کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 162
قوله تعالى: « وَ الْجِبالَ أَوْتاداً » الأوتاد جمع وتد و هو المسمار إلا أنه أغلظ منه كما في المجمع، و لعل عد الجبال أوتادا مبني على أن عمدة جبال الأرض من عمل البركانات بشق الأرض فتخرج منه مواد أرضية مذابة تنتصب على فم الشقة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان الذي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب و الميدان.
و عن بعضهم: أن المراد بجعل الجبال أوتادا انتظام معاش أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع و لولاها لمادت الأرض بهم أي لما تهيأت لانتفاعهم. و فيه أنه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة.
قوله تعالى: « وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً » أي زوجا زوجا من ذكر و أنثى لتجري بينكم سنة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله.
و قيل: المراد به الإشكال أي كل منكم شكل للآخر. و قيل: المراد به الأصناف أي أصنافا مختلفة كالأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر إلى غير ذلك، و قيل: المراد به خلق كل منهم من منيين مني الرجل و مني المرأة و هذه وجوه ضعيفة.
قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الإلزام و التبكيت.
قوله تعالى: « وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً » السبات الراحة و الدعة فإن في المنام سكوتا و راحة للقوى الحيوانية البدنية مما اعتراها في اليقظة من التعب و الكلال بواسطة تصرفات النفس فيها.
و قيل: السبات بمعنى القطع و في النوم قطع التصرفات النفسانية في البدن، و هو قريب من سابقه.
و قيل: المراد بالسبات الموت، و قد عد سبحانه النوم من الموت حيث قال: «وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» : الأنعام: 60 و هو بعيد، و أما الآية فإنه تعالى عد النوم توفيا و لم يعده موتا بل القرآن يصرح بخلافه قال تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» : الزمر: 42.
قوله تعالى: « وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً » أي ساترا يستر الأشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن و هذا سبب إلهي يدعو إلى ترك التقلب و الحركة و الميل إلى السكن و الدعة و الرجوع إلى الأهل و المنزل.
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 163
و عن بعضهم أن المراد بكون الليل لباسا كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه و هو كما ترى.
قوله تعالى: « وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً » العيش هو الحياة- على ما ذكره الراغب- غير أن العيش يختص بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى و عيش الملائكة و يقال حياته تعالى و حياة الملائكة، و المعاش مصدر ميمي و اسم زمان و اسم مكان، و هو في الآية بأحد المعنيين الأخيرين، و المعنى و جعلنا النهار زمانا لحياتكم أو موضعا لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربكم، و قيل: المراد به المعنى المصدري بحذف مضاف، و التقدير و جعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش.
قوله تعالى: « وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً » أي سبع سماوات شديدة في بنائها.
قوله تعالى: « وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً » الوهاج شديد النور و الحرارة و المراد بالسراج الوهاج: الشمس.
قوله تعالى: « وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً » المعصرات السحب الماطرة و قيل:
الرياح التي تعصر السحب لتمطر و الثجاج الكثير الصب للماء، و الأولى على هذا المعنى أن تكون « مِنَ » بمعنى الباء.
قوله تعالى: « لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً » أي حبا و نباتا يقتات بهما الإنسان و سائر الحيوان.
قوله تعالى: « وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً » معطوف على قوله: « حَبًّا » و جنات ألفاف أي ملتفة أشجارها بعضها ببعض.
قيل: إن الألفاف جمع لا واحد له من لفظه.
بحث روائي
في بعض الأخبار: أن النبأ العظيم علي (ع) و هو من البطن.
عن الخصال، عن عكرمة عن ابن عباس قال*: قال أبو بكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيبتني هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون.
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 164
في تفسير القمي،": في قوله تعالى: « أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » قال: يمهد فيها الإنسان- « وَ الْجِبالَ أَوْتاداً » أي أوتاد الأرض.
و في نهج البلاغة، قال (ع): و وتد بالصخور ميدان أرضه.
و في تفسير القمي،": في قوله تعالى: « وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً » قال: يلبس على النهار.
أقول: و لعل المراد به أنه يخفي ما يظهره النهار و يستر ما يكشفه.
و فيه،": في قوله تعالى: « وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً » قال: الشمس المضيئة « وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ » قال: من السحاب « ماءً ثَجَّاجاً » قال: صبا على صب.
و عن تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (ع): « عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ » بالياء يمطرون.
ثم قال: أ ما سمعت قوله: « وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ».
أقول: المراد أن « يَعْصِرُونَ » بضم الياء بصيغة المجهول و المراد به أنهم يمطرون و استشهاده (ع) بقوله: « وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ » دليل على أنه (ع) أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت.
و روى العياشي مثل الحديث عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (ع) و روى القمي في تفسيره،: مثله عن أمير المؤمنين.
[سورة النبإ (78): الآيات 17 الى 40]
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 165
بيان
تصف الآيات يوم الفصل الذي أخبر به إجمالا بقوله: « كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » ثم تصف ما يجري فيه على الطاغين و المتقين، و تختتم بكلمة في الإنذار و هي كالنتيجة.
قوله تعالى: « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً » قال في المجمع،: الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الأمور و هو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد و المقدار من القدر، انتهى.
شروع في وصف ما تضمنه النبأ العظيم الذي أخبر بوقوعه و هددهم به في قوله:
« كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » ثم أقام الحجة عليه بقوله: « أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » إلخ، و قد سماه يوم الفصل و نبه به على أنه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كل طائفة ما يستحقه بعمله فهو ميقات و حد مضروب لفصل القضاء بينهم و التعبير بلفظ « كانَ » للدلالة على ثبوته و تعينه في العلم الإلهي على ما ينطق به الحجة السابقة الذكر، و لذا أكد الجملة بإن.
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 166
و المعنى: أن يوم فصل القضاء الذي نبأه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات و الأرض و حكم فيها النظام الجاري حدا مضروبا ينتهي إليه هذا العالم فإنه تعالى كان يعلم أن هذه النشأة التي أنشأها لا تتم إلا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم.
قوله تعالى: « يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً » قد تقدم الكلام في معنى نفخ الصور كرارا، و الأفواج جمع فوج و هي الجماعة المارة المسرعة على ما ذكره الراغب.
و في قوله: « فَتَأْتُونَ أَفْواجاً » جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاء لحق الوعيد الذي يتضمنه قوله: « كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » و كان الآية ناظرة إلى قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» : إسراء: 71.
قوله تعالى: « وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً » فاتصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة.
و قيل: التقدير فكانت ذات أبواب، و قيل: صار فيها طرق و لم يكن كذلك من قبل، و لا يخلو الوجهان من تحكم فليتدبر.
قوله تعالى: « وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » السراب هو الموهوم من الماء اللامع في المفاوز و يطلق على كل ما يتوهم ذا حقيقة و لا حقيقة له على طريق الاستعارة.
و لعل المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني.
بيان ذلك: أن تسيير الجبال و دكها ينتهي بالطبع إلى تفرق أجزائها و زوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة و آثارها إذ قال: «وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» : الطور: 10 و قال: «وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» : الحاقة: 14، و قال: «وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» : المزمل 14، و قال: «وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» : القارعة: 5، و قال: «وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» : الواقعة: 5، و قال: «وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» : المرسلات: 10.
فتسيير الجبال و دكها ينتهي بها إلى بسها و نسفها و صيرورتها كثيبا مهيلا و كالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى و أما صيرورتها سرابا بمعنى ما يتوهم ماء لامعا فلا نسبة بين التسيير و بين السراب بهذا المعنى.
نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها و بطلان كينونتها و حقيقتها بمعنى كونها جبلا فالجبال الراسيات التي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قوية لا تحركه العواصف تتبدل بالتسيير
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 167
سرابا باطلا لا حقيقة له، و نظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم و قطع دابرهم، «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» : سبأ: 19 و قوله: «فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» المؤمنون: 44، و قوله في الأصنام «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ» : النجم: 23.
فالآية بوجه كقوله تعالى «وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» النمل: 88- بناء على كونه ناظرا إلى صفة زلزلة الساعة-.
قوله تعالى: « إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً » قال في المفردات،: الرصد الاستعداد للترقب- إلى أن قال- و المرصد موضع الرصد قال تعالى: « وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ » و المرصاد نحوه لكن يقال للمكان الذي اختص بالرصد قال تعالى: « إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً » تنبيها على أن عليها مجاز الناس، و على هذا قوله تعالى: « وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » انتهى.
قوله تعالى: « لِلطَّاغِينَ مَآباً » الطاغون الملتبسون بالطغيان و هو الخروج عن الحد، و المآب اسم مكان من الأوب بمعنى الرجوع، و العناية في عدها مآبا للطاغين أنهم هيئوها مأوى لأنفسهم و هم في الدنيا ثم إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا و رجعوا إليها.
قوله تعالى: « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً » الأحقاب الأزمنة الكثيرة و الدهور الطويلة من غير تحديد.
و هو جمع اختلفوا في واحده فقيل: واحده حقب بالضم فالسكون أو بضمتين، و قد وقع في قوله تعالى: «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» : الكهف: 60، و قيل: حقب بالفتح فالسكون و واحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: و الحق أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة. انتهى.
و حد بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع و ثمانين سنة و زاد آخرون أن السنة منها ثلاثمائة و ستون يوما كل يوم يعدل ألف سنة، و عن بعضهم أن الحقب أربعون سنة و عن آخرين أنه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك و لا دليل من الكتاب يدل على شيء من هذه التحديدات و لم يثبت من اللغة شيء منها.
و ظاهر الآية أن المراد بالطاغين المعاندون من الكفار و يؤيده قوله ذيلا: « إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ».
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 168
و قد فسروا « أَحْقاباً » في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حال كون الطاغين لابثين في جهنم حقبا بعد حقب بلا تحديد و لا نهاية فلا تنافي الآية ما نص عليه القرآن من خلود الكفار في النار.
و قيل: إن قوله: « لا يَذُوقُونَ فِيها » إلخ صفة « أَحْقاباً » و المعنى لابثين فيها أحقابا هي على هذه الصفة و هي أنهم لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا إلا حميما و غساقا، ثم يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية.
و هو حسن لو ساعد السياق.
قوله تعالى: « لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً » ظاهر المقابلة بين البرد و الشراب أن المراد بالبرد مطلق ما يتبرد به غير الشراب كالظل الذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذوق مطلق النيل و المس.
قوله تعالى: « إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً » الحميم الماء الحار شديد الحر، و الغساق صديد أهل النار.
قوله تعالى: « جَزاءً وِفاقاً - إلى قوله- كِتاباً » المصدر بمعنى اسم الفاعل و المعنى يجزون جزاء موافقا لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاء ذا وفاق أو إطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل.
و قوله: « إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً » أي تكذيبا عجيبا يصرون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، و ذلك أنهم لم يرجوا الحساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة و كذبوا بالآيات الدالة عليها فأنكروا التوحيد و النبوة و تعدوا في أعمالهم طور العبودية فنسوا الله تعالى فنسيهم و حرم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلا الشقاء و لا يجدون فيها إلا ما يكرهون، و لا يواجهون إلا ما يتعذبون به و هو قوله: « فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ».
و في الآية أعني قوله: « جَزاءً وِفاقاً » دلالة على المطابقة التامة بين الجزاء و العمل فالإنسان لا يريد بعمله إلا الجزاء الذي بإزائه و التلبس بالجزاء تلبس بالعمل بالحقيقة قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» : التحريم: 7.