کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 237
ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه- فيصير أسفله أعلاه و أعلاه أسفله.
قال رسول الله ص: إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه- فإن تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منه و إن ازداد زادت- فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه- « كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ».
[سورة المطففين (83): الآيات 22 الى 36]
بيان
بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الأبرار و عظم منزلتهم عند الله تعالى و غزارة عيشهم في الجنة، و أنهم على كونهم يستهزئ بهم الكفار و يتغامزون بهم و يضحكون منهم سيضحكون منهم و ينظرون إلى ما ينالهم من العذاب.
قوله تعالى: « إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ » النعيم النعمة الكثيرة و في تنكيره دلالة على فخامة قدره، و المعنى أن الأبرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 238
قوله تعالى: « عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ » الأرائك جمع أريكة و الأريكة السرير في الجملة و هي البيت المزين للعروس و إطلاق قوله: « يَنْظُرُونَ » من غير تقييد يؤيد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنة البهجة و ما فيها من النعيم المقيم، و قيل: المراد به النظر إلى ما يجزي به الكفار و ليس بذاك.
قوله تعالى: « تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ » النضرة البهجة و الرونق، و الخطاب للنبي ص باعتبار أن له أن ينظر فيعرف فالحكم عام و المعنى كل من نظر إلى وجوههم يعرف فيها بهجة النعيم الذي هم فيه.
قوله تعالى: « يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ » الرحيق الشراب الصافي الخالص من الغش، و يناسبه وصفه بأنه مختوم فإنه إنما يختم على الشيء النفيس الخالص ليسلم من الغش و الخلط و إدخال ما يفسده فيه.
قوله تعالى: « خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ » قيل الختام بمعنى ما يختم به أي إن الذي يختم به مسك بدلا من الطين و نحوه الذي يختم به في الدنيا، و قيل:
أي آخر طعمه الذي يجده شاربه رائحة المسك.
و قوله: « وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ » التنافس التغالب على الشيء و يفيد بحسب المقام معنى التسابق قال تعالى: «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ» : الحديد: 21، و قال: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» : المائدة: 48، ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم.
و استشكل في الآية بأن فيها دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك إلخ و أجيب بأن الكلام على تقدير حرف الشرط و الفاء واقعة في جوابه و قدم الظرف ليكون عوضا عن الشرط و التقدير و إن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون.
و يمكن أن يقال: إن قوله: « وَ فِي ذلِكَ » معطوف على ظرف آخر محذوف متعلق بقوله: « فَلْيَتَنافَسِ » يدل عليه المقام فإن الكلام في وصف نعيم الجنة فيفيد قوله: « وَ فِي ذلِكَ » ترغيبا مؤكدا بتخصيص الحكم بعد التعميم، و المعنى فليتنافس المتنافسون في نعيم الجنة عامة و في الرحيق المختوم الذي يسقونه خاصة فهو كقولنا: أكرم المؤمنين و الصالحين منهم خاصة، و لا تكن عيابا و للعلماء خاصة.
قوله تعالى: « وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ » المزاج ما يمزج به، و التسنيم على ما تفسره الآية التالية عين في الجنة سماه الله تسنيما و في لفظه معنى الرفع و الملء يقال: سنمه أي رفعه
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 239
و منه سنام الإبل، و يقال: سنم الإناء أي ملأه.
قوله تعالى: « عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ » يقال: شربه و شرب به بمعنى و « عَيْناً » منصوب على المدح أو الاختصاص و « يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ » وصف لها و المجموع تفسير للتسنيم.
و مفاد الآية أن المقربين يشربون التسنيم صرفا كما أن مفاد قوله: « وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ » أنه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم، و يدل ذلك أولا على أن التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الذي يزيد لذة بمزجها، و ثانيا أن المقربين أعلى درجة من الأبرار الذين يصفهم الآيات.
قوله تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ » يعطي السياق أن المراد بالذين آمنوا هم الأبرار الموصوفون في الآيات و إنما عبر عنهم بالذين آمنوا لأن سبب ضحك الكفار منهم و استهزائهم بهم إنما هو إيمانهم كما أن التعبير عن الكفار بالذين أجرموا للدلالة على أنهم بذلك من المجرمين.
قوله تعالى: « وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ » عطف على قوله: « يَضْحَكُونَ » أي كانوا إذا مروا بالذين آمنوا يغمز بعضهم بعضا و يشيرون بأعينهم استهزاء بهم.
قوله تعالى: « وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ » الفكه بالفتح فالكسر المرح البطر، و المعنى و كانوا إذا انقلبوا و صاروا إلى أهلهم عن ضحكهم و تغامزهم انقلبوا ملتذين فرحين بما فعلوا أو هو من الفكاهة بمعنى حديث ذوي الإنس و المعنى انقلبوا و هم يحدثون بما فعلوا تفكها.
قوله تعالى: « وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ » على سبيل الشهادة عليهم بالضلال أو القضاء عليهم و الثاني أقرب.
قوله تعالى: « وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ » أي و ما أرسل هؤلاء الذين أجرموا حافظين على المؤمنين يقضون في حقهم بما شاءوا أو يشهدون عليهم بما هووا، و هذا تهكم بالمستهزئين.
قوله تعالى: « فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ » المراد باليوم يوم الجزاء، و التعبير عن الذين أجرموا بالكفار رجوع إلى حقيقة صفتهم. قيل: تقديم الجار و المجرور على الفعل أعني « مِنَ الْكُفَّارِ » على « يَضْحَكُونَ «لإفادة قصر القلب، و المعنى فاليوم الذين آمنوا يضحكون من الكفار لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا.
قوله تعالى: « عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ » الثواب في
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 240
الأصل مطلق الجزاء و إن غلب استعماله في الخير، و قوله « عَلَى الْأَرائِكِ » خبر بعد خبر للذين آمنوا و « يَنْظُرُونَ » خبر آخر، و قوله: « هَلْ ثُوِّبَ » إلخ متعلق بقوله:
« يَنْظُرُونَ «قائم مقام المفعول.
و المعنى: الذين آمنوا على سرر في الحجال ينظرون إلى جزاء الكفار بأفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الأجرام و منها ضحكهم من المؤمنين و تغامزهم إذا مروا بهم و انقلابهم إلى أهلهم فكهين و قولهم: إن هؤلاء لضالون.
بحث روائي
في تفسير القمي،": في قوله تعالى: « وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ » قال: فيما ذكرناه من الثواب الذي يطلبه المؤمن.
و في المجمع،": في قوله تعالى: « وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ » قيل نزلت في علي بن أبي طالب (ع)- و ذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاءوا إلى النبي ص- فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا- ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه- فنزلت الآية قبل أن يصل علي و أصحابه إلى النبي ص": عن مقاتل و الكلبي.
أقول: و قد أورده في الكشاف،.
و فيه ذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال"*: « إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا » منافقو قريش- و « الَّذِينَ آمَنُوا » علي بن أبي طالب و أصحابه.
و في تفسير القمي،": « إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا - إلى قوله- فَكِهِينَ » قال: يسخرون.
(84) سورة الانشقاق مكية و هي خمس و عشرون آية (25)
[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 241
بيان
تشير السورة إلى قيام الساعة، و تذكر أن للإنسان سيرا إلى ربه حتى يلاقيه فيحاسب على ما يقتضيه كتابه و تؤكد القول في ذلك و الغلبة فيها للإنذار على التبشير. و سياق آياتها سياق مكي.
قوله تعالى: « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ » شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله: « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ » و التقدير: لاقى الإنسان ربه فحاسبه و جازاه على ما عمل.
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 242
و انشقاق السماء و هو تصدعه و انفراجه من أشراط الساعة كمد الأرض و سائر ما ذكر في مواضع من كلامه تعالى من تكوير الشمس و اجتماع الشمس و القمر و انتثار الكواكب و نحوها.
قوله تعالى: « وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ » الإذن الاستماع و منه الأذن لجارحة السمع و هو مجاز عن الانقياد و الطاعة، و « حُقَّتْ » أي جعلت حقيقة و جديرة بأن تسمع، و المعنى و أطاعت و انقادت لربها و كانت حقيقة و جديرة بأن تستمع و تطيع.
قوله تعالى: « وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ » الظاهر أن المراد به اتساع الأرض، و قد قال تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» : إبراهيم: 48.
قوله تعالى: « وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ » أي ألقت الأرض ما في جوفها من الموتى و بالغت في الخلو مما فيها منهم.
و قيل: المراد إلقائها الموتى و الكنوز كما قال تعالى: «وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» : الزلزال: 2 و قيل: المعنى ألقت ما في بطنها و تخلت مما على ظهرها من الجبال و البحار، و لعل أول الوجوه أقربها.
قوله تعالى: « وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ » ضمائر التأنيث للأرض كما أنها في نظيرتها المتقدمة للسماء، و قد تقدم معنى الآية.
قوله تعالى: « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ » قال الراغب،:
الكدح السعي و العناء. انتهى. ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها انتهى. و على هذا فهو مضمن معنى السير بدليل تعديه بإلى ففي الكدح معنى السير على أي حال.
و قوله: « فَمُلاقِيهِ » عطف على « كادِحٌ » و قد بين به أن غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبية أي إن الإنسان بما أنه عبد مربوب و مملوك مدبر ساع إلى الله سبحانه بما أنه ربه و مالكه المدبر لأمره فإن العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملا فعليه أن يريد و لا يعمل إلا ما أراده ربه و مولاه و أمره به فهو مسئول عن إرادته و عمله.
و من هنا يظهر أولا أن قوله: « إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ » يتضمن حجة على المعاد لما عرفت أن الربوبية لا تتم إلا مع عبودية و لا تتم العبودية إلا مع مسئولية و لا تتم مسئولية إلا برجوع و حساب على الأعمال و لا يتم حساب إلا بجزاء.
الميزان فى تفسير القرآن، ج20، ص: 243
و ثانيا: أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه من غير أن يحجبه عن ربه حاجب.
و ثالثا: أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنه إنسان فالمراد به الجنس و ذلك أن الربوبية عامة لكل إنسان.
قوله تعالى: « فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ » تفصيل مترتب على ما يلوح إليه قوله:
« إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ » أن هناك رجوعا و سؤالا عن الأعمال و حسابا، و المراد بالكتاب صحيفة الأعمال بقرينة ذكر الحساب، و قد تقدم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الإسراء و الحاقة.
قوله تعالى: « فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً » الحساب اليسير ما سوهل فيه و خلا عن المناقشة.
قوله تعالى: « وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً » المراد بالأهل من أعده الله له في الجنة من الحور و الغلمان و غيرهم و هذا هو الذي يفيده السياق، و قيل: المراد به عشيرته المؤمنون ممن يدخل الجنة، و قيل المراد فريق المؤمنين و إن لم يكونوا من عشيرته فالمؤمنون إخوة.
و الوجهان لا يخلوان من بعد.
قوله تعالى: « وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ » الظرف منصوب بنزع الخافض و التقدير من وراء ظهره، و لعلهم إنما يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لرد وجوههم على أدبارهم كما قال تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها» : النساء: 47.
و لا منافاة بين إيتاء كتابهم من وراء ظهورهم و بين إيتائهم بشمالهم كما وقع في قوله تعالى: «وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ» : الحاقة: 25 و سيأتي في البحث الروائي التالي ما ورد في الروايات من معنى إيتاء الكتاب من وراء ظهورهم.
قوله تعالى: « فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً » الثبور كالويل الهلاك و دعاؤهم الثبور قولهم: وا ثبوراه.
قوله تعالى: « وَ يَصْلى سَعِيراً » أي يدخل نارا مؤججة لا يوصف عذابها، أو يقاسي حرها.
قوله تعالى: « إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً » يسره ما يناله من متاع الدنيا و تنجذب نفسه إلى زينتها و ينسيه ذلك أمر الآخرة و قد ذم تعالى فرح الإنسان بما يناله من خير الدنيا و سماه فرحا بغير حق قال تعالى بعد ذكر النار و عذابها: «ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ» : المؤمن: 75.