کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج8، ص: 302
قال: فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء- فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء- فلما أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله- غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية- فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت- فدقوا فلم يجاوبوا و لم يسمعوا منها حس أحد- فوضعوا فيها سلما على سور المدينة- ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر- فإذا هو بالقوم قرد يتعاونون و لهم أذناب- فكسروا الباب فعرفت الطائفة أنسابها من الإنس، و لم يعرف الإنس أنسابها من القردة- فقال القوم للقردة: أ لم ننهكم؟.
فقال علي (ع): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة- إني لأعرف أنسابها من هذه الأمة لا ينكرون و لا يغيرون- بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا، و قد قال الله: فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، فقال الله: « أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ- وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ».:
أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (ع) .
و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس غير أن فيها أن المذكورين في الآية حي من اليهود من أهل أيلة و ظاهره أنهم كانوا من بني إسرائيل و رواية أبي جعفر (ع) تصرح بأنهم كانوا من قوم ثمود، و ليس من البعيد أن يكونوا قوما من عرب ثمود دخلوا في دين اليهود لقرب دارهم و جوارهم فإن أيلة كما يقال: كانت بلدة بين مصر و المدينة على شاطئ البحر.
و ربما قيل: إن القرية التي أشارت إليها الآية هي مدين، و قيل: هي طبرية، و قيل: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين و عينونا.
و في رواية ابن عباس التي أشرنا إليها و غيرها مما روي عنه أيضا أنه كان يبكي و يقول: نجا الناهون، و هلك الفاعلون، و لا أدري ما فعل بالساكتين، و في رواية عكرمة: قلت لابن عباس: أي جعلني الله فداك أ لا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه و خالفوهم و قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ قال: فأمرني فكسيت ثوبين غليظين.
يريد أنه استحسن قولي بنجاتهم لكراهتهم فعلهم و اعتقادهم بأنهم معاقبون لا محالة فخلع علي بثوبين، و أخذ بقولي.
و قد أخطأ عكرمة فإن القوم و إن كانوا كرهوا فعلهم و لم يشاركوهم في الصيد
الميزان فى تفسير القرآن، ج8، ص: 303
المحرم لكنهم اقترفوا معصية هي أعظم من ذلك و هو ترك النهي عن المنكر، و قد نبههم الناهون بذلك إذ قالوا: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، و كلامهم يدل على أن المقام لم يكن مقام اليأس عن تأثير الموعظة حتى يسقط بذلك التكليف، و لما يئس منهم الناهون هجروهم و فارقوهم، و لم يهجرهم الآخرون و لم يفارقوهم على ما في الروايات.
على أن الله تعالى قال: « أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » فلم يذكر في جانب النجاة إلا الذين ينهون عن السوء و أخذ في جانب الأخذ الذين ظلموا دون الذين صادوا، و لا مانع من شمول « الَّذِينَ ظَلَمُوا » لأولئك التاركين للنهي عن المنكر.
و أما قوله: « فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً » فإن كان معناه عتوا عن ترك ما نهوا عنه كما تقدم عن المفسرين كان هذا العذاب بحسب دلالة هذه الآية مختصا بالصائدين لكنها لا تمنع عموم الآية السابقة للصائدين و الساكتين جميعا لاشتراكهم في الظلم و الفسق، و إن كان معنى الآية الإعراض عما نهوا عنه من غير تقدير الترك و ما بمعناه اختصت الآية ببيان عذاب الساكتين و كان عذاب الصائدين مبينا في الآية السابقة:
« فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ » الآية كما يومئ إليه بعض الروايات الآتية.
و في المجمع،: أنه هلكت الفرقتان، و نجت الفرقة الناهية: روي ذلك عن أبي عبد الله (ع).
أقول: و لا ينافيه نص الآية على مسخ العاتين فإن الهلاك يعم مثل المسخ.
ى أن الأخبار متظافرة في أن الممسوخ لا يعيش بعد المسخ إلا أياما ثم يهلك.
و في الكافي، عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن المغيرة عن طلحة بن يزيد عن أبي عبد الله (ع) * في قوله تعالى: « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ » قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا و نجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا.
أقول: و الرواية- كما ترى- مبنية على كون قوله: « فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً » الآية ناظرا إلى عذاب الساكتين دون المرتكبين للصيد المحرم
الميزان فى تفسير القرآن، ج8، ص: 304
و معنى « عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا » كفوا عن الصيد الذي نهوا عنه و لا حاجة حينئذ إلى تقدير الترك و نحوه في الكلام و يبقى لبيان عذاب الفرقة الأخرى قوله في الآية السابقة.
و لا مانع من هذا المعنى إلا أن مقتضى المقام أن يذكر السبب لعذاب الساكتين كفهم عن موعظة الفاعلين لا عتوهم عما نهوا عنه مع ما في استعمال العتو في مورد الكف و الإعراض من البعد، و الرواية مع ذلك ضعيفة
و قد رواها الصدوق بالسند بعينه عن طلحة عن أبي جعفر (ع) في الآية و فيها: قال: كانوا ثلاثة أصناف:
صنف ائتمروا و أمروا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا
و و رواها العياشي عن طلحة عن جعفر بن محمد عن أبيه (ع) في الآية قال*: افترق القوم ثلاث فرق فرقة انتهت و اعتزلت، و فرقة أقامت و لم يقارف الذنوب، و فرقة اقترفت الذنوب- فلم ينج من العذاب إلا من انتهت- قال جعفر: قلت لأبي جعفر (ع): ما صنع بالذين أقاموا و لم يقارفوا الذنوب؟ قال أبو جعفر (ع):
بلغني أنهم صاروا ذرا،
و الظاهر أنها جميعا رواية واحدة على ما في سندها من الضعف، و في متنها من التشويش و الاختلاف.
و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله (ع) قال*: «إن الله خص عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا، و لا يردوا ما لم يعلموا قال الله عز و جل: « أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ- أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ » و قال:
« بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ».:
أقول: و رواه العياشي عن إسحاق عنه (ع)، و روي مثله عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي الحسن الأول (ع).
و في تفسير القمي،: في معنى قوله تعالى: « وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ » الآية- قال الصادق (ع): لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه- فرفع الله عليهم جبل طور سيناء- فقال لهم موسى: إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل- فقبلوه و طأطئوا رءوسهم.
و في الإحتجاج، عن أبي بصير قال*: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي (ع) جالسا في الحرم- و حوله جماعة من أوليائه- إذ أقبل طاووس اليماني في جماعة من أصحابه. ثم قال لأبي جعفر (ع): أ تأذن لي في السؤال؟ قال: أذنا لك فاسأل. فسأله عن سؤال
الميزان فى تفسير القرآن، ج8، ص: 305
و أجابه و كان فيما سأله قال: فأخبرني عن طائر طار و لم يطر قبلها و لا بعدها- ذكره الله عز و جل في القرآن، ما هو؟ فقال: طور سيناء أطاره الله عز و جل- على بني إسرائيل الذين أظلهم بجناح منه- فيه ألوان العذاب حتى قبلوا التوراة، و ذلك قوله عز و جل: « وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ » الآية.
أقول: و قد روي ما في معنى الرواية الأولى من طرق أهل السنة
عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة- فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه- حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك.
و الرواية الثانية من طرقهم عن ابن عباس في مسائل كتبها هرقل ملك الروم إلى معاوية يسأله عنها فقيل له: لست هناك و إنك متى تخطئ شيئا في كتابك إليه يغتمزه فيك فاكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بها فأرسل ذلك إلى قيصر فقال قيصر: ما يعلم هذا إلا نبي أو أهل بيت نبي.
و اعلم أن في الآية بعض روايات أخر تقدمت في نظيرة الآية من سورة البقرة فراجعها إن شئت.
[سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]
الميزان فى تفسير القرآن، ج8، ص: 306
بيان
الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبية و هي من أدق الآيات القرآنية معنى، و أعجبها نظما.
قوله تعالى: « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا » أخذ الشيء من الشيء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه و استقلاله دونه بنحو من الأنحاء، و هو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها و الاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام و أخذ الجرعة من ماء القدح و هو نوع من الأخذ، و أخذ المال و الأثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير و هو نوع آخر، أو أنواع مختلفة أخرى، و كأخذ العلم من العالم و أخذ الأهبة من المجلس و أخذ الحظ من لقاء الصديق و هو نوع و أخذ الولد من والده للتربية و هو نوع إلى غير ذلك.
فمجرد ذكر الأخذ من الشيء لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد، و لذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله: « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ » الدال على تفريقهم و تفصيل بعضهم من بعض، قوله: « مِنْ ظُهُورِهِمْ » ليدل على نوع الفصل و الأخذ، و هو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها و لا تنقلب عن تمامها و استقلالها ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئا تاما مستقلا من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من يلده و يولده، و قد كان جزء ثم يجعل بعد الأخذ و الفصل إنسانا تاما مستقلا من والديه بعد ما كان جزء منهما.
ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر و على هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ و ينفصل كل جزء عما كان جزء منه، و يتفرق الأناسي و ينتشر الأفراد و قد استقل كل منهم عمن سواه و يكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها و عليها ما عليها، فهذا مفاد قوله: « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » و لو قال: أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم و نحو ذلك بقي المعنى على إبهامه.
و قوله: « وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ » ينبئ عن فعل آخر إلهي تعلق
الميزان فى تفسير القرآن، ج8، ص: 307
بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض و فصل بين كل واحد منهم و غيره و هو إشهادهم على أنفسهم، و الإشهاد على الشيء هو إحضار الشاهد عنده و إراءته حقيقته ليتحمله علما تحملا شهوديا فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا.
و للنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق و الارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض غير أن قوله: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ » يوضح ما أشهدوا لأجله و أريد شهادتهم عليه، و هو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة.
فالإنسان و إن بلغ من الكبر و الخيلاء ما بلغ، و غرته مساعدة الأسباب ما غرته و استهوته لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه و لا يستقل بتدبير أمره، و لو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت و سائر آلام الحياة و مصائبها، و لو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية، و الوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها و يحكم فيها ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها، و الانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، و ليس إلى الإنسان أن يسد خلتها و يرفع حاجتها.
فالحاجة إلى رب- مالك مدبر- حقيقة الإنسان، و الفقر مكتوب على نفسه، و الضعف مطبوع على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني، و العالم و الجاهل و الصغير و الكبير و الشريف و الوضيع في ذلك سواء.
فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه و يدبر أمره، و كيف لا يشاهد ربه و هو يشاهد حاجته الذاتية؟ و كيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه؟ فقوله: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ » بيان ما أشهد عليه، و قوله: « قالُوا بَلى شَهِدْنا » اعتراف منهم بوقوع الشهادة و ما شهدوه، و لذا قيل: إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده و ما يتعلق به وجوده من اللوازم و الأحكام، و معنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض و فرقناهم و ميزنا بعضهم من بعض بالتناسل و التوالد، و أوفقناهم على احتياجهم و مربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا.
الميزان فى تفسير القرآن، ج8، ص: 308
و على هذا يكون قولهم: « بَلى شَهِدْنا » من قبيل القول بلسان الحال أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم حيث اعترفوا بحاجاتهم و لزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه، و الفرق بين لسان الحال، و القول بلازم القول: أن الأول انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفة من صفاته و حال من أحواله عليه سواء شعر به أم لا كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها، و كيف لعب الدهر بهم؟ و عدت عادية الأيام عليهم؟
فأسكنت أجراسهم و أخمدت أنفاسهم، و كما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره و مسكنته و سوء حاله. و الثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام.
فعلى أحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال و القول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى: « قالُوا بَلى شَهِدْنا » و الأول أقرب و أنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.
و من المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ » فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، و لذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المساءلة و المجاوبة فإن الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل، و الإيجاد كلام حقيقي- و إن كان بنحو التحليل- كما تقدم مرارا في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ » و قولهم: « بَلى شَهِدْنا » من ذاك القبيل، و سيجيء للكلام تتمة.
و كيف كان فقوله: « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ » الآية يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض، و إشهاد كل واحد منهم على نفسه، و أخذ الاعتراف على الربوبية منه، و يدل ذيل الآية و ما يتلوه أعني قوله: « أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ » على الغرض من هذا الأخذ و الإشهاد.