کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج6، ص: 144
(بحث روائي)
في الكافي،: بإسناده عن حماد بن عيسى و ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (ع): في قول الله عز و جل: «لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ- تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ» ، قال: حشرت لرسول الله ص في عمرة الحديبية الوحوش- حتى نالتها أيديهم و رماحهم.
أقول: و رواه العياشي، عن معاوية بن عمار مرسلا، و روى هذا المعنى أيضا الكليني في الكافي، و الشيخ في التهذيب، بإسنادهما إلى الحلبي عن الصادق (ع)، و العياشي عن سماعة عنه (ع) مرسلا، و كذا القمي في تفسيره مرسلا، و روي ذلك عن مقاتل بن حيان كما يأتي.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية- فكانت الوحوش و الطير و الصيد تغشاهم في رحالهم- لم يروا مثله قط فيما خلا؛ فنهاهم الله عن قتله- و هم محرمون ليعلم الله من يخافه بالغيب.
أقول: و الروايتان لا تنافيان ما قدمناه في البيان السابق من عموم معنى الآية.
و في الكافي، مسندا عن أحمد بن محمد رفعه: في قوله تبارك و تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ، قال: ما تناله الأيدي البيض و الفراخ، و ما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي.
و في تفسير العياشي، بإسناده عن حريز، عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا قتل الرجل المحرم حمامة ففيها شاة، فإن قتل فرخا ففيه جمل، فإن وطأ بيضة فكسرها فعليه درهم، كل هذا يتصدق بمكة و منى، و هو قول الله في كتابه: «لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ» - البيض و الفراخ «وَ رِماحُكُمْ» الأمهات الكبار.
أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عن حريز عنه (ع) مقتصرا على الشطر الأخير من الحديث .
و في التهذيب، بإسناده عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (ع) قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه- و يتصدق بالصيد على مسكين، فإن
الميزان فى تفسير القرآن، ج6، ص: 145
عاد فقتل صيدا آخر لم يكن عليه جزاء- و ينتقم الله منه، و النقمة في الآخرة.
و فيه،: عن الكليني، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفارة، فإن أصابه ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم الله منه، و لم يكن عليه كفارة.
و فيه،: عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله: محرم أصاب صيدا؟ قال: عليه كفارة- قلت: فإن هو عاد؟ قال: عليه كلما عاد كفارة.
أقول: الروايات- كما ترى- مختلفة، و قد جمع الشيخ بينها بأن المراد أن المحرم إذا قتل متعمدا فعليه كفارة و إن عاد متعمدا فلا كفارة عليه، و هو ممن ينتقم الله منه، و أما الناسي فكلما عاد فعليه كفارة.
و فيه،: بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (ع): في قول الله عز و جل: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» - فالعدل رسول الله ص و الإمام من بعده- يحكم به و هو ذو عدل- فإذا علمت ما حكم الله به من رسول الله و الإمام- فحسبك و لا تسأل عنه.
أقول: و في هذا المعنى عدة روايات
و في بعضها: تلوت عند أبي عبد الله (ع):
«ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» - فقال: ذو عدل منكم، هذا مما أخطأت به الكتاب
، و هو يرجع إلى القراءة كما هو ظاهر.
و في الكافي، عن الزهري عن علي بن الحسين (ع) قال: صوم جزاء الصيد واجب قال الله عز و جل: «وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ- يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ- أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» .
أ و تدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟ قال: قلت: لا أدري، قال: يقوم الصيد ثم تفض تلك القيمة على البر- ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما.
و فيه، بإسناده عن أحمد بن محمد، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (ع) قال: من وجب عليه هدي في إحرامه- فله أن ينحره حيث شاء إلا فداء الصيد- فإن الله يقول:
الميزان فى تفسير القرآن، ج6، ص: 146
«هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» .
و في تفسير العياشي، عن حريز، عن أبي عبد الله (ع) قال: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ» - قال: مالحه الذي يأكلون؛ و قال: فصل ما بينهما: كل طير يكون في الآجام يبيض في البر- و يفرخ في البر من صيد البر، و ما كان من الطير يكون في البر و يبيض في البحر و يفرخ- فهو من صيد البحر.
و فيه،: عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن قول الله:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ- مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ» قال: هي حيتان المالح، و ما تزودت منه أيضا و إن لم يكن مالحا فهو متاع.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة عن أئمة أهل البيت (ع) من طرق الشيعة.
و في الدر المنثور،: أخرج ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة، و أحمد عن رجل من الأنصار: أن رجلا أوطأ بعيره أدحى نعامة فكسر بيضها- فقال رسول الله ص:
عليك بكل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين:.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن ابن أبي شيبة عن عبد الله بن ذكوان، عن النبي ص، و رواه أيضا عنه عن أبي الزناد عن عائشة عنه (ص) .
و فيه،: أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه من طريق أبي المهزم عن النبي ص قال: في بيض النعام ثمنه.
و فيه،: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر محمد بن علي: أن رجلا سأل عليا عن الهدي مما هو؟ قال: من الثمانية الأزواج فكأن الرجل شك- فقال علي: تقرأ القرآن؟
فكأن الرجل قال: نعم، قال: فسمعت الله يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ- أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» ؟ قال: نعم- قال سمعته يقول: «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ، وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً ، فكلوا من بهيمة الأنعام»؟ قال: نعم.
قال: فسمعته يقول: «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، ... وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ»؟
الميزان فى تفسير القرآن، ج6، ص: 147
قال: نعم؛ قال: فسمعته يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ - إلى قوله- هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» ؟ قال الرجل: نعم.
فقال: إن قتلت ظبيا فما علي؟ قال: شاة؛ قال علي: هديا بالغ الكعبة؟ قال الرجل: نعم- فقال علي: قد سماه الله بالغ الكعبة كما تسمع.
و فيه،: أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني": أن عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب- و ابن عباس و زيد بن ثابت و معاوية- قضوا فيما كان من هدي- مما يقتل المحرم من صيد فيه جزاء- نظر إلى قيمة ذلك فأطعم به المساكين.
و فيه،: أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: أحل لكم صيد البحر و طعامه متاعا لكم- قال: ما لفظه ميتا فهو طعامه.
أقول: و روي ما في معناه عن بعض الصحابة أيضا لكن المروي من طرق أهل البيت عنهم (ع) خلافه كما تقدم.
و في تفسير العياشي، عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله (ع): «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» - قال جعل الله لدينهم و معايشهم.
أقول: و قد تقدم توضيح معنى الرواية.
[سورة المائدة (5): آية 100]
بيان
الآية كأنها مستقلة مفردة لعدم ظهور اتصالها بما قبلها و ارتباط ما بعدها بها فلا حاجة إلى التمحل في بيان اتصالها بما قبلها، و إنما تشتمل على مثل كلي ضربه الله سبحانه لبيان خاصة يختص بها الدين الحق من بين سائر الأديان و السير العامة الدائرة، و هي أن
الميزان فى تفسير القرآن، ج6، ص: 148
الاعتبار بالحق و إن كان قليلا أهله و شاردة فئته، و الركون إلى الخير و السعادة و إن أعرض عنه الأكثرون و نسيه الأقوون؛ فإن الحق لا يعتمد في نواميسه إلا على العقل السليم، و حاشا العقل السليم أن يهدي إلا إلى صلاح المجتمع الإنساني فيما يشد أزره من أحكام الحياة و سبل المعيشة الطيبة سواء وافق أهواء الأكثرين أو خالف، و كثيرا ما يخالف؛ فهو ذا النظام الكوني و هو محتد الآراء الحقة لا يتبع شيئا من أهوائهم، و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض.
قوله تعالى: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» كان المراد بعدم استواء الخبيث و الطيب أن الطيب خير من الخبيث، و هو أمر بين فيكون الكلام مسوقا للكناية، و ذلك أن الطيب بحسب طبعه و بقضاء من الفطرة أعلى درجة و أسمى منزلة من الخبيث؛ فلو فرض انعكاس الأمر و صيرورة الخبيث خيرا من الطيب لعارض يعرضه كان من الواجب أن يتدرج الخبيث في الرقي و الصعود حتى يصل إلى حد يحاذي الطيب في منزلته و يساويه ثم يتجاوزه فيفوقه فإذا نفي استواء الخبيث و الطيب كان ذلك أبلغ في نفي خيرية الخبيث من الطيب.
و من هنا يظهر وجه تقديم الخبيث على الطيب، فإن الكلام مسوق لبيان أن كثرة الخبيث لا تصيره خيرا من الطيب، و إنما يكون ذلك بارتفاع الخبيث من حضيض الرداءة و الخسة إلى أوج الكرامة و العزة حتى يساوي الطيب في مكانته ثم يعلو عليه و لو قيل: لا يستوي الطيب و الخبيث كانت العناية الكلامية متعلقة ببيان أن الطيب لا يكون أردى و أخس من الخبيث، و كان من الواجب حينئذ أن يذكر بعده أمر قلة الطيب مكان كثرة الخبيث فافهم ذلك.
و الطيب و الخباثة على ما لهما من المعنى وصفان حقيقيان لأشياء حقيقية خارجية كالطعام الطيب أو الخبيث و الأرض الطيبة أو الخبيثة قال تعالى: «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» : الأعراف: 58، و قال تعالى: «وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» : الأعراف: 32، و إن أطلق الطيب و الخباثة أحيانا على شيء من الصفات الوضعية الاعتبارية كالحكم الطيب أو الخبيث و الخلق الطيب أو الخبيث فإنما ذلك بنوع من العناية.
هذا و لكن تفريع قوله: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» على
الميزان فى تفسير القرآن، ج6، ص: 149
قوله: «لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ ، إلخ» و التقوى من قبيل الأفعال أو التروك، و طيبها و خباثتها عنائية مجازية، و إرسال الكلام أعني قوله: «لا يَسْتَوِي ، إلخ» إرسال المسلمات أقوى شاهد على أن المراد بالطيب و الخباثة إنما هو الخارجي الحقيقي منهما فيكون الحجة ناجحة، و لو كان المراد هو الطيب و الخبيث من الأعمال و السير لم يتضح ذاك الاتضاح فكل طائفة ترى أن طريقتها هي الطريقة الطيبة، و ما يخالف أهواءها و يعارض مشيئتها هو الخبيث.
فالقول مبني على معنى آخر بينه الله سبحانه في مواضع من كلامه، و هو أن الدين مبني على الفطرة و الخلقة، و أن ما يدعو إليه الدين هو الطيب من الحياة، و ما ينهى عنه هو الخبيث، و أن الله لم يحل إلا الطيبات و لم يحرم إلا الخبائث قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» : الروم:
30، و قال: «وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» : الأعراف: 157.
و قال: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» : الأعراف: 32.
فقد تحصل أن الكلام أعني قوله: «لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» ، مثل مضروب لبيان أن قواعد الدين ركبت على صفات تكوينية في الأشياء من طيب أو خباثة مؤثرة في سبيل السعادة و الشقاوة الإنسانيتين، و لا يؤثر فيها قلة و لا كثرة فالطيب طيب و إن كان قليلا، و الخبيث خبيث و إن كان كثيرا.
فمن الواجب على كل ذي لب يميز الخبيث من الطيب، و يقضي بأن الطيب خير من الخبيث، و أن من الواجب على الإنسان أن يجتهد في إسعاد حياته، و يختار الخير على الشر أن يتقي الله ربه بسلوك سبيله، و لا يغتر بانكباب الكثيرين من الناس على خبائث الأعمال و مهلكات الأخلاق و الأحوال، و لا يصرفه الأهواء عن اتباع الحق بتولية أو تهويل لعله يفلح بركوب السعادة الإنسانية.
قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» تفريع على المثل المضروب في صدر الآية، و محصل المعنى أن التقوى لما كان متعلقه الشرائع الإلهية التي تبتني هي أيضا على طيبات و خبائث تكوينية في رعاية أمرها سعادة الإنسان و فلاحه
الميزان فى تفسير القرآن، ج6، ص: 150
على ما لا يرتاب في ذلك ذو لب و عقل فيجب عليكم يا أولي الألباب أن تتقوا الله بالعمل بشرائعه لعلكم تفلحون.
[سورة المائدة (5): الآيات 101 الى 102]
(بيان)
الآيتان غير ظاهرتي الارتباط بما قبلهما، و مضمونهما غني عن الاتصال بشيء من الكلام يبين منهما ما لا تستقلان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشمه جمع من المفسرين في توجيه اتصالهما تارة بما قبلهما، و أخرى بأول السورة، و ثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كله أولى.
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» (الآية) الإبداء الإظهار، و ساءه كذا خلاف سره.