کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

الميزان فى تفسير القرآن

الجزء الأول

المقدمة في مسلك البحث التفسيري في الكتاب.

(2)«سورة البقرة و هي مائتان و ست و ثمانون آية»(286)

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

(الأخلاق) بيان (بحث روائي في البرزخ و حياة الروح بعد الموت) (بحث فلسفي) تجرد النفس أيضا. (بحث أخلاقي) (بحث روائي آخر) في متفرقات متعلقة بما تقدم

الجزء الثاني

بقية سورة البقرة

الجزء الثالث

(3) سورة آل عمران مدنية و هي مائتا آية(200)

الجزء الرابع

بقية سورة آل عمران

(4) سورة النساء مدنية و هي مائة و ست و سبعون آية(176)

الجزء الخامس

(5)«سورة المائدة مدنية و هي مائة و عشرون آية»(120)

الجزء السادس

بقية سورة المائدة

الجزء السابع

(6)(سورة الأنعام - مكية و هي مائة و خمس و ستون آية)(165)

الجزء الثامن

(7) سورة الأعراف مكية و هي مائتا و ستة آية(206)

الجزء التاسع

(9)(سورة التوبة مدنية و هي مائة و تسع و عشرون آية)(129)

الجزء العاشر

(11)(سورة هود مكية و هي مائة و ثلاث و عشرين آية)(123)

[سورة هود(11): الآيات 36 الى 49]

(بيان) (بحث روائي)

الجزء الحادي عشر

(12) سورة يوسف مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

الجزء الثاني عشر

الجزء الثالث عشر

(17) سورة الإسراء مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

(18) سورة الكهف مكية و هي مائة و عشر آيات(110)

الجزء الرابع عشر

الجزء الخامس عشر

الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر

الجزء الثامن عشر

الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون

الميزان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص: 369

و تطمع من ذلك في ماله مع أنهم على ما لهم من الجهل لا يرضون بهذه الفضائح فيمن يتقلد أمرا من أمور دنياهم أو يتصدى يوما للقيام بمصلحة بيتهم و أهلهم فكيف يرضون بنسبة هذه الفضائح إلى الله سبحانه و هو العليم الحكيم الذي أرسل رسله إلى عباده لئلا يكون لهم حجة بعدهم؟ و ليت شعري أي حجة تقوم على كافر أو فاسق إذا جاز للرسول أن يكفر أو يفجر أو يدعو إلى الشرك و الوثنية ثم يتبرأ منه و ينسبه إلى الشيطان؟.

و إذا ذكروا ببعض ما لأنبياء الله (ع) من العصمة الإلهية و المقامات الموهوبة و المواقف الروحية عدوا ذلك شركا بالله، و غلوا في حق عباد الله، و أخذوا في تلاوة قوله: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» .

و قد أصابوا في ردهم بوجه فإن ما يتصورونه من الرب عز اسمه و ينعتونه بها من النعوت في ذاته و فعله دون ما يذكرون به من مقامات الأنبياء (ع) و أخفض منها منزلة و قدرا، و هذا كله من المصائب التي لقيتها الإسلام و أهله مما دسته أهل الكتاب و خاصة اليهود في الروايات و عملته أيديهم، و حركوا بها الرحى على غير محوره، و اعتقدوا في الله سبحانه الذي ليس كمثله شي‏ء أنه مثل الإنسان المتجبر الذي يرى لنفسه أنه حر غير مسئول فيما يفعل و هم المسئولون، و أن ترتب المسببات على أسبابها و استيلاد المقدمات نتائجها، و اقتضاء الخصائص الوجودية صورية أو معنوية لآثارها كل ذلك جزافي لا لرابطة حقيقية.

و أن الله تعالى ختم بمحمد النبوة و أنزل عليه القرآن، و خص موسى بالتكليم، و عيسى بالتأييد بالروح لا لخصوصية في نفوسهم الشريفة بل لأنه أراد أن يخصهم بكذا و بكذا، و أن ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت كضرب أحدنا بعصاه الحجر غير أن الله يفجر ذاك و لا يفجر هذا، و أن قول عيسى للموتى: قوموا بإذن الله مثل أن ينادي أحدنا بين المقابر: قوموا بإذن الله إلا أن الله يحيي أولئك و لا يحيي هؤلاء و هكذا.

و ليس ذلك كله إلا قياسا لنظام التكوين إلى نظام التشريع الذي لا قوام له إلا الوضع و الاصطلاح و التعاهد الذي لا يتجاوز ظرف الاجتماع سعة، و لا يعدو دنيا الإنسان المجتمع.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص: 370

و لو أنهم تفطنوا قليلا و تدبروا في أطراف الآيات المتعرضة لأمر الذنب و المعصية بالمعنى المصطلح عليه، و هي مخالفة الأمر و النهي المولويين تنبهوا إلى أن من المغفرة ما هو فوق المغفرة المعروفة.

فإن الله سبحانه يكرر في كلامه أن له عبادا يسميهم بالمخلصين مصونين عن المعصية لا مطمع فيهم للشيطان فلا ذنب- بالمعنى المعروف- لهم و لا حاجة إلى المغفرة المتعلقة بذلك الذنب، و قد نص في حق عدة من أنبيائه كإبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف و موسى أنهم مخلصون كقوله في إبراهيم و إسحاق و يعقوب: «إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ» : ص: 46، و قوله في يوسف: «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ»: يوسف: 24، و قوله في موسى: «إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً» : مريم: 51 و قد حكى عنهم سؤال المغفرة كقول إبراهيم (ع): «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ»» : إبراهيم: 41 و قول موسى (ع): «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» : الأعراف: 151 و لو كانت المغفرة لا يتعلق إلا بالذنب بالمعنى المعروف لم يستقم ذلك.

نعم ربما قال القائل: إنهم (ع) يعدون أنفسهم مذنبين تواضعا لله سبحانه و لا ذنب لهم لكن ينبغي لهذا القائل أن يتنبه إلى أنهم (ع) لم يخطئوا في نظرهم هذا، و لم يجازفوا في قولهم فلشمول المغفرة لهم معنى صحيح و المسألة جدية.

على أن في دعاء إبراهيم (ع): «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» دعاء لكافة المؤمنين- و فيهم المخلصون- بالمغفرة، و كذا في دعاء نوح (ع):

«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» : نوح: 28 شمول بإطلاقه للمخلصين، و لا معنى لطلب المغفرة على من لا ذنب له يحتاج إلى المغفرة.

فهذا كله ينبهنا إلى أن من الذنب المتعلق به المغفرة ما هو غير الذنب بالمعنى المتعارف و كذا من المغفرة ما هي غير المغفرة بمعناها المتعارف، و قد حكى الله تعالى عن إبراهيم قوله: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» : الشعراء: 82 و لعل هذا هو السبب فيما نشاهد أنه تعالى في موارد من كلامه إذا ذكر الرحمة أو الرحمة الأخروية التي هي الجنة قدم عليه ذكر المغفرة كقوله: «وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ» : المؤمنون: 118 و قوله: «وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا» : البقرة: 286 و قوله حكاية عن آدم و زوجته: «وَ إِنْ‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص: 371

لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا» : الأعراف: 23 و قوله عن نوح (ع): «وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي» : هود: 47.

فتحصل من البيان السابق: أن للذنب مراتب مختلفة مترتبة طولا كما أن للمغفرة مراتب بحذائها، تتعلق كل مرتبة من المغفرة بما يحاذيها من الذنب، و ليس من اللازم أن يكون كل ذنب و خطيئة متعلقا بأمر أو نهي مولوي فيعرفه و يتبينه الأفهام العامية الساذجة، و لا أن يكون كل مغفرة متعلقة بهذا النوع من الذنب.

فالذي تبين لنا من مراتب الذنب و المغفرة بحسب البحث السابق العام مراتب أربع:

أولاها: الذنب المتعلق بالأمر و النهي المولويين و هو المخالفة لحكم شرعي فرعي أو أصلي و إن عممت التعبير قلت: مخالفة مادة من المواد القانونية دينية كانت أو غير دينية، و تتعلق به مغفرة تحاذيه مرتبة.

و الثانية: الذنب المتعلق بالحكم العقلي الخلقي و المغفرة المتعلقة به.

و الثالثة: الذنب المتعلق بالحكم الأدبي ممن ظرف حياته ظرف الأدب و المغفرة المتعلقة به، و هذان القسمان ربما لم يعدا بحسب الفهم العامي من الذنوب و المغفرات، و ربما حسبوهما منها مجازا، و ليس من المجاز في شي‏ء لما عرفت من ترتب الآثار الحقيقية عليهما.

و الرابعة: الذنب الذي يحكم به ذوق الحب و المغفرة المتعلقة به، و في ظرف البغض أيضا ما يشبههما، و هذا النوع لا يعده الفهم العامي من الأقسام، و قد أخطئوا في ذلك لا لجور منهم في الحكم و القضاء بل لقصور فهمهم عن تعقله و تبين معناه.

و ربما قال القائل منهم: أنه من أوهام العشاق و المبرسمين أو تخيل شعري لا يتكئ على حقيقة عقلية، و قد غفل عن أن هذه التصورات على أنها أوهام و تخيلات في طريق الحياة الاجتماعية هي بعينها تعود حقائق- و أي حقائق- في طريق العبودية عن حب إلهي يذيب القلب و يوله اللب، و لا يدع للإنسان شعورا يشعر بغير ربه، و لا إرادة يريد بها إلا ما يريده.

و حينئذ يلوح له أن التفاتة يسيرة منه إلى نفسه أو إلى مشتهاها من شي‏ء ذنب عظيم و حجاب غليظ لا ترفعه إلا المغفرة الإلهية، و قد عد الله سبحانه الذنب حجابا للقلب‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص: 372

عن التوجه التام إلى ربه إذ قال: «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» : المطففين: 15.

فهذا ما يعطيه البحث الجدي الذي لا يلعب فيه بالحقائق، و ربما أمكن أن يلوح لأولياء الله السالكين في عبوديتهم سبيل حبه تعالى دقائق من الذنب و لطائف من المغفرة لا تكاد تناله أيدي الأبحاث الكلية العامة.

5- هل المؤاخذة أو المغفرة تستلزم ذنبا؟:

الباحث في ديدن العقلاء من أهل الاجتماع يعثر على أنهم يبنون المؤاخذة و العقاب على التكليف الاختياري، و من شرائط صحته عندهم العقل، و هناك شرائط أخر تختلف في أصلها و في تحديد ماهياتها و حدودها المجتمعات، و لسنا هاهنا بصدد البحث عنها.

و إنما كلامنا في العقل الذي هو قوة التمييز بين الحسن و القبح و النافع و الضار و الخير و الشر بحسب المتوسط من حال الناس في مجتمعهم، فإن الناس من حيث النظر الاجتماعي يرون أن في الإنسان مبدأ فعالا هذا شأنه و إن كان البحث العلمي ربما أدى إلى أنه ليست قوة من القوى الطبيعية المودعة في الإنسان كالمتخيلة و الحافظة، و إنما هي ملكة حاصلة من توافق عدة من القوى في الفعل كالعدالة.

فالمجتمعات على اختلافها ترى أن التكليف منوط بهذا المسمى عقلا فيتفرع الثواب و العقاب المتفرعين على التكليف عليه لا محالة فيثاب العاقل بطاعته و يعاقب بجرمه.

و أما غير العاقل كالصبي و المجنون و السفيه و كل مستضعف غيرهم فلا ثواب و لا عقاب على ما يأتون به من طاعة أو معصية بحقيقة معنى الثواب و العقاب، و إن كانوا ربما يثابون قبال طاعتهم ثوابا تشويقيا أو يؤاخذون و يساسون قبال جرمهم بما يسمى عقابا تأديبا، و هذا شائع دائر في المجتمعات حتى المجتمع الإسلامي.

و هؤلاء بالنظر إلى السعادة و الشقاوة المكتسبتين بامتثال التكاليف و مخالفتها في الحياة الدنيا، لا سعداء و لا أشقياء إذ لا تكليف لهم فلا ثواب حتى يسعدوا به و لا عقاب حتى يشقوا به، و إن كانوا ربما يشوقون بخير أو يؤدبون بشر.

و أما بالنسبة إلى الحياة الآخرة التي يثبتها الدين الإلهي ثم يقسم الناس إلى قسمين‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص: 373

لا ثالث لهما: السعيد و الشقي أو المثاب و المعاقب فالذي يذكره القرآن الشريف في ذلك أمر إجمالي لا يتبين تفصيله إذ لا طريق عقلا إلى تشخيص تفاصيل أحوالهم بعد الدنيا، قال تعالى: «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» : التوبة: 106، و قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً» : النساء: 99.

و الآيات- كما ترى- تشتمل على العفو عنهم و التوبة عليهم و لا مغفرة في مورد لا ذنب هناك، و على عذابهم و لا عذاب على من لا تكليف له، غير أنك عرفت أن الذنب و كذا المغفرة و العقاب و الثواب ذوات مراتب مختلفة: منها ما يتعلق بمخالفة التكليف المولوي أو العقلي، و منها ما يتعلق بالهيئات النفسانية الرديئة و أدران القلب التي تحجب الإنسان عن ربه، و هؤلاء و إن كانوا في معزل من تعلق التكليف المتوقف على العقل لكنهم ليسوا بمصونين من ألواث النفوس و أستار القلوب التي يحتاج التنعم بنعيم القرب، و الحضور في ساحة القدس إلى إزالتها و عفوها و الستر عليها و مغفرتها.

و لعل هذا هو المراد

مما ورد في بعض الروايات: «أن الله سبحانه يحشرهم- ثم يخلق نارا و يأمرهم بدخولها فمن دخلها دخل الجنة- و من أبى أن يدخلها دخل النار»

و سيجي‏ء ما يتعلق بالروايات من الكلام في تفسير سورة التوبة إن شاء الله، و قد مر بعض الكلام في سورة النساء.

و من استعمال العفو و المغفرة في غير مورد الذنب في كلامه تعالى ما تكرر وقوعه في مورد رفع الحكم بقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» : المائدة: 3، و نظيره ما في سورة الأنعام، و قوله تعالى في رفع الوضوء عن فاقد الماء: «وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ - إلى أن قال- فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» : النساء: 43، و قوله في حد المفسدين في الأرض: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» : المائدة: 34، و قوله في رفع حكم الجهاد عن المعذورين: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص: 374

مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» : التوبة: 91، إلى غير ذلك.

و قال تعالى في البلايا و المصائب التي تصيب الناس: «وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» : الشورى: 30.

و ينكشف بذلك أن صفة العفو و المغفرة منه تعالى كصفتي الرحمة و الهداية تتعلق بالأمور التكوينية و التشريعية جميعا فهو تعالى يعفو عن الذنوب و المعاصي فيمحوها من صحيفة الأعمال، و يعفو عن الحكم الذي له مقتض يقتضي وضعه فيمحوه فلا يشرعه، و يعفو عن البلايا و المصائب و أسبابها قائمة فيمحوها فلا تصيب الإنسان.

6- رابطة العمل و الجزاء:

قد عرفنا فيما تقدم من البحث أن الأوامر و النواهي العقلائية- القوانين الدائرة بينهم- تستعقب آثارا جميلة حسنة على امتثالها و هي الثواب، و آثارا سيئة على مخالفتها و التمرد منها تسمى عقابا، و أن ذلك كالحيلة يحتالون بها إلى العمل بها، فجعلهم الجزاء الحسن للامتثال إنما هو ليكون مشوقا للعامل، و الجزاء السيئ على المخالفة ليكون العامل على خوف و حذر من التمرد.

و من هنا يظهر أن الرابطة بين العمل و الجزاء رابطة جعلية وضعية من المجتمع أو من ولي الأمر، دعاهم إلى هذا الجعل حاجتهم الشديدة إلى العمل ليستفيدوا منه و يرفعوا به الحاجة و يسدوا به الخلة، و لذلك تراهم إذا استغنوا و ارتفعت حاجتهم إلى العمل ساهلوا في الوفاء على ما تعهدوا به من ثواب و عقاب.

و لذلك أيضا ترى الجزاء يختلف كثرة و قلة و الأجر يتفاوت شدة و ضعفا باختلاف الحاجة إلى العمل فكلما زادت الحاجة زاد الأجر و كلما نقصت نقص؛ فالأمر و المأمور و المكلف و المكلف بمنزلة البائع و المشتري كل منهما يعطي شيئا و يأخذ شيئا.

و الأجر و الثواب بمنزلة الثمن، و العقاب بمنزلة الدرك على من أتلف شيئا فضمن قيمته و استقرت في ذمته.

و بالجملة فهو أمر وضعي اعتباري نظير سائر العناوين و الأحكام و الموازين الاجتماعية التي يدور عليها رحى الاجتماع الإنساني كالرئاسة و المرئوسية و الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الوجوب و الحرمة و الملك و المال و البيع و الشراء و غير ذلك، و إنما الحقائق‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص: 375

هي الموجودات الخارجية و الحوادث المكتنفة بها التي لا تختلف حالها بغنى و فقر و عز و ذل و مدح و ذم كالأرض و ما يخرج منها و الموت و الحياة و الصحة و المرض و الجوع و الشبع و الظمأ و الري.

فهذا ما عند العقلاء من أهل الاجتماع، و الله سبحانه جارانا في كلامه مجاراة بعضنا بعضا فقلب سعادتنا التي يهدينا إليها بدينه في قالب السنن الاجتماعية فأمر و نهى و رغب و حذر، و بشر و أنذر، و وعد بالثواب و أوعد بالعقاب فصرنا نتلقى الدين على أسهل الوجوه التي نتلقى بها السنن و القوانين الاجتماعية، قال تعالى: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» : النور: 21.

و لم يهمل سبحانه أمر تعليم النفوس المستعدة لإدراك الحقائق فأشار في آيات من كلامه إلى أن وراء هذه المعارف الدينية التي تشتمل عليها ظواهر الكتاب و السنة أمرا هو أعظم، و سرا هو أنفس و أبهى فقال تعالى: «وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» : العنكبوت: 64.

فعد الحياة الدنيا لعبا لا بنية له إلا الخيال، و لا شأن له إلا أن يشغل الإنسان عما يهمه، و هي الدار الآخرة و سعادة الإنسان الدائمة التي لها حقيقة الحياة، و المراد بالحياة الدنيا إن كان هو عين ما نسميه حياة دون ما يلحق بها من الشئون الحيوية من مال و جاه و ملك و عزة و كرامة و نحوها فكونها لعبا و لهوا مع ما نراها من الحقائق يستلزم كون الشئون الحيوية لعبا و لهوا بطريق أولى، و إن كان المراد الحياة الدنيوية بجميع لواحقها فالأمر أوضح.

فهذه السنن الاجتماعية و المقاصد التي يطلب بها من عز و جاه و مال و غيرها، ثم الذي يشتمل عليه التعليم الديني من مواد و مقاصد هدانا الله سبحانه إليها بالفطرة ثم بالرسالة مثلها كمثل اللعب الذي يضعه الولي المربي العاقل للطفل الصغير الذي لا يميز صلاحه من فساده و خيره من شره ثم يجاريه فيه ليروض بدنه و يروح ذهنه و يهيئه لنظام العمل و ابتغاء الفوز به، فالذي يقع من العمل اللعبي هو من الصبي لعب جميل يهديه إلى حد العمل، و من الولي حكمة و عمل جدي ليس من اللعب في شي‏ء.

صفحه بعد