کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 36
و إن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الإثم غيرها إلى ما حملته من الإثم ليحمله عنها لا يستجاب لها و لا يحمل من حملها شيء و لو كان المدعو ذا قربى للداعي كالأب و الأم و الأخ و الأخت.
و قوله: « إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ » أي هؤلاء المكذبون لا ينتفعون بالإنذار و لا تتحقق معهم حقيقة الإنذار لأنهم مطبوع على قلوبهم إنما تنذر و ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة التي هي أفضل العبادات و أهمها و بالجملة يؤمنون بالله و يعبدونه أي الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنهم يخشون ربهم و يصلون ثم ينذرون بعد ذلك حتى يلزم تحصيل الحاصل فالآية كقوله : «إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً:» يوسف:- 36.
و قوله: « وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ » بدل الخشية و إقامة الصلاة من التزكي للإشارة إلى أن المطلوب بالدعوة و الإنذار هو التزكي و تزكية النفس تلبسها بالخشية من الله على الغيب و إقامة الصلاة.
و فيه تقرير و تأكيد لما تقدم من كونه تعالى غنيا حميدا فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكي بل الذي تزكى فإنما يتزكى لنفع نفسه.
و قد ختم الآية بقوله: « وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ » للدلالة على أن تزكية من تزكى لا تذهب سدى، فإن كلا من الفريقين صائرون إلى ربهم لا محالة و هو يحاسبهم و يجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكين أحسن الجزاء.
قوله تعالى: « وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ » الظاهر أنه عطف على قوله: « وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ » تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لأولئك المكذبين، و قيل: عطف على قوله السابق: « وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ ».
قوله تعالى: « وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ » تكرار حروف النفي مرة بعد مرة في الآية و ما يليها لتأكيد النفي.
قوله تعالى: « وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ » الحرور شدة حر الشمس على ما قيل و قيل:
هو السموم و قيل: السموم يهب نهارا و الحرور يهب ليلا و نهارا.
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 37
قوله تعالى: « وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ » إلى آخر الآية عطف على قوله:
« وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ » و إنما كرر قوله: « ما يَسْتَوِي » و لم يعطف « الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ » على قوله: الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ » كرابعته لطول الفصل فأعيد « ما يَسْتَوِي » لئلا يغيب المعنى عن ذهن السامع فهو كقوله : «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ - إلى أن قال- كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» الخ. التوبة:- 8.
و الجمل المتوالية المترتبة أعني قوله: « وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ - إلى قوله- وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ » تمثيلات للمؤمن و الكافر و تبعات أعمالهما.
و قوله: « إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ » و هو المؤمن كان ميتا فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد لذلك قال تعالى : «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً:» الأنعام:- 122، و أما النبي (ع) فإنما هو وسيلة و الهدى هدى الله.
و قوله: « وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ » أي الأموات و المراد بهم الكفار المطبوع على قلوبهم.
قوله تعالى: « إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ » قصر إضافي أي ليس لك إلا إنذارهم و أما هداية من اهتدى منهم و إضلال من ضل و لم يهتد جزاء له بسيئ عمله فإنما ذلك لله سبحانه.
و لم يذكر البشير مع النذير مع كونه (ص) متلبسا بالوصفين معا لأن المقام مقام الإنذار فالمناسب هو التعرض لوصف الإنذار مع أنه مذكور في الآية التالية.
قوله تعالى: « إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » المفاد على ما يقتضيه السياق إنا أرسلناك بالتبشير و الإنذار و ليس ببدع مستغرب فما من أمة من الأمم إلا و قد خلا و مضى فيها نذير فذلك من سنن الله الجارية في خلقه.
و ظاهر السياق أن المراد بالنذير الرسول المبعوث من عند الله و فسر بعضهم النذير بمطلق من يقوم بالعظة و الإنذار من نبي أو عالم غير نبي و هو خلاف ظاهر الآية.
نعم ليس من الواجب أن يكون نذير كل أمة من أفرادها فقد قال تعالى: « خَلا فِيها » و لم يقل: «خلا منها».
قوله تعالى: « وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 38
وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ » البينات هي الآيات المعجزة التي تشهد على حقية الرسل، و الزبر جمع زبور و لعل المراد بها بقرينة مقابلتها للكتاب الصحائف و الكتب التي فيها ذكر الله تعالى من غير أن تتضمن الأحكام و الشرائع، و الكتاب المنير الكتاب المنزل من السماء المتضمن للشرائع ككتاب نوح و إبراهيم و توراة موسى و إنجيل عيسى (ع)، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: « ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ » الأخذ كناية عن التعذيب، و النكير الإنكار، و الباقي ظاهر.
(كلام في معنى عموم الإنذار)
قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح (ع) في الجزء العاشر من الكتاب ما يدل من طريق العقل على عموم النبوة و يؤيده الكتاب.
فلا تخلو أمة من الأمم الإنسانية عن ظهور ما للدعوة الحقة النبوية فيها و أما كون نبي كل أمة من نفس تلك الأمة فلا دليل عليه، و قد عرفت أن قوله تعالى: « وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » الآية مفاده ذلك.
و أما فعلية الإنذار- بحيث يبلغ كل فرد فرد من الأمة مضافا إلى أصل الاقتضاء- و اطراد الدعوة في كل واحد واحد فحكومة العلل و الأسباب المتزاحمة في هذه النشأة المادية لا توافقه كما لا توافق سائر المقتضيات العامة التي قدرها الصنع كما أن في بنية كل مولود إنساني أن يعمر عمرا طبيعيا و الحوادث تحول بين أكثر الأفراد و بين ذلك، و كل مولود إنساني مجهز بجهاز التناسل للاستيلاد و الإيلاد و كثير من الأفراد يموت قبل بلوغه فلا يبلغ ذلك إلى غير ذلك من النظائر.
فالنبوة و الإنذار عام لكل أمة و لا يستلزم استلزاما ضروريا أن تبلغ الدعوة كل شخص من أشخاصها بل من الجائز أن تبلغ بلا واسطة أو معها بعض الأمة و تتخلف عن بعض لحيلولة علل و أسباب مزاحمة بينه و بين البلوغ فمن توجهت منهم إليه الدعوة و بلغته تمت عليه الحجة و من توجهت إليه و لم تبلغه لم تتم عليه الحجة و كان من المستضعفين
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 39
و كان أمره إلى الله قال تعالى : «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا:» النساء:- 98.
(بحث روائي)
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: « وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى »: أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجة عن عمرو بن الأحوص: أن رسول الله ص قال في حجة الوداع: ألا لا يجني جان إلا على نفسه- لا يجني والد على ولده و لا مولود على والده.
و في تفسير القمي،": في قوله تعالى: « إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ » قال: هؤلاء الكفار لا يسمعون منك- كما لا يسمع أهل القبور.
و في الدر المنثور، أخرج أبو سهل السري بن سهل الجنديسابوري الخامس من حديثه من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس": في قوله: « إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ » قال كان النبي ص يقف على القتلى يوم بدر و يقول:
هل وجدتم ما وعد ربكم حقا- يا فلان بن فلان أ لم تكفر بربك؟ أ لم تكذب نبيك؟ أ لم تقطع رحمك؟ فقالوا: يا رسول الله أ يسمعون ما تقول؟ قال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول: فأنزل الله: « إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ » مثل ضربه الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله.
أقول: و في الرواية ما لا يخفى من لوائح الوضع فساحة النبي (ع) أجل من أن يقول ما ليس له به علم من ربه حتى ينزل الله عليه آية تكذبه فيما يدعيه و يخبر به.
على أن ما نقله من الآية لا يطابق المصحف فصدره مأخوذ من سورة النمل الآية 80 و ذيله مأخوذ من سورة فاطر الآية 22.
على أن سياق الآية مكي في سياق آيات سابقة و لاحقة مكية.
و في الإحتجاج، في احتجاج الصادق (ع): قال السائل فأخبرني عن المجوس أ فبعث إليهم نبيا؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة- و مواعظ بليغة و أمثالا شافية، و يقرون
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 40
بالثواب و العقاب، و لهم شرائع يعملون بها. قال: ما من أمة إلا خلا فيها نذير، و قد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله- فأنكروه و جحدوا كتابه.
[سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 38]
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 41
(بيان)
رجوع إلى ذكر آيات أخر من آيات التوحيد و فيها انتقال إلى حديث الكتاب و أنه حق نازل من عند الله تعالى و قد انجر الكلام في الفصل السابق من الآيات إلى ذكر النبوة و الكتاب حيث قال: « إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً » و قال: « جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ » فكان من الحري أن يتعرض لصفة الكتاب و ما تستتبعه من الآثار.
قوله تعالى: « أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها » إلخ. حجة أخرى على التوحيد و هو أن الله سبحانه ينزل الماء من السماء بالأمطار و هو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات، و لو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل و هو واحد لكان جميعها ذا لون واحد فاختلاف الألوان يدل على وقوع التدبير الإلهي.
و القول بأن اختلافها منوط باختلاف العوامل المؤثرة فيها و منها اختلاف العناصر الموجودة فيها نوعا و قدرا و خصوصية التأليف.
مدفوع بأن الكلام منقول حينئذ إلى اختلاف نفس العناصر و هي منتهية إلى
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 42
المادة المشتركة التي لا اختلاف فيها فاختلاف العناصر المكونة منها يدل على عامل آخر وراء المادة يدبر أمرها و يسوقها إلى غايات مختلفة.
و الظاهر أن المراد باختلاف ألوان الثمرات اختلاف نفس ألوانها و يلزمه اختلافات أخر من حيث الطعم و الرائحة و الخواص، و قيل المراد باختلاف الألوان اختلاف الأنواع فكثيرا ما يطلق اللون في الفواكه و الأطعمة على النوع كما يقال: قدم فلان ألوانا من الطعام و الفاكهة فهو من الكناية، و قوله بعد: « وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ » لا يخلو من تأييد للوجه الأول.
و في قوله: « فَأَخْرَجْنا بِهِ » إلخ. التفات من الغيبة إلى التكلم. قيل: إن ذلك لكمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة و الحكمة.
و نظير الوجه يجري في قوله السابق: « إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً » و أما ما في الآية السابقة من قوله: « ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ » فلعل الوجه فيه أن أمرهم إلى الله لا يتخلل بينه و بينهم أحد حتى يشفع لهم أو ينصرهم فينجوا من العذاب.
و قوله: « وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ » الجدد بالضم فالفتح جمع جدة بضم الجيم و هي الطريقة و الجادة، و البيض و الحمر جمع أبيض و أحمر، و الظاهر أن قوله: « مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها » صفة لجدد و « أَلْوانُها » فاعل « مُخْتَلِفٌ » و لو كانت الجملة مبتدأ و خبرا لقيل: مختلفة ألوانها كما قيل، و الغرابيب جمع غربيب و هو الأسود الشديد السواد و منه الغراب و « سُودٌ » بدل أو عطف بيان لغرابيب.
و المعنى: أ لم تر أن من الجبال طرائق بيض و حمر و سود مختلف ألوانها، و المراد إما الطرق المسلوكة في الجبال و لها ألوان مختلفة، و إما نفس الجبال التي هي خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض و حمر و سود مختلف ألوانها.