کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج18، ص: 370
و السائل هو الذي يسأل العطية بإظهار الفاقة و المحروم هو الذي حرم الرزق فلم ينجح سعيه في طلبه و لا يسأل تعففا.
بحث روائي
في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله (ع) * في قوله تعالى: « وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً » فقال: إن ابن الكوا سأل أمير المؤمنين (ع)- عن « الذَّارِياتِ ذَرْواً » قال: الريح، و عن « فَالْحامِلاتِ وِقْراً » فقال: هي السحاب، و عن « فَالْجارِياتِ يُسْراً » فقال: هي السفن، و عن « فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً » فقال: الملائكة.
أقول: و الحديث مروي من طرق أهل السنة أيضا كما في روح المعاني.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و سعيد بن منصور و الحارث بن أبي أسامة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف، و الحاكم و صححه و البيهقي في شعب الإيمان، من طرق عن علي بن أبي طالب * في قوله: « وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً » قال: الرياح « فَالْحامِلاتِ وِقْراً » قال: السحاب « فَالْجارِياتِ يُسْراً » قال:
السفن « فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً » قال: الملائكة.
و في المجمع، قال أبو جعفر و أبو عبد الله (ع): لا يجوز لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى، و الله يقسم بما شاء من خلقه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن منيع عن علي بن أبي طالب * أنه سئل عن قوله:
« وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ » قال: ذات الخلق الحسن:.
أقول: و روي مثله في المجمع، و لفظه: و قيل: ذات الحسن و الزينة: عن علي (ع) و في جوامع الجامع، و لفظه: و عن علي (ع): حسنها و زينتها.
و في بعض الأخبار: في قوله تعالى: « إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ- يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ » تطبيقه على الولاية.
و في المجمع،: في قوله تعالى: « كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ » و قيل معناه: كانوا أقل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها: و هو المروي عن أبي عبد الله (ع) .
الميزان فى تفسير القرآن، ج18، ص: 371
و فيه، في قوله تعالى: « وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » و قال أبو عبد الله (ع):
كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرة في السحر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس قال*: قال رسول الله ص: إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله- لأن الله يقول: « وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ».
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبي ص * في قوله: « وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » قال: يصلون.
أقول: لعل تفسير الاستغفار بالصلاة من جهة اشتمال الوتر عليه كإرادة الصلاة من القرآن في قوله: «وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» : إسراء: 78.
و في تفسير القمي،": في قوله تعالى: « وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ » قال:
السائل الذي يسأل، و المحروم الذي قد منع كده.
و في التهذيب، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (ع) * في الآية قال:
المحروم المحارف- الذي قد حرم كد يده في الشراء و البيع.
قال: و في رواية أخرى عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) قال: المحروم الرجل ليس بعقله بأس- و لا يبسط له في الرزق و هو محارف.
[سورة الذاريات (51): الآيات 20 الى 51]
الميزان فى تفسير القرآن، ج18، ص: 373
بيان
تشير الآيات إلى عدة من آيات الله الدالة على وحدانيته في الربوبية و رجوع أمر التدبير في الأرض و السماء و الناس و أرزاقهم إليه، و لازمه إمكان نزول الدين الإلهي من طريق الرسالة بل وجوبه، و لازمه صدق الدعوة النبوية فيما تضمنته من وعد البعث و الجزاء و إن ما يوعدون لصادق و إن الدين لواقع، و قد مرت إشارة إلى خصوصية سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.
قوله تعالى: « وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ » الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله: « فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ - إلى أن قال- وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ » الآية، يشهد على أن سوق هذه الآيات و الدلائل لإثبات وحدانيته تعالى في الربوبية لا لإثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه و نحو ذلك.
و في الآية إشارة إلى ما تتضمنه الأرض من عجائب الآيات الدالة على وحدة التدبير القائمة بوحدانية مدبره من بر و بحر و جبال و تلال و عيون و أنهار و معادن و منافعها المتصلة بعضها ببعض الملاءمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات و الحيوان في نظام واحد مستمر من غير اتفاق و صدفة، لائح عليها آثار القدرة و العلم و الحكم دال على أن خلقها و تدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبر قادر عليم حكيم.
فأي جانب قصد من جوانبها و أية وجهة وليت من جهات التدبير العام الجاري فيها كانت آية بينة و برهانا ساطعا على وحدانية ربها لا شريك له ينجلي فيه الحق لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.
قوله تعالى: « وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ » معطوف على قوله: « فِي الْأَرْضِ » أي و في أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها و ركز النظر فيها أ فلا تبصرون.
الميزان فى تفسير القرآن، ج18، ص: 374
و الآيات التي في النفوس منها ما هي في تركب الأبدان من أعضائها و أعضاء أعضائها حتى ينتهي إلى البسائط و ما لها من عجائب الأفعال و الآثار المتحدة في عين تكثرها المدبرة جميعا لمدبر واحد، و ما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينية و الطفولية و الرهاق و الشباب و الشيب.
و منها ما هي من حيث تعلق النفوس أعني الأرواح بها كالحواس من البصر و السمع و الذوق و الشم و اللمس التي هي الطرق الأولية لاطلاع النفوس على الخارج لتميز بذلك الخير من الشر و النافع من الضار لتسعى إلى ما فيه كمالها و تهرب مما لا يلائمها، و في كل منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع بنظامه الجاري فيه و هكذا، و الجميع مع هذا الانفصال و التقطع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبر واحد هو النفس المدبرة و الله من ورائهم محيط.
و من هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوة الغضبية و القوة الشهوية و ما لها من اللواحق و الفروع فإنها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة و انفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبر واحد تتعاضد جميع شعبها و تأتلف لخدمته.
و نظام التدبير الذي لكل من هذه المدبرات إنما وجد له حينما وجد و أول ما ظهر من غير فصل فليس مما عملت فيه خيرته و أوجده هو لنفسه عن فكر و روية أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه و ألزمه نظامه بتدبيره.
و منها الآيات الروحانية الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها و راقب الله سبحانه فيها من آيات الله التي لا يسعها وصف الواصفين و ينفتح بها باب اليقين و تدرج المتطلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات و الأرض كما قال تعالى:
«وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» : الأنعام: 75.
قوله تعالى: « وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ » قيل: المراد بالسماء جهة العلو فإن كل ما علاك و أظلك فهو سماء لغة، و المراد بالرزق المطر الذي ينزله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه و يلبسونه و ينتفعون به و قد قال تعالى: «وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» : الجاثية: 5، فسمي المطر رزقا فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.
الميزان فى تفسير القرآن، ج18، ص: 375
و قيل: المراد أسباب الرزق السماوية من الشمس و القمر و الكواكب و اختلاف المطالع و المغارب الراسمة للفصول الأربعة و توالي الليل و النهار و هي جميعا أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوز بدعوى أن وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.
و قيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أن الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.
و يمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإن الأشياء و منها الأرزاق تنزل من عند الله سبحانه و قد صرح بذلك في أشياء كقوله تعالى: «وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» : الزمر: 6، و قوله: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ» : الحديد: 25، و قوله على نحو العموم: «وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» : الحجر:
21، و المراد بالرزق كل ما ينتفع به الإنسان في بقائه من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن و منكح و ولد و علم و قوة و غير ذلك.
و قوله: «وَ ما تُوعَدُونَ » عطف على « رِزْقُكُمْ» الظاهر أن المراد به الجنة لقوله تعالى: «عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى» : النجم: 15، و قول بعضهم: إن المراد به الجنة و النار أو الثواب و العقاب لا يلائمه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ» الأعراف: 40.
نعم تكرر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيوي إلى السماء كقوله: «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ» : البقرة: 59، و غير ذلك.
و عن بعضهم أن قوله: « وَ ما تُوعَدُونَ » مبتدأ خبره قوله: « فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ » و الواو للاستئناف و هو معنى بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: « فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ » النطق التكلم و ضمير « إِنَّهُ » راجع إلى ما ذكر من كون الرزق و ما توعدون في السماء و الحق هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهي دون أن يكون أمرا تبعيا أو اتفاقيا.
و المعنى: أقسم برب السماء و الأرض أن ما ذكرناه من كون رزقكم و ما توعدونه من الجنة- و هو أيضا من الرزق فقد تكرر في القرآن تسمية الجنة رزقا كقوله: «لَهُمْ
الميزان فى تفسير القرآن، ج18، ص: 376
مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ» : الأنفال: 74، و غير ذلك- في السماء لثابت مقضي مثل نطقكم و تكلمكم الذي هو حق لا ترتابون فيه.
و جوز بعضهم أن يكون ضمير « إِنَّهُ » راجعا إلى « ما تُوعَدُونَ » فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبي ص أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله: « وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ » أو إلى اليوم في قوله: « أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ » أو إلى جميع ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا، و لعل الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله: « وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ » كما قدمنا.
كلام في تكافؤ الرزق و المرزوق
الرزق بمعنى ما يرتزق به هو ما يمد شيئا آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأي معنى كان كالغذاء الذي يمد الإنسان في حياته و بقائه بصيرورته جزء من بدنه و كالزوج يمد زوجه في إرضاء غريزته و بقاء نسله و على هذا القياس.
و من البين: أن الأشياء المادية يرتزق بعضها ببعض كالإنسان بالحيوان و النبات مثلا فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة و مختلف الأحوال كما أنها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه و إن كان ربما تغيرت الأسماء فكما أن الإنسان يصير بالتغذي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزءا جديدا من بدنه اسمه كذا.
و من البين أيضا: أن القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعين به ما يجري على كل شيء في نفسه و أطوار وجوده، و بعبارة أخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلفة من علل تامة و معلولات ضرورية.