کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج10، ص: 194
قوله: « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ - إلى قوله - أَ فَلا تَذَكَّرُونَ » بيان لحال الفريقين و هم الذين يكفرون بالقرآن و الذين يؤمنون به.
قوله تعالى: « مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَ فَلا تَذَكَّرُونَ المثل هو الوصف، و غلب في المثل السائر و هو بيان معنى من المعاني الخفية على المستمع بأمر محسوس أو كالمحسوس يأنس به ذهنه و يتلقاه فهمه لينتقل به إلى المعنى المعقول المقصود بيانه، و المراد بالفريقين من بين حالهما في الآيات السابقة، و الباقي واضح.
(بحث روائي)
في الكافي، بإسناده عن أحمد بن عمر الخلال قال: سألت أبا الحسن (ع) عن قول الله عز و جل: « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » فقال: أمير المؤمنين (ع) هو الشاهد من رسول الله ص- و رسول الله على بينة من ربه.
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن الحسن (ع): في خطبة طويلة خطبها بمحضر معاوية- منها- فأدت الأمور و أفضت الدهور- إلى أن بعث الله محمدا ص للنبوة و اختاره للرسالة، و أنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عز و جل- فكان أبي أول من استجاب لله عز و جل و لرسله- و أول من آمن و صدق الله و رسوله، و قد قال الله عز و جل في كتابه المنزل على نبيه المرسل: « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » فرسول الله ص الذي على بينة من ربه، و أبي الذي يتلوه و هو شاهد منه.
الخطبة.
أقول: و كلامه (ع) أحسن شاهد على ما قدمناه في معنى الآية أن إرادته (ع) بالشاهد من باب الانطباق.
و في بصائر الدرجات، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (ع): لو كسرت لي الوسادة فقعدت عليها- لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و أهل
الميزان فى تفسير القرآن، ج10، ص: 195
الإنجيل بإنجيلهم- و أهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى الله يزهر، و الله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار- إلا و قد علمت فيمن أنزلت، و لا أحد ممن مر على رأسه المواسي- إلا و قد أنزلت آية فيه من كتاب الله- تسوقه إلى الجنة أو النار-.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين- ما الآية التي نزلت فيك؟ قال: أ ما سمعت الله يقول: « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ- وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » فرسول الله ص على بينة من ربه- و أنا الشاهد له و منه:
أقول: و روى هذا المعنى المفيد في الأمالي، مسندا و في كشف الغمة، مرسلا عن عباد بن عبد الله الأسدي عنه (ع)، و العياشي في تفسيره مرسلا عن جابر عن عبد الله بن يحيى عنه (ع) و كذا ابن شهرآشوب عن الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عنه (ع) و كذا عن الأصبغ و عن زين العابدين و الباقر و الصادق (ع) عنه (ع) .
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن- فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أ ما تقرأ سورة هود « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » رسول الله ص على بينة من ربه، و أنا شاهد منه:
أقول: و في تفسير البرهان، عن تفسير الثعلبي بإسناده عن الشعبي يرفعه إلى علي (ع) مثله و فيه عن ابن المغازلي يرفعه إلى عباد بن عبد الله عن علي (ع) مثله.
و كذا عن كنوز الرموز للرسعني مثله .
و فيه، أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ » أنا « وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: علي:
أقول: و في تفسير البرهان، عن ابن المغازلي في تفسير الآية عن النبي ص مثله .
و في تفسير البرهان، عن ابن المغازلي بإسناده عن علي بن حابس قال": دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء- قال أبو مريم: حدث علينا الحديث الذي حدثتني به عن أبي جعفر- قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر علينا ابن عبد الله بن سلام-
الميزان فى تفسير القرآن، ج10، ص: 196
قلت: جعلت فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب، قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب- الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله تعالى: « مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ » « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ- وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ- وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ».
و فيه، عن ابن شهرآشوب عن الحافظ أبي نعيم بثلاثة طرق عن ابن عباس قال: قال سمعت عليا يقول: قول الله تعالى: « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ- وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » رسول الله ص على بينة- و أنا الشاهد.
و فيه، أيضا عن موفق بن أحمد قال": قوله تعالى: « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ- وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » قال ابن عباس: هو علي- يشهد للنبي ص و هو منه.
أقول:
و رواه عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى ابن عباس": « أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » علي خاصة.
أقول: قال صاحب المنار، في تفسير الآية عند ذكر معاني الشاهد: و منها:
أنه علي رضي الله عنه ترويه الشيعة و يفسرونه بالإمامة، و روي: أنه كرم الله وجهه سئل عنه فأنكره و فسره بأنه لسانه (ص)، و قابلهم خصومهم بمثلها فقالوا:
أنه أبو بكر، و هما من التفسير بالهوى. انتهى أما قوله: «إن الشيعة ترويه» فقد عرفت أن رواته من أهل السنة أكثر من الشيعة، و أما قوله: «إنه مثل تفسيره بأبي بكر من التفسير بالهوى» فيكفيك في ذلك ما تقدم في معنى الآية فراجع.
و في الكافي، بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له:
إن عندنا رجلا يقال له: كليب- فلا يجيء عنكم شيء إلا قال: أنا أسلم فسميناه كليب تسليم- قال: فترحم عليه ثم قال: أ تدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال: هو و الله الإخبات- قول الله عز و جل: « الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ- وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ :» أقول: و روى مثله العياشي في تفسيره و الكشي و كذا صاحب البصائر عن أبي أسامة زيد الشحام عنه (ع) .
الميزان فى تفسير القرآن، ج10، ص: 197
[سورة هود (11): الآيات 25 الى 35]
الميزان فى تفسير القرآن، ج10، ص: 198
(بيان)
شروع في قصص الأنبياء (ع) و قد بدأ بنوح و عقبه بجماعة ممن بعده كهود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى (ع). و قد قسم قصة نوح إلى فصول أولها احتجاجه (ع) على قومه في التوحيد فهو (ع) أول الأنبياء الناهضين للتوحيد على الوثنية على ما ذكره الله تعالى في كتابه، و أكثر ما قص من احتجاجه (ع) مع قومه من المجادلة بالتي هي أحسن و بعضه من الموعظة و قليل منه من الحكمة و هو الذي يناسب تفكر البشر الأولي و الإنسان القديم الساذج و خاصة تفكرهم الاجتماعي الذي لا ظهور فيه إلا للمركوم من أفكار الأفراد المتوسطين في الفهم.
قوله تعالى: « وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ » القراءة المعروفة « إِنِّي » بكسر الهمزة على تقدير القول و قرئ أني بفتح الهمزة بنزع الخافض و التقدير بأني لكم نذير مبين، و الجملة أعني قوله: « إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ » على أي حال بيان إجمالي لما أرسل به فإن جميع ما بلغه قومه عن ربه و أرسل به إليهم إنذار مبين فهو نذير مبين.
فكما أنه لو قال: ما سألقيه إليكم من القول إنذار مبين كان بيانا لجميع ما أرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ بيان لذلك بالإجمال غير أنه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه و هي أنه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله، و ليس له من الأمر شيء أزيد من أنه واسطة يحمل الرسالة.
قوله تعالى: « أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ». بيان ثان لما أرسل به أو بيان لقوله: « إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ » و مآل الوجهين واحد، و أن
الميزان فى تفسير القرآن، ج10، ص: 199
على أي حال مفسرة، و المعنى أن محصل رسالته النهي عن عبادة غير الله تعالى من طريق الإنذار و التخويف.
و ذكر بعض المفسرين أن الجملة أعني قوله: « أَنْ لا تَعْبُدُوا » إلخ، بدل من قوله: « إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ » أو مفعول لقوله مبين. و لعل السياق يؤيد ما قدمناه.
و الظاهر أن المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة أو الأعم من العذابين يدل على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم: « يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ » الآية، فإنه ظاهر في عذاب الاستئصال.
فهو (ع) كان يدعوهم إلى رفض عبادة الأوثان و يخوفهم من يوم ينزل عليهم من الله عذاب أليم أي مؤلم و نسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب في قوله:
« عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ » من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف.
و بما تقدم يندفع ما ربما قيل: إن تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما الوجه في خوفه (ع) من تعذيبهم المقطوع؟ و الخوف إنما يستقيم في محتمل الوقوع لا مقطوعه.
و بالجملة كان (ع) يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، و إنما كان يخوفهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم فقابلهم نوح (ع) بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم و دبر شئون حياتهم و أمور معاشهم بخلق السماوات و الأرض و إشراق الشمس و القمر و إنزال الأمطار و إنبات الأرض و إنشاء الجنات و شق الأنهار على ما يحكيه تعالى عنه (ع) في سورة نوح.
و إذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه فليخافوا عذابه و ليعبدوه وحده.
و هذه الحجة في الحقيقة حجة برهانية مبنية على اليقين لكنهم إنما كانوا يتلقونها حجة جدلية مبنية على الظن لأنهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقعون سخط الرب و عذابه على المخالفة لأنهم يرونه وليا لأمرهم مصلحا لشأنهم فيقيسون أمره بأمر الأولياء من
الميزان فى تفسير القرآن، ج10، ص: 200
الإنسان الحاكمين في من دونهم من أفراد المجتمع الذين يجب الخضوع لمقامهم و التسليم لإرادتهم و لو استكبر عن الخضوع لهم و التسليم لإرادتهم من دونهم سخطوا عليهم و عاقبوهم بما أجرموا و تمردوا.
و على هذا القياس يجب إرضاء الرب أو الأرباب الذين يرجع إليهم أمر الكون و ولاية النظام الجاري فيه فيجب إرضاؤه و إخماد نار غضبه بالخضوع له و التقرب إليه بتقديم القرابين و التضحية و سائر أنحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون و هو مبني على الظن.
لكن مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى و الاستكبار عن التسليم و الخضوع لساحة الربوبية مسألة حقيقية يقينية فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوي و المتأثر المقهور للمؤثر القاهر فما قولك في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور.
و قد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون و ربط بعضها ببعض ثم أجرى الحوادث على نظام الأسباب و على ذلك يجري كل شيء في نظام وجوده فلو انحرف عما يخطه له سائر الأسباب من الخط أدى ذلك إلى اختلال نظامها و كان ذلك منازعة منه لها و عند ذلك ينتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره و إرجاعه إلى خط يلائمها تدفع بذلك الشر عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطه المخطوط له فهو و إلا حطمتها حاطمات الأسباب و نازلات النوائب و البلايا، و هذا أيضا من النواميس الكلية.
و الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع و الإيجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته و وافق بذلك سائر أجزاء الكون و فتحت له أبواب السماء ببركاتها و سمحت له الأرض بكنوز خيراتها، و هذا هو الإسلام الذي هو الدين عند الله تعالى المدعو إليه بدعوة نوح و من بعده من الأنبياء و الرسل (ع).