کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

الميزان فى تفسير القرآن

الجزء الأول

المقدمة في مسلك البحث التفسيري في الكتاب.

(2)«سورة البقرة و هي مائتان و ست و ثمانون آية»(286)

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

[سورة البقرة(2): الآيات 49 الى 61]

(الأخلاق) بيان (بحث روائي في البرزخ و حياة الروح بعد الموت) (بحث فلسفي) تجرد النفس أيضا. (بحث أخلاقي) (بحث روائي آخر) في متفرقات متعلقة بما تقدم

الجزء الثاني

بقية سورة البقرة

الجزء الثالث

(3) سورة آل عمران مدنية و هي مائتا آية(200)

الجزء الرابع

بقية سورة آل عمران

(4) سورة النساء مدنية و هي مائة و ست و سبعون آية(176)

الجزء الخامس

(5)«سورة المائدة مدنية و هي مائة و عشرون آية»(120)

الجزء السادس

بقية سورة المائدة

الجزء السابع

(6)(سورة الأنعام - مكية و هي مائة و خمس و ستون آية)(165)

الجزء الثامن

(7) سورة الأعراف مكية و هي مائتا و ستة آية(206)

الجزء التاسع

(9)(سورة التوبة مدنية و هي مائة و تسع و عشرون آية)(129)

الجزء العاشر

(11)(سورة هود مكية و هي مائة و ثلاث و عشرين آية)(123)

[سورة هود(11): الآيات 36 الى 49]

(بيان) (بحث روائي)

الجزء الحادي عشر

(12) سورة يوسف مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

الجزء الثاني عشر

الجزء الثالث عشر

(17) سورة الإسراء مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية(111)

(18) سورة الكهف مكية و هي مائة و عشر آيات(110)

الجزء الرابع عشر

الجزء الخامس عشر

الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر

الجزء الثامن عشر

الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون

الميزان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏8، ص: 302

قال: فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء- فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء- فلما أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله- غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية- فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت- فدقوا فلم يجاوبوا و لم يسمعوا منها حس أحد- فوضعوا فيها سلما على سور المدينة- ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر- فإذا هو بالقوم قرد يتعاونون و لهم أذناب- فكسروا الباب فعرفت الطائفة أنسابها من الإنس، و لم يعرف الإنس أنسابها من القردة- فقال القوم للقردة: أ لم ننهكم؟.

فقال علي (ع): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة- إني لأعرف أنسابها من هذه الأمة لا ينكرون و لا يغيرون- بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا، و قد قال الله: فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏ ، فقال الله: « أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ- وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ‏ ».:

أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (ع) .

و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس غير أن فيها أن المذكورين في الآية حي من اليهود من أهل أيلة و ظاهره أنهم كانوا من بني إسرائيل و رواية أبي جعفر (ع) تصرح بأنهم كانوا من قوم ثمود، و ليس من البعيد أن يكونوا قوما من عرب ثمود دخلوا في دين اليهود لقرب دارهم و جوارهم فإن أيلة كما يقال: كانت بلدة بين مصر و المدينة على شاطئ البحر.

و ربما قيل: إن القرية التي أشارت إليها الآية هي مدين، و قيل: هي طبرية، و قيل: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين و عينونا.

و في رواية ابن عباس التي أشرنا إليها و غيرها مما روي عنه أيضا أنه كان يبكي و يقول: نجا الناهون، و هلك الفاعلون، و لا أدري ما فعل بالساكتين، و في رواية عكرمة: قلت لابن عباس: أي جعلني الله فداك أ لا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه و خالفوهم و قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ قال: فأمرني فكسيت ثوبين غليظين.

يريد أنه استحسن قولي بنجاتهم لكراهتهم فعلهم و اعتقادهم بأنهم معاقبون لا محالة فخلع علي بثوبين، و أخذ بقولي.

و قد أخطأ عكرمة فإن القوم و إن كانوا كرهوا فعلهم و لم يشاركوهم في الصيد

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏8، ص: 303

المحرم لكنهم اقترفوا معصية هي أعظم من ذلك و هو ترك النهي عن المنكر، و قد نبههم الناهون بذلك إذ قالوا: مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏ ، و كلامهم يدل على أن المقام لم يكن مقام اليأس عن تأثير الموعظة حتى يسقط بذلك التكليف، و لما يئس منهم الناهون هجروهم و فارقوهم، و لم يهجرهم الآخرون و لم يفارقوهم على ما في الروايات.

على أن الله تعالى قال: « أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ‏ » فلم يذكر في جانب النجاة إلا الذين ينهون عن السوء و أخذ في جانب الأخذ الذين ظلموا دون الذين صادوا، و لا مانع من شمول « الَّذِينَ ظَلَمُوا » لأولئك التاركين للنهي عن المنكر.

و أما قوله: « فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً » فإن كان معناه عتوا عن ترك ما نهوا عنه كما تقدم عن المفسرين كان هذا العذاب بحسب دلالة هذه الآية مختصا بالصائدين لكنها لا تمنع عموم الآية السابقة للصائدين و الساكتين جميعا لاشتراكهم في الظلم و الفسق، و إن كان معنى الآية الإعراض عما نهوا عنه من غير تقدير الترك و ما بمعناه اختصت الآية ببيان عذاب الساكتين و كان عذاب الصائدين مبينا في الآية السابقة:

« فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ‏ » الآية كما يومئ إليه بعض الروايات الآتية.

و في المجمع،: أنه هلكت الفرقتان، و نجت الفرقة الناهية: روي ذلك عن أبي عبد الله (ع).

أقول: و لا ينافيه نص الآية على مسخ العاتين فإن الهلاك يعم مثل المسخ.

ى أن الأخبار متظافرة في أن الممسوخ لا يعيش بعد المسخ إلا أياما ثم يهلك.

و في الكافي، عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن المغيرة عن طلحة بن يزيد عن أبي عبد الله (ع) * في قوله تعالى: « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ » قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا و نجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا.

أقول: و الرواية- كما ترى- مبنية على كون قوله: « فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً » الآية ناظرا إلى عذاب الساكتين دون المرتكبين للصيد المحرم‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏8، ص: 304

و معنى « عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا » كفوا عن الصيد الذي نهوا عنه و لا حاجة حينئذ إلى تقدير الترك و نحوه في الكلام و يبقى لبيان عذاب الفرقة الأخرى قوله في الآية السابقة.

و لا مانع من هذا المعنى إلا أن مقتضى المقام أن يذكر السبب لعذاب الساكتين كفهم عن موعظة الفاعلين لا عتوهم عما نهوا عنه مع ما في استعمال العتو في مورد الكف و الإعراض من البعد، و الرواية مع ذلك ضعيفة

و قد رواها الصدوق بالسند بعينه عن طلحة عن أبي جعفر (ع) في الآية و فيها: قال: كانوا ثلاثة أصناف:

صنف ائتمروا و أمروا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا

و و رواها العياشي عن طلحة عن جعفر بن محمد عن أبيه (ع) في الآية قال*: افترق القوم ثلاث فرق فرقة انتهت و اعتزلت، و فرقة أقامت و لم يقارف الذنوب، و فرقة اقترفت الذنوب- فلم ينج من العذاب إلا من انتهت- قال جعفر: قلت لأبي جعفر (ع): ما صنع بالذين أقاموا و لم يقارفوا الذنوب؟ قال أبو جعفر (ع):

بلغني أنهم صاروا ذرا،

و الظاهر أنها جميعا رواية واحدة على ما في سندها من الضعف، و في متنها من التشويش و الاختلاف.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله (ع) قال*: «إن الله خص عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا، و لا يردوا ما لم يعلموا قال الله عز و جل: « أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ- أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ‏ » و قال:

« بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏ ».:

أقول: و رواه العياشي عن إسحاق عنه (ع)، و روي مثله عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي الحسن الأول (ع).

و في تفسير القمي،: في معنى قوله تعالى: « وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ‏ » الآية- قال الصادق (ع): لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه- فرفع الله عليهم جبل طور سيناء- فقال لهم موسى: إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل- فقبلوه و طأطئوا رءوسهم.

و في الإحتجاج، عن أبي بصير قال*: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي (ع) جالسا في الحرم- و حوله جماعة من أوليائه- إذ أقبل طاووس اليماني في جماعة من أصحابه. ثم قال لأبي جعفر (ع): أ تأذن لي في السؤال؟ قال: أذنا لك فاسأل. فسأله عن سؤال‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏8، ص: 305

و أجابه و كان فيما سأله قال: فأخبرني عن طائر طار و لم يطر قبلها و لا بعدها- ذكره الله عز و جل في القرآن، ما هو؟ فقال: طور سيناء أطاره الله عز و جل- على بني إسرائيل الذين أظلهم بجناح منه- فيه ألوان العذاب حتى قبلوا التوراة، و ذلك قوله عز و جل: « وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ‏ » الآية.

أقول: و قد روي ما في معنى الرواية الأولى من طرق أهل السنة

عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة- فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه- حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك.

و الرواية الثانية من طرقهم عن ابن عباس في مسائل كتبها هرقل ملك الروم إلى معاوية يسأله عنها فقيل له: لست هناك و إنك متى تخطئ شيئا في كتابك إليه يغتمزه فيك فاكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بها فأرسل ذلك إلى قيصر فقال قيصر: ما يعلم هذا إلا نبي أو أهل بيت نبي.

و اعلم أن في الآية بعض روايات أخر تقدمت في نظيرة الآية من سورة البقرة فراجعها إن شئت.

[سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏8، ص: 306

بيان‏

الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبية و هي من أدق الآيات القرآنية معنى، و أعجبها نظما.

قوله تعالى: « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا » أخذ الشي‏ء من الشي‏ء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه و استقلاله دونه بنحو من الأنحاء، و هو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها و الاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام و أخذ الجرعة من ماء القدح و هو نوع من الأخذ، و أخذ المال و الأثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير و هو نوع آخر، أو أنواع مختلفة أخرى، و كأخذ العلم من العالم و أخذ الأهبة من المجلس و أخذ الحظ من لقاء الصديق و هو نوع و أخذ الولد من والده للتربية و هو نوع إلى غير ذلك.

فمجرد ذكر الأخذ من الشي‏ء لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد، و لذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله: « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ‏ » الدال على تفريقهم و تفصيل بعضهم من بعض، قوله: « مِنْ ظُهُورِهِمْ‏ » ليدل على نوع الفصل و الأخذ، و هو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها و لا تنقلب عن تمامها و استقلالها ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئا تاما مستقلا من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من يلده و يولده، و قد كان جزء ثم يجعل بعد الأخذ و الفصل إنسانا تاما مستقلا من والديه بعد ما كان جزء منهما.

ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر و على هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ و ينفصل كل جزء عما كان جزء منه، و يتفرق الأناسي و ينتشر الأفراد و قد استقل كل منهم عمن سواه و يكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها و عليها ما عليها، فهذا مفاد قوله: « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏ » و لو قال: أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم و نحو ذلك بقي المعنى على إبهامه.

و قوله: « وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏ » ينبئ عن فعل آخر إلهي تعلق‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏8، ص: 307

بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض و فصل بين كل واحد منهم و غيره و هو إشهادهم على أنفسهم، و الإشهاد على الشي‏ء هو إحضار الشاهد عنده و إراءته حقيقته ليتحمله علما تحملا شهوديا فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا.

و للنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق و الارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض غير أن قوله: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏ » يوضح ما أشهدوا لأجله و أريد شهادتهم عليه، و هو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة.

فالإنسان و إن بلغ من الكبر و الخيلاء ما بلغ، و غرته مساعدة الأسباب ما غرته و استهوته لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه و لا يستقل بتدبير أمره، و لو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت و سائر آلام الحياة و مصائبها، و لو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية، و الوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها و يحكم فيها ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها، و الانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، و ليس إلى الإنسان أن يسد خلتها و يرفع حاجتها.

فالحاجة إلى رب- مالك مدبر- حقيقة الإنسان، و الفقر مكتوب على نفسه، و الضعف مطبوع على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني، و العالم و الجاهل و الصغير و الكبير و الشريف و الوضيع في ذلك سواء.

فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه و يدبر أمره، و كيف لا يشاهد ربه و هو يشاهد حاجته الذاتية؟ و كيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه؟ فقوله: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏ » بيان ما أشهد عليه، و قوله: « قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا » اعتراف منهم بوقوع الشهادة و ما شهدوه، و لذا قيل: إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده و ما يتعلق به وجوده من اللوازم و الأحكام، و معنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض و فرقناهم و ميزنا بعضهم من بعض بالتناسل و التوالد، و أوفقناهم على احتياجهم و مربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏8، ص: 308

و على هذا يكون قولهم: « بَلى‏ شَهِدْنا » من قبيل القول بلسان الحال أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم حيث اعترفوا بحاجاتهم و لزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه، و الفرق بين لسان الحال، و القول بلازم القول: أن الأول انكشاف المعنى عن الشي‏ء لدلالة صفة من صفاته و حال من أحواله عليه سواء شعر به أم لا كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها، و كيف لعب الدهر بهم؟ و عدت عادية الأيام عليهم؟

فأسكنت أجراسهم و أخمدت أنفاسهم، و كما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره و مسكنته و سوء حاله. و الثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام.

فعلى أحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال و القول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى: « قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا » و الأول أقرب و أنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.

و من المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏ » فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، و لذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المساءلة و المجاوبة فإن الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل، و الإيجاد كلام حقيقي- و إن كان بنحو التحليل- كما تقدم مرارا في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏ » و قولهم: « بَلى‏ شَهِدْنا » من ذاك القبيل، و سيجي‏ء للكلام تتمة.

و كيف كان فقوله: « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ‏ » الآية يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض، و إشهاد كل واحد منهم على نفسه، و أخذ الاعتراف على الربوبية منه، و يدل ذيل الآية و ما يتلوه أعني قوله: « أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ‏ » على الغرض من هذا الأخذ و الإشهاد.

صفحه بعد