کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 178
: «وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:» آل عمران:- 139 و قد مر بعض الآيات الدالة عليه آنفا.
و الحكم أعني النصر و الغلبة حكم اجتماعي منوط على العنوان لا غير أي إن الرسل و هم عباد أرسلهم الله و المؤمنون و هم جند لله يعملون بأمره و يجاهدون في سبيله ما داموا على هذا النعت منصورون غالبون، و أما إذا لم يبق من الإيمان إلا اسمه و من الانتساب إلا حديثه فلا ينبغي أن يرجى نصر و لا غلبة.
قوله تعالى: « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ » تفريع على حديث النصر و الغلبة ففيه وعد للنبي ص بالنصر و الغلبة و إيعاد للمشركين و لقريش خاصة.
و الأمر بالإعراض عنهم ثم جعله مغيا بقوله: « حَتَّى حِينٍ » يلوح إلى أن الأمد غير بعيد و كان كذلك فهاجر النبي ص بعد قليل و أباد الله صناديد قريش في غزوة بدر و غيرها.
قوله تعالى: « وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ » الأمر بالإبصار و الإخبار بإبصارهم عاجلا و عطف الكلام على الأمر بالتولي معجلا يفيد بحسب القياس أن المعنى أنظرهم و أبصر ما هم عليه من الجحود و العناد قبال إنذارك و تخويفك فسوف يبصرون وبال جحودهم و استكبارهم.
قوله تعالى: « أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ » توبيخ لهم لاستعجالهم و قولهم: متى هذا الوعد؟ متى هذا الفتح؟ و إيذان بأن هذا العذاب مما لا ينبغي أن يستعجل لأنه يعقب يوما بئيسا و صباحا مشئوما.
و نزول العذاب بساحتهم كناية عن نزوله بهم على نحو الشمول و الإحاطة، و قوله: « فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ » أي بئس صباحهم صباحا، و المنذرون هم المشركون من قريش.
قوله تعالى: « وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ » تأكيد لما مر بتكرار الآيتين على ما قيل، و احتمل بعضهم أن يكون المراد بما تقدم التهديد بعذاب الدنيا و بهذا، التهديد بعذاب الآخرة. و لا يخلو من وجه فإن الواقع في الآية « وَ أَبْصِرْ »
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 179
من غير مفعول كما في الآية السابقة من قوله: « وَ أَبْصِرْهُمْ » و الحذف يشعر بالعموم و أن المراد إبصار ما عليه عامة الناس من الكفر و الفسوق و يناسبه التهديد بعذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: « سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ » تنزيه له تعالى عما يصفه به الكفار المخالفون لدعوة النبي ص مما تقدم ذكره في السورة.
و الدليل عليه إضافة التنزيه إلى قوله: « رَبِّكَ » أي الرب الذي تعبده و تدعو إليه، و إضافة الرب ثانيا إلى العزة المفيد لاختصاصه تعالى بالعزة فهو منيع الجانب على الإطلاق فلا يذله مذل و لا يغلبه غالب و لا يفوته هارب فالمشركون أعداء الحق المهددون بالعذاب ليسوا له بمعجزين.
قوله تعالى: « وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ » تسليم على عامة المرسلين و صون لهم من أن يصيبهم من قبله تعالى ما يسوؤهم و يكرهونه.
قوله تعالى: « وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج محمد بن نضر و ابن عساكر عن العلاء بن سعيد: أن رسول الله ص قال يوما لجلسائه: أطت السماء و حق لها أن تئط، ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرأ « وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ».
أقول: و روي هذا المعنى عنه (ص) بغير هذا الطريق.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس: أن النبي ص كان إذا قام إلى الصلاة قال:
استووا تقدم يا فلان تأخر يا فلان أقيموا صفوفكم- يريد الله بكم هدى الملائكة ثم يتلو:
« وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ».
و في نهج البلاغة،: قال (ع) في وصف الملائكة: و صافون لا يتزايلون و مسبحون لا يسأمون.
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 180
(38) سورة ص مكية و هي ثمان و ثمانون آية (88)
[سورة ص (38): الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 181
(بيان)
يدور الكلام في السورة حول كون النبي ص منذرا بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد و إخلاص العبودية له تعالى.
فتبدأ بذكر اعتزاز الكفار و شقاقهم و بالجملة استكبارهم عن اتباعه و الإيمان به و صد الناس عنه و تفوههم بباطل القول في ذلك و رده في فصل.
ثم تأمر النبي ص بالصبر و ذكر قصص عباده الأولين في فصل ثم يذكر مآل حال المتقين و الطاغين في فصل. ثم تأمر النبي ص بإبلاغ نذارته و دعوته إلى توحيد الله و أن مآل أتباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لآدم فأبى إبليس فرجمه و قضى عليه و على من تبعه النار في فصل.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: « ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ » المراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده و ما يتفرع عليه من المعارف الحقة من المعاد و النبوة و غيرهما، و العزة الامتناع، و الشقاق المخالفة، قال في مجمع البيان،: و أصله أن يصير كل من الفريقين في شق أي في جانب و منه يقال: شق فلان العصا إذا خالف انتهى.
و المستفاد من سياق الآيات أن قوله: « وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » قسم نظير ما في قوله:
« يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ » « ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ » « ن وَ الْقَلَمِ » لا عطف على ما تقدمه، و أما المقسم عليه فالذي يدل عليه الإضراب في قوله: « بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ أنه أمر يمتنع عن قبوله القوم و يكفرون به عزة و شقاقا و قد هلك فيه قرون كثيرة ثم ذكر إنذار النبي ص و ما قاله الكفار عليه و ما أمرهم به ملؤهم حول إنذاره (ص) أنه أعني المقسم عليه نحو من قولنا: إنك لمن المنذرين، و يشهد على ذلك أيضا التعرض في السورة بإنذاره (ص) بالذكر مرة بعد أخرى.
و قد قيل في قوله: « ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » من حيث الإعراب و المعنى وجوه كثيرة لا محصل لأكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى.
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 182
و المعنى- و الله أعلم- أقسم بالقرآن المتضمن للذكر- إنك لمن المنذرين- بل الذين كفروا في امتناع عن قبوله و اتباعه و مخالفة له.
قوله تعالى: « كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ » القرن أهل عصر واحد، و المناص بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخر كما أنه بالباء الموحدة بمعنى التقدم على ما في المجمع، و قيل: هو بمعنى الفرار.
و المعنى: كثيرا ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفار من قرن و أمة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه و ليس الحين حين تأخر الأخذ و العذاب أو ليس الحين حين فرار.
قوله تعالى: « وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ » أي تعجبوا من مجيء منذر من نوعهم بأن كان بشرا فإن الوثنية تنكر رسالة البشر.
و قوله: « وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ » يشيرون بهذا إلى النبي ص يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به و هو القرآن، و بالكذب لزعمهم أنه يفتري على الله بنسبة القرآن و ما فيه من المعارف الحقة إليه تعالى.
قوله تعالى: « أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ » العجاب بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب و هو بتشديد الجيم أبلغ.
و هو من تتمة قول الكافرين و الاستفهام للتعجيب و الجعل بمعنى التصيير و هو كما قيل تصيير بحسب القول و الاعتقاد و الدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى : «وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً:» الزخرف:- 19 فمعنى جعله (ص) الآلهة إلها واحدا هو إبطاله ألوهية الآلهة من دون الله و حكمه بأن الإله هو الله لا إله إلا هو.
قوله تعالى: « وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ » نسبة الانطلاق إلى ملإهم و أشرافهم و قولهم ما قالوا يلوح إلى أن أشراف قريش اجتمعوا على النبي ص ليحلوا مشكلة دعوته إلى التوحيد و رفض الآلهة بنوع من الاستمالة و كلموه في ذلك فما وافقهم في شيء منه ثم انطلقوا و قال بعضهم لبعض أو قالوا
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 183
لأتباعهم أن امشوا و اصبروا «إلخ» و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول مما سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و قوله: « أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ » بتقدير القول أي قائلين أن امشوا و اصبروا على آلهتكم و لا تتركوا عبادتها و إن عابها و قدح فيها، و ظاهر السياق أن القول قول بعضهم لبعض، و يمكن أن يكون قولهم لتبعتهم.
و قوله: « إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ » ظاهره أنه إشارة إلى ما يدعو إليه النبي ص و يطلبه و أن مطلوبه شيء يراد بالطبع و هو السيادة و الرئاسة و إنما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملإ من قوم نوح لعامتهم : «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ:» المؤمنون:- 24.
و قيل: المعنى إن هذا الذي شاهدناه من إسراره (ص) على ما يطلبه و تصلبه في دينه لشيء عظيم يراد من قبله.
و قيل: المعنى إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا أن تمشوا و تصبروا.
و قيل: المعنى إن الصبر خلق محمود يراد منا في مثل هذه الموارد، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق.
قوله تعالى: « ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ » أرادوا بالملة الآخرة المذهب الذي تداوله الآخرون من الأمم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الأولى التي تداولها الأولون كأنهم يقولون: ليس هذا من الملة الآخرة التي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الأولين.
و قيل: المراد بالملة الآخرة النصرانية لأنها آخر الملل و هم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليث. و ضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانية وقع عندهم كالإسلام.
و قوله: « إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ » أي كذب و افتعال.
قوله تعالى: « أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا » استفهام إنكاري بداعي التكذيب أي لا مرجح عند محمد ص يترجح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 184
الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم: ما أنت إلا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة.
قوله تعالى: « بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ » إضراب عن جميع ما قالوه أي إنهم لم يقولوا عن إيمان و اعتقاد به بل هم في شك من ذكري و هو القرآن.
و ليس شكهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوة و قصورها عن إفادة اليقين بل تعلق قلوبهم بما عندهم من الباطل و لزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الآية الإلهية المعجزة فشكوا في الذكر و الحال أنه آية معجزة.
و قوله: « بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ » إضراب عن الإضراب أي ليس إنكارهم و عدم إيمانهم به عن شك منهم فيه بل لأنهم لعتوهم و استكبارهم لا يعترفون بحقيته و لو لم يكن شك، حتى يذوقوا عذابي فيضطروا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم.
و في قوله: « لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ » أي لم يذوقوا بعد عذابي، تهديد بعذاب واقع.
قوله تعالى: « أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ » الكلام في موقع الإضراب و « أَمْ » منقطعة و الكلام ناظر إلى قولهم: « أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا » أي بل أ عندهم خزائن رحمة ربك التي ينفق منها على من يشاء حتى يمنعوك منها بل هي له تعالى و هو أعلم حيث يجعل رسالته و يخص برحمته من يشاء.
و تذييل الكلام بقوله: « الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ » لتأييد محصل الجملة أي ليس عندهم شيء من خزائن رحمته لأنه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد، و لا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لأنه وهاب كثير الهبات.
قوله تعالى: « أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ » « أَمْ » منقطعة، و الأمر في قوله: « فَلْيَرْتَقُوا » للتعجيز و الارتقاء الصعود، و الأسباب المعارج و المناهج التي يتوسل بها إلى الصعود إلى السماوات و يمكن أن يراد بارتقاء الأسباب التسبيب بالعلل و الحيل الذي يحصل به لهم المنع و الصرف.