاف الشرائع، و ليس المراد بجعلهم أمة واحدة الجعل التكويني بمعنى النوعية الواحدة فإن الناس أفراد نوع واحد يعيشون على نسق واحد كما يدل عليه قوله تعالى:

«وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ» : (الزخرف: 33).

بل المراد أخذهم بحسب الاعتبار أمة واحدة على مستوى واحد من الاستعداد و التهيؤ حتى تشرع لهم شريعة واحدة لتقارب درجاتهم الملحوظة فقوله: « وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً » من قبيل وضع علة الشرط موضع الشرط ليتضح باستحضارها معنى الجزاء أعني قوله: « وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ‏ » أي ليمتحنكم فيما أعطاكم و أنعم عليكم، و لا محالة هذه العطايا المشار إليها في الآية مختلفة في الأمم، و ليست هي الاختلافات بحسب المساكن و الألسنة و الألوان فإن الله لم يشرع شريعتين أو أكثر في زمان واحد قط بل هي الاختلافات بحسب مرور الزمان، و ارتقاء الإنسان في مدارج الاستعداد و التهيؤ و ليست التكاليف الإلهية و الأحكام المشرعة إلا امتحانا إلهيا للإنسان في مختلف مواقف الحياة و إن شئت فقل: إخراجا له من القوة إلى الفعل في جانبي السعادة و الشقاوة، و إن شئت فقل:

تمييزا لحزب الرحمن و عباده من حزب الشيطان فقد اختلف التعبير عنه في الكتاب العزيز، و مآل الجميع إلى معنى واحد، قال تعالى جريا على مسلك الامتحان: «وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» : (آل عمران: 142) إلى غير ذلك من الآيات.

و قال جريا على المسلك الثاني: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏» : (طه: 124).

و قال جريا على المسلك الثالث: «وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً - إلى أن‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص: 353

قال- قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ» : (الحجر: 43) إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة لما كانت العطايا الإلهية لنوع الإنسان من الاستعداد و التهيؤ مختلفة باختلاف الأزمان، و كانت الشريعة و السنة الإلهية الواجب إجراؤها بينهم لتتميم سعادة حياتهم و هي الامتحانات الإلهية تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات و تنوعها أنتج ذلك لزوم اختلاف الشرائع، و لذلك علل تعالى ما ذكره من اختلاف الشرعة و المنهاج بأن إرادته تعلقت ببلائكم و امتحانكم فيما أنعم عليكم فقال: « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ‏ ».

فمعنى الآية- و الله أعلم-: لكل أمة جعلنا منكم (جعلا تشريعيا) شرعة و منهاجا و لو شاء الله لأخذكم أمة واحدة و شرع لكم شريعة واحدة، و لكن جعل لكم شرائع مختلفة ليمتحنكم فيما ءاتاكم من النعم المختلفة، و اختلاف النعم كان يستدعي اختلاف الامتحان الذي هو عنوان التكاليف و الأحكام المجعولة فلا محالة ألقي الاختلاف بين الشرائع.

و هذه الأمم المختلفة هي أمم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم كما يدل عليه ما يمتن الله به على هذه الأمة بقوله: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ : (الشورى: 13).

قوله تعالى: « فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً » (إلخ) الاستباق‏ أخذ السبق، و المرجع‏ مصدر ميمي من الرجوع، و الكلام متفرع على قوله: « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً » بما له من لازم المعنى أي و جعلنا هذه الشريعة الحقة المهيمنة على سائر الشرائع شريعة لكم، و فيه خيركم و صلاحكم لا محالة فاستبقوا الخيرات و هي الأحكام و التكاليف، و لا تشتغلوا بأمر هذه الاختلافات التي بينكم و بين غيركم فإن مرجعكم جميعا إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون و يحكم بينكم حكما فصلا، و يقضي قضاء عدلا.

قوله تعالى: « وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ‏ »، هذا الصدر يتحد مع ما في الآية السابقة من قوله: « أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ‏ »، ثم يختلفان فيما فرع على كل منهما، و يعلم منه أن التكرار لحيازة هذه الفائدة فالآية الأولى تأمر بالحكم بما أنزل الله و تحذر اتباع أهواء الناس لأن هذا الذي أنزله الله هي الشريعة المجعولة للنبي‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص: 354

ص و لأمته فالواجب عليهم أن يستبقوا هذه الخيرات، و الآية الثانية تأمر بالحكم بما أنزل الله، و تحذر اتباع أهواء الناس و تبين أن توليهم إن تولوا عما أنزل الله كاشف عن إضلال إلهي لهم لفسقهم و قد قال الله تعالى: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» : (البقرة: 26).

فيتحصل مما تقدم أن هذه الآية بمنزلة البيان لبعض ما تتضمنه الآية السابقة من المعاني المفتقرة إلى البيان، و هو أن إعراض أرباب الأهواء عن اتباع ما أنزل الله بالحق إنما هو لكونهم فاسقين، و قد أراد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم الموجبة لفسقهم، و الإصابة هو الإضلال ظاهرا، فقوله: « وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ‏ » عطف على الكتاب في قوله:

« وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ‏ » كما قيل، و الأنسب حينئذ أن يكون اللام فيه مشعرة بالتلميح إلى المعنى الحدثي، و يصير المعنى: و أنزلنا إليك ما كتب عليهم من الأحكام و أن احكم بينهم بما أنزل الله (إلخ).

و قوله: « وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏ » أمره تعالى نبيه بالحذر عن فتنتهم مع كونه (ص) معصوما بعصمة الله إنما هو من جهة أن قوة العصمة لا توجب بطلان الاختيار و سقوط التكاليف المبنية عليه فإنها من سنخ الملكات العلمية، و العلوم و الإدراكات لا تخرج القوى العاملة و المحركة في الأعضاء و الأعضاء الحاملة لها عن استواء نسبة الفعل و الترك إليها.

كما أن العلم الجازم بكون الغذاء مسموما يعصم الإنسان عن تناوله و أكله، لكن الأعضاء المستخدمة للتغذي كاليد و الفم و اللسان و الأسنان من شأنها أن تعمل عملها في هذا الأكل و تتغذى به، و من شأنها أن تسكن فلا تعمل شيئا مع إمكان العمل لها فالفعل اختياري و إن كان كالمستحيل صدوره ما دام هذا العلم.

و قد تقدم شطر من الكلام في ذلك في الكلام على قوله تعالى: «وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» (النساء: 113).

و قوله: « فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ‏ » بيان لأمر إضلالهم إثر فسقهم كما تقدم، و فيه رجوع إلى بدء الكلام في هذه الآيات: « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ » (إلخ) ففيه تسلية للنبي ص، و تطييب لنفسه، و تعليم له‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص: 355

ما لا يدب معه الحزن في قلبه، و هكذا فعل الله سبحانه في جل الموارد التي نهى فيها النبي ص عن أن يحزن على توليهم عن الدعوة الحقة و استنكافهم عن قبول ما يرشدهم إلى سبيل الرشاد و الفلاح فبين له (ص) أنهم ليسوا بمعجزين لله في ملكه و لا غالبين عليه بل الله غالب على أمره، و هو الذي يضلهم بسبب فسقهم، و يزيغ قلوبهم عن زيغ منهم، و يجعل الرجس عليهم بسلب توفيقه عنهم و استدراجه إياهم، قال تعالى: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» : (الأنفال: 59) و إذا كان الأمر إلى الله سبحانه، و هو الذي يذب عن ساحة دينه الطاهرة كل رجس نجس فلم يفته شي‏ء مما أراده و لا وجه للحزن إذا لم يكن فائت.

و لعله إلى ذلك الإشارة بقوله: « فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ‏ » (إلخ) دون أن يقال:

فإن تولوا فإنما يريد الله (إلخ) أو ما يؤدي معناه فيئول المعنى إلى تعليم أن توليهم أنما هو بتسخير إلهي فلا ينبغي أن يحزن ذلك النبي ص فإنه رسول داع إلى سبيل ربه إن أحزنه شي‏ء فإنما ينبغي أن يحزنه لغلبته إرادة الله في أمر الدعوة الدينية، و إذا كان الله سبحانه لا يعجزه شي‏ء بل هو الذي يسوقهم إلى هنا و هناك بتسخير إلهي و توفيق و مكر فلا موجب للحزن.

و قد بين تعالى هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً» : (الكهف: 8) فبين أن الله تعالى لم يرد بإرسال الرسل و الإنذار و التبشير الديني إيمان الناس جميعا على حد ما يريده الإنسان في حوائجه و مآربه، و إنما ذلك كله امتحان و ابتلاء يبتلى به الناس ليمتاز به من هو أحسن عملا، و إلا فالدنيا و ما فيها ستبطل و تفنى فلا يبقى إلا الصعيد العاري من هؤلاء الكفار المعرضين عن الحديث الحق، و من كل ما يتعلق به قلوبهم فلا موجب للأسف إذ لا يجر ذلك خيبة إلى سعينا و لا بطلانا لقدرتنا و كلالا لإرادتنا.

و قوله: « وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ‏ » في محل التعليل لقوله: « أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ‏ » (إلخ) على ما تقدم بيانه.

صفحه بعد