کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 182
به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضة بمالها و منالها.
و ما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع و العذاب الشديد و قطع دابر الحياة الدنيا و هو يرى أن ليس للإنسان إلا الحياة التي فيها و فيها سعادته و شقاؤه فإنهم يرون الأمر بالعكس من ذلك و أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا و إن شقي فيها فلا ينفعه شيء.
و على ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الأخرى الخالدة، و ذلك قولهم لفرعون- و هو جواب تهديده إياهم بالقتل- «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا» ثم الآيات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل و توضيح لقولهم: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا» .
و في قولهم: «ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ» تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا و تلقفها الحبال و العصي و رجوعها ثانيا إلى حالتها الأولى، و يمكن أن يكون «مِنَ» للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحدة و آمنوا بأن لله آيات أخرى كثيرة و لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى» الخطايا جمع خطيئة و هي قريبة معنى من السيئة و قوله: «وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ» معطوف على «خَطايانا» و «مِنَ السِّحْرِ» بيان له و المعنى و ليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه و فيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم و إما حين تنازعوا أمرهم بينهم و أسروا النجوى فحملوا على المقابلة و المغالبة.
و أول الآية تعليل لقولهم: «لَنْ نُؤْثِرَكَ» إلخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك و آمنا به ليغفر لنا خطايانا و السحر الذي أكرهتنا عليه، و ذيل الآية: «وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى» من تمام البيان و بمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: و إنما آثرنا غفرانه على إحسانك لأنه خير و أبقى، أي خير من كل خير و أبقى من كل باق- لمكان الإطلاق- فلا يؤثر عليه شيء و في هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: «وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى» .
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 183
و قد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، و ثانيا بربنا، و ثالثا بالله، أما الأول فلأن كونه تعالى فاطرا لنا أي مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود و يتبعه انتهاء كل خير حقيقي إليه و أن ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان منشأ كل ترجيح و المقام مقام الترجيح بينه تعالى و بين فرعون.
و أما الثاني فلأن فيه إخبارا عن الإيمان به و أمس صفاته تعالى بالإيمان و العبودية صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك و التدبير.
و أما الثالث فلأن ملاك خيرية الشيء الكمال و عنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، و على هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة على المدعى و المعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذي فطرنا، لأنه فطرنا و إنا آمنا بربنا لأنه ربنا و الله خير لأنه الله عز اسمه.
قوله تعالى: «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى» تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للإيمان بالله أي لأن من لم يغفر خطاياه كان مجرما و من يأت ربه مجرما «إلخ».
قوله تعالى: «وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى» إلى آخر الآية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب- هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلم و تقابلها الدركة فهي المنزلة حدورا و لذا يقال درجات الجنة و دركات النار، و التزكي هو التنمي بالنماء الصالح و المراد به أن يعيش الإنسان باعتقاد حق و عمل صالح.
و الآيتان تصفان ما يستتبعه الإيمان و العمل الصالح كما كانت الآية السابقة تصف ما يستتبعه الاجرام الحاصل بكفر أو معصية و الآيات الثلاث الواصفة لتبعة الاجرام و الإيمان ناظرة إلى وعيد فرعون و وعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع و الصلب و ادعى أنه أشد العذاب و أبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم لا يموت فيها و لا يحيى لا يموت فيها حتى ينجو من مقاساة ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت و فيه نجاة المجرم المعذب، و لا يحيى فيها إذ ليس فيها شيء مما تطيب به الحياة و لا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره.
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 184
و وعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه و الأجر كما حكى الله تعالى:
«قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» : الأعراف: 114 فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك- و في الإشارة البعيدة تفخيم شأنهم- لهم الدرجات العلى- و هذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب- جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى- بالإيمان و العمل الصالح و هذا يقابل وعده لهم بالأجر.
قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً - إلى قوله- وَ ما هَدى» . الإسراء السير بالليل و المراد بعبادي بنو إسرائيل و قوله: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً» قيل المراد الضرب بالعصا كما يدل عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع و أن «طَرِيقاً» مفعول به لأضرب على الاتساع و هو مجاز عقلي و الأصل اضرب البحر ليكون لهم طريقا. انتهى. و يمكن أن يكون المراد بالضرب البناء و الإقامة من باب ضربت الخيمة و ضربت القاعدة.
و اليبس - على ما ذكره الراغب- المكان الذي كان فيه ماء ثم ذهب، و الدرك بفتحتين تبعة الشيء، و في نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة و جعله صلة لها أيضا من تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: و في قوله: «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى» تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم: «وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» المؤمن:
29، و على هذا فقوله: «وَ ما هَدى» ليس تأكيدا و تكرارا لمعنى قوله: «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ» .
(بحث روائي)
في نهج البلاغة، قال (ع): لم يوجس موسى خيفة على نفسه- بل أشفق من غلبة الجهال و دول الضلال.
أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 185
قال: قال رسول الله ص: إذا أخذتم الساحر فاقتلوه. ثم قرأ: «وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» ، قال: لا يأمن حيث وجد.
أقول: و في انطباق المعنى المذكور في الحديث على الآية بما لها من السياق خفاء.
[سورة طه (20): الآيات 80 الى 98]
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 186
(بيان)
الفصل الأخير من قصة موسى (ع) الموردة في السورة يعد سبحانه فيه جملا من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوهم و مواعدتهم جانب الطور الأيمن و إنزال المن و السلوى عليهم، و يختمه بذكر قصة السامري و إضلاله القوم بعبادة العجل و للقصة اتصال بمواعدة الطور.
و هذا الجزء من الفصل- و فيه بيان تعرض بني إسرائيل لغضبه تعالى- هو
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 187
المقصود بالأصالة من هذا الفصل و لذا فصل فيه القول و لم يبين غيره إلا بإشارة و إجمال.
قوله تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ» إلى آخر الآية كأن الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل و قوله: «قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ» المراد به فرعون أغرقه الله و أنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة.
و قوله: «وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» بنصب أيمن على أنه صفة جانب و لعل المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لإنزال التوراة و قد مرت القصة في سورة البقرة و غيرها و كذا قصة إنزال المن و السلوى.
و قوله: «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» إباحة في صورة الأمر و إضافة الطيبات إلى «ما رَزَقْناكُمْ» من إضافة الصفة إلى الموصوف إذ لا معنى لأن ينسب الرزق إلى نفسه ثم يقسمه إلى طيب و غيره كما يؤيده قوله في موضع آخر: «وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» الجاثية: 16.
قوله: «وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» ضمير فيه راجع إلى الأكل المتعلق بالطيبات و ذلك بكفران النعمة و عدم أداء شكره كما قالوا: «يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها» البقرة: 61.
و قوله: «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» أي يجب غضبي و يلزم من حل الدين يحل من باب ضرب إذا وجب أداؤه، و الغضب من صفاته تعالى الفعلية مصداقه إرادته تعالى إصابة المكروه للعبد بتهيئة الأسباب لذلك عن معصية عصاها.
و قوله: «وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» أي سقط من الهوي بمعنى السقوط و فسر بالهلاك.
قوله تعالى: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» وعد بالرحمة المؤكدة عقيب الوعيد الشديد و لذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ» و لم يقل: و أنا غافر أو سأغفر.
و التوبة و هي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من الشرك إلى التوحيد، و الإيمان أيضا كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 188
أنبيائه و رسله و كل حكم جاءوا به من عند الله تعالى، و قد كثر استعمال الإيمان في القرآن في كل من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كل من المعنيين المذكورين و بنو إسرائيل كما تلبسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلبسوا بالشرك كعبادة العجل و على هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك و المعصية جميعا و الإيمان بالله و آياته و كذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين و المؤمنين من بني إسرائيل و غيرهم و إن كان بنو إسرائيل مورد الخطاب فإن الصفات الإلهية كالمغفرة لا تختص بقوم دون قوم.
فمعنى الآية- و الله أعلم- و إني لكثير المغفرة لكل إنسان تاب و آمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية و سواء آمن بي أو بآياتي من رسلي، أو ما جاءوا به من أحكامي بأن يندم على ما فعل و يعمل عملا صالحا بتبديل المخالفة و التمرد فيما عصى فيه بالطاعة فيه و هو المحقق لأصل معنى الرجوع من شيء و قد مر تفصيل القول فيه في تفسير قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» النساء: 17، في الجزء الرابع من الكتاب.
و أما قوله: «ثُمَّ اهْتَدى» فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى:
«مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» : الإسراء: 15، و قوله:
«لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» : المائدة: 105، فهل المراد أن لا يضل في نفس ما تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانيا فيفيد أن التوبة عن ذنب إنما تنفع بالنسبة إلى ما اقترفه قبل التوبة و لا تكفي عنه لو عاد إليه ثانيا أو المراد أن لا يضل في غيره فيفيد أن المغفرة إنما تنفعه بالنسبة إلى المعصية التي تاب عنها و بعبارة أخرى إنما تنفعه نفعا تاما إذا لم يضل في غيره من الأعمال، أو المراد ما يعم المعنيين؟.
ظاهر العطف بثم أن يكون المراد هو المعنى الأول فيفيد معنى الثبات و الاستقامة على التوبة فيعود إلى اشتراط الإصلاح الذي هو مذكور في عدة من الآيات كقوله:
«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:» آل عمران: 89 النور- 5.
لكن يبقى على الآية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفار بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنبا واحدا ثم تاب؟