کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج13، ص: 157
روح المعاني حيث قال بعد ذكر الأقوال. و الكل في الحقيقة على سبيل التمثيل و من ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادعى غلطا و رام شططا و خالف صريح العقل و صحيح النقل. انتهى. و وجه خطأه ظاهر مما تقدم.
و قوله: « وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ » أي حملناهم على السفن و الدواب و غير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم و ابتغاء فضل ربهم و رزقه و هذا أحد مظاهر تكريمهم.
و قوله: « وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ » أي من الأشياء التي يستطيبونها من أقسام النعم من الفواكه و الثمار و سائر ما يتنعمون به و يستلذونه مما يصدق عليه الرزق، و هذا أيضا أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة و هي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها و هو تكريم ثم يقدم عليه أنواع الأغذية و الأطعمة الطيبة اللذيذة و هو تكريم.
و بذلك يظهر أن عطف قوله: « وَ حَمَلْناهُمْ » إلخ و قوله: « وَ رَزَقْناهُمْ » إلخ على التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلي المنتزع منها.
و قوله: « وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا » لا يبعد أن يكون المراد بمن خلقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور و الجن الذي يثبته القرآن فإن الله سبحانه يعد أنواع الحيوان أمما أرضية كالأمة الإنسانية و يجريها مجرى أولي العقل كما قال:
و هذا هو الأنسب بمعنى الآية و قد عرفت أن الغرض منها بيان ما كرم الله به بني آدم و فضلهم على سائر الموجودات الكونية و هي- فيما نعلم- الحيوان و الجن و أما الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادي الحاكم في عالم المادة.
فالمعنى: و فضلنا بني آدم على كثير مما خلقنا و هم الحيوان و الجن و أما غير
الميزان فى تفسير القرآن، ج13، ص: 158
الكثير و هم الملائكة فهم خارجون عن محل الكلام لأنهم موجودات نورية غير كونية و لا داخلة في مجرى النظام الكوني، و الآية إنما تتكلم في الإنسان من جهة أنه أحد الموجودات الكونية و قد أنعم عليه بنعم نفسية و إضافية.
و قد تبين مما تقدم:
أولا: أن كلا من التكريم و التفضيل في الآية ناظر إلى نوع من الموهبة الإلهية التي أوتيها الإنسان، أما تكريمه فيما يختص بنوعه من الموهبة لا يتعداه إلى غيره و هو العقل الذي يميز به الخير من الشر و النافع من الضار و الحسن من القبيح و يتفرع عليه مواهب أخرى كالتسلط على غيره و استخدامه في سبيل مقاصده و النطق و الخط و غيره.
و أما تفضيله فبما يزيد به على غيره في الأمور المشتركة بينه و بين غيره كما أن الحيوان يتغذى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حب أو عشب و نحو ذلك على وجه ساذج و الإنسان يتغذى بذلك و يزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ و غير المطبوخ على أنحاء مختلفة و فنون مبتكرة و طعوم مستطابة لذيذة لا تكاد تحصى و لا تزال تزداد نوعا و صنفا، و قس على ذلك الحال في مشربه و ملبسه و مسكنه و نكاحه و اجتماعه المنزلي و المدني و غير ذلك.
و قال في مجمع البيان،: و متى قيل: إذا كان معنى التكريم و التفضيل واحدا فما معنى التكرار؟ فجوابه أن قوله: « كَرَّمْنا » ينبئ عن الإنعام و لا ينبئ عن التفضل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه، و قيل: إن التكريم يتناول نعم الدنيا و التفضيل يتناول نعم الآخرة، و قيل: إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف، و التفضل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية. انتهى.
أما ما ذكره أن التفضيل يدل على نكتة زائدة على مدلول التكريم و هو كونه تفضلا و إعطاء لا عن استحقاق ففيه أنه ممنوع و التفضيل كما يصح لا عن استحقاق من المفضل كذلك يصح عن استحقاق منه لذلك، و أما ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل.
و قال الرازي في تفسيره، في الفرق بينهما: إن الأقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل و النطق و الخط
الميزان فى تفسير القرآن، ج13، ص: 159
و الصورة الحسنة و القامة المديدة ثم إنه عز و جل عرضه بواسطة العقل و الفهم لاكتساب العقائد الحقة و الأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم و الثاني هو التفضيل فكأنه قيل:
فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة و الزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا و يصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى و لا يشركوا به شيئا و يرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره انتهى.
و محصله الفرق بين التكريم و التفضيل بأن الأول إنما هو في الأمور الذاتية أو ما يلحق بها من الغريزيات و الثاني في الأمور الاكتسابية و أنت خبير بأن الإنسان و إن وجد فيه من المواهب الإلهية و الكمالات الوجودية أمور ذاتية و أمور اكتسابية على ما ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الأول و التفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه لغة و لا عرف. فالوجه ما قدمناه.
و ثانيا: أن الآية ناظرة إلى الكمال الإنساني من حيث وجوده الكوني و تكريمه و تفضيله بالقياس إلى سائر الموجودات الكونية الواقعة تحت النظام الكوني فالملائكة الخارجون عن النظام الكوني خارجون عن محل الكلام و المراد بتفضيل الإنسان على كثير ممن خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونية، و أما الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا تعرض لهم في ذلك بوجه.
و بذلك يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على كون الملائكة أفضل من الإنسان حتى الأنبياء (ع) قال: لأن قوله تعالى: « وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا » يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه، و ليس إلا الملائكة لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق.
وجه الفساد: أن الذي تعرضت له الآية إنما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني الدنيوي و الملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود، و إلى هذا يرجع ما أجاب به بعضهم أن التفضيل في الآية لم يرد به الثواب لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء، و إنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي أوتيها في الدنيا.
و أما ما أجابوا عنه بأن المراد بالكثير في الآية الجميع و من بيانية، و المعنى و فضلناهم على من خلقنا و هم كثير.
الميزان فى تفسير القرآن، ج13، ص: 160
ففيه أنه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم و لا سياق الآية، و ما قيل: إنه من قبيل قولهم: بذلت له العريض من جاهي و أبحته المنيع من حريمي و لا يراد به أني بذلت له عريض جاهي و منعته ما ليس بعريض و أبحته منيع حريمي و لم أبحه ما ليس بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض و أبحته حريمي الذي هو منيع، يرده أنه إن أريد بما فسر به المثالان أن العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كل الجاه عريضا و كل الحريم منيعا لم ينقسم الجاه و الحريم حينئذ إلى عريض و غير عريض و منيع و غير منيع و لم ينطبق على مورد الآية المدعى أنه أطلق فيها البعض و أريد به الكل، و إن أريد به أن المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض و أبحته المنيع من حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكل بالأولوية و لم يجز في مورد الآية قطعا.
و ربما أجيب عن ذلك بأنا إن سلمنا أن المراد بالكثير غير الملائكة و لفظة من للتبعيض فغاية ما في الباب أن تكون الآية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة و هو أعم من تفضيل الملك على الإنسان لجواز التساوي، و لو سلم أنها تدل على التفضيل فغايته أن تدل على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم و هذا لا ينافي أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالأنبياء (ع).
و الحق كما عرفت أن الآية غير متعرضة للتفضيل من جهة الثواب و الفضل الأخروي و بعبارة أخرى هي متعرضة للتفضيل من جهة الوجود الكوني، و المراد بكثير ممن خلقنا غير الملائكة و من تبعيضية و المراد بمن خلقنا الملائكة و غيرهم من الإنسان و الحيوان و الجن. و الإنسان مفضل بحسب وجوده الكوني على الحيوان و الجن هذا و سيوافيك كلام في معنى تفضيل الإنسان على الملك إن شاء الله.
كلام في الفضل بين الإنسان و الملك
اختلف المسلمون في أن الإنسان و الملك أيهما أفضل؟ فالمعروف المنسوب إلى الأشاعرة أن الإنسان أفضل و المراد به أفضلية المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في أن من الإنسان من هو أضل من الأنعام و هو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن
الميزان فى تفسير القرآن، ج13، ص: 161
يفضل على الملائكة المقربين؟ و قد استدل عليه بالآية الكريمة: « وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا » على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومأنا إليه في تفسير الآية و بما ورد من طريق الرواية أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة.
و هو المعروف أيضا من مذهب الشيعة، و ربما استدلوا عليه بأن الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتأتى منه المعصية لكن الإنسان من جهة اختياره تتساوى نسبته إلى الطاعة و المعصية و قد ركب من قوى رحمانية و شيطانية و تألف من عقل و شهوة و غضب فالإنسان المؤمن المطيع يطيعه و هو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو أفضل من الملك.
و مع ذلك فالقول بأفضلية الإنسان بالمعنى الذي تقدم ليس باتفاقي بينهم فمن الأشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقا كالزجاج و نسب إلى ابن عباس.
و منهم من قال بأفضلية الرسل من البشر، مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر و الملائكة ثم عامة الملائكة على عامة البشر.
و منهم من قال بأفضلية الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الإمام الرازي و نسب إلى الغزالي.
و ذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر و استدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: « وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ . إلى قوله: « وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا » و قد مر تقرير حجتهم في تفسير الآية.
و قد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضلية الإنسان من الملك ممن فسر الكثير في الآية بالجميع فقال في الكشاف، في ذيل قوله تعالى: « وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا » هو ما سوى الملائكة و حسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة و هم هم و منزلتهم عند الله منزلتهم.
و العجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء و كابروا حتى جسرتهم عادة المكابرة
الميزان فى تفسير القرآن، ج13، ص: 162
على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان الملك، و ذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم و تكثيره مع التعظيم ذكرهم و علموا أين أسكنهم؟ و أنى قربهم؟ و كيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم؟.
ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا و أخبارا منها: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها و يتمتعون و لم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة فقال: و عزتي و جلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان، و رووا عن أبي هريرة أنه قال": المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.
و من ارتكابهم أنهم فسروا كثيرا بمعنى جميع في هذه الآية و خذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: و فضلناهم على جميع ممن خلقنا على أن معنى قولهم:
على جميع ممن خلقنا أشجى لحلوقهم و أقذى لعيونهم و لكنهم لا يشعرون فانظر في تمحلهم و تشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى كان جبريل (ع) غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم انتهى.
و ما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الآخرة كما جعل لبني آدم الدنيا
رويت عن ابن عمر و أنس بن مالك و زيد بن أسلم و جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي ص و لفظ الأخير قال: لما خلق الله آدم و ذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون- و يشربون و ينكحون و يركبون الخيل- فاجعل لهم الدنيا و لنا الآخرة- فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان.
و متن الرواية لا يخلو عن شيء فإن الأكل و الشرب و النكاح و نحوها في الإنسان استكمالات مادية إنما يلتذ الإنسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهز الله به بنيته المادية و الملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسل إلى بعضه الإنسان بقواه المادية و أعماله المملة المتعبة منزهون عن مطاوعة النظام المادي الجاري في الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنوه.
و نظير هذا وارد على ما تقدم من استدلالهم على أفضلية الإنسان من الملك بأن وجود الإنسان مركب من القوى الداعية إلى الطاعة و القوى الداعية إلى المعصية فإذا
الميزان فى تفسير القرآن، ج13، ص: 163
اختار الطاعة على المعصية و انتزع إلى الإسلام و العبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكة المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا و زلفى و أعظم ثوابا و أجرا.
و هذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الإنساني و هو أن الطاعة التي هي امتثال الخطاب المولوي من أمر و نهي و لها الفضل و الشرف على المعصية و بها يستحق الأجر و الثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الإنسان المتوجه إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل و الترك متساوي النسبة إلى الجانبين، و كلما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعة قوي الأثر و العكس بالعكس فليس يستوي في امتثال النهي عن الزنا مثلا العنين و الشيخ الهرم و من يصعب عليه تحصيل مقدماته و الشاب القوي البنية الذي ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة و بعضها طاعة و بعضها أفضل الطاعة على هذا القياس.
و لما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة و الغضب و نزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الإلهية أشبه بامتثال العنين و الشيخ الهرم لنهي الزنا و كان الفضل للإنسان في طاعته عليهم.
و فيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية و لا لهم مقام استواء النسبة و لم يكن لهم شرف ذاتي و قيمة جوهرية إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية، و تسمية المطاوعة الذاتية التي لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز، و لو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب و لا لأعمالهم منزلة.
لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب و الزلفى و أسكنهم في حظائر القدس و منازل الإنس، و جعلهم خزان سره و حملة أمره و وسائط بينه و بين خلقه، و هل هذا كله لإرادة منه جزافية من غير صلاحية منهم و استحقاق من ذواتهم؟.