کتابخانه تفاسیر
النكت و العيون، ج1، ص: 58
مراتب الخضوع، فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة و العقل و السمع و البصر.
و الثاني: أن العبادة الطاعة.
و الثالث: أنها التقرب بالطاعة.
و الأول أظهرها، لأن النصارى عبدت عيسى عليه السّلام، و لم تطعه بالعبادة، و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مطاع، و ليس بمعبود بالطاعة.
[سورة الفاتحة (1): الآيات 6 الى 7]
قوله عزوجل: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخرها.
أما قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ففيه تأويلان:
أحدهما: معناه أرشدنا و دلّنا.
و الثاني: معناه وفقنا، و هذا قول ابن عباس.
و أما الصراط ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه السبيل المستقيم، و منه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوجّ الموارد مستقيم «75»
و الثاني: أنه الطريق الواضح و منه قوله تعالى: وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ، [الأعراف: 86] و قال الشاعر:
...
فصدّ عن نهج الصّراط القاصد
و هو مشتق من مسترط الطعام، و هو ممره في الحلق.
و في الدعاء بهذه الهداية، ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنهم دعوا باستدامة الهداية، و إن كانوا قد هدوا.
و الثاني: معناه زدنا هداية.
(75) ديوانه: 507.
النكت و العيون، ج1، ص: 59
و الثالث: أنهم دعوا بها إخلاصا للرغبة، و رجاء لثواب الدعاء.
و اختلفوا في المراد بالصراط المستقيم، على أربعة أقاويل:
أحدها: أنه كتاب اللّه تعالى، و هو قول علي و عبد اللّه، و يروى نحوه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «76» .
و الثاني: أنه الإسلام، و هو قول جابر بن عبد اللّه، و محمد بن الحنفية «77» .
و الثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين اللّه تعالى، الذي لا عوج فيه، و هو قول ابن عباس.
و الرابع: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أخيار أهل بيته و أصحابه «78» ، و هو قول الحسن البصري و أبي العالية الرياحي «79» .
و في قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ خمسة أقاويل:
أحدها: أنهم الملائكة.
و الثاني: أنهم الأنبياء.
(76) تقدم تخريجه موسعا ص
(77) هو محمد بن علي بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب. من كبراء التابعين ولد في العام الذي توفي فيه أبو بكر و رأى عمر و روى عنه و عن أبيه و أبي هريرة و عثمان و غيرهم و وفد على معاوية و كان الشيعة في زمانه تتغالى فيه و تدعي إمامته و لقبوه بالمهدي. توفي رحمه اللّه سنة إحدى و ثمانين و قيل سنة ثلاث و ثمانين و اللّه أعلم. أنظر:-
وفيات الأعيان (4/ 169)، تاريخ الإسلام (3/ 294)، البداية و النهاية (9/ 38)، تهذيب التهذيب (9/ 354)، شذرات الذهب (1/ 88)
(78) قال الحافظ ابن كثير (1/ 28) و كل هذه الأقوال صحيحة و هي متلازمة. فإنه من اتبع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و اقتدى بالذين من بعده أبي بكر و عمر فقد اتبع الحق و من اتبع الحق فقد اتبع الاسلام و من اتبع الاسلام فقد اتبع القرآن و هو كتاب اللّه و حبله المتين و صراطه المستقيم فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا و للّه الحمد.
(79) هو رفيع بن مهران الرياحي، أبو العالية الإمام المقرىء الحافظ المفسر أدرك زمان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو شاب و أسلم في خلافة أبي بكر سمع من عمر و علي و ابن مسعود و غيرهم. و كان يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر.
اختلف في موته فقيل سنة 90 و قيل 93، 106 و اللّه أعلم. أنظر:-
طبقات ابن سعد (7/ 112)، تهذيب التهذيب (3/ 284)، تاريخ البخاري (3/ 326) شذرات الذهب (1/ 102)، تذكرة الحفاظ (1/ 58).
النكت و العيون، ج1، ص: 60
و الثالث: أنهم المؤمنون بالكتب السالفة.
و الرابع: أنهم المسلمون و هو قول وكيع «80» .
و الخامس: هم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و من معه من أصحابه، و هذا قول عبد الرحمن بن زيد «81» .
و قرأ عمر بن الخطاب و عبد اللّه بن الزبير «82» : (صراط من أنعمت عليهم) و أما قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ فقد روى عن عديّ بن حاتم «83» قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، عن المغضوب عليهم، فقال: «هم اليهود»، و عن الضالين فقال: «هم النّصارى» «84» .
(80) هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، أبو سفيان فقيه، محدث، حافظ ولد بالكوفة و تفقه و حفظ الحديث. أراد الرشيد أن يوليه القضاء فامتنع. توفي رحمه اللّه منصرفا من الحج سنة (197 ه) من آثاره: السنن، تفسير القرآن، الزهد و غيرها. أنظر:- طبقات الحنابلة (257)، الفهرست (1/ 226)، الاعلام للزركلي (9/ 135)، و غيرها.
(81) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. فقيه، محدث، مفسر. توفي في أول خلافة هارون الرشيد سنة 170 ه. له من الكتب: الناسخ و المنسوخ، التفسير. أنظر:- الفهرست (1/ 225)، معجم المؤلفين (5/ 138).
(82) هو عبد اللّه بن الزبير بن العوام القرشي، أبو بكر صحابي جليل. أول مولود في المدينة بعد الهجرة، بويع بالخلافة له سنة 64 ه و كان من خطباء قريش المعدودين استشهد رضي اللّه عنه في سنة 73 ه. أنظر:-
تهذيب التهذيب (5/ 213)، الإصابة (2/ 309)، البداية و النهاية (8/ 332) أسد الغابة (3/ 242).
(83) هو عدي بن حاتم بن عبد اللّه بن سعد الطائي. أبو وهب، أبو طريف أسير، صحابي. من الأجواد و العقلاء. و هو ابن حاتم الطائي الذي يضرب بجوده المثل. مات رضي اللّه عنه سنة 68 بالكوفة. أنظر:-
الإصابة (2/ 468)، تهذيب التهذيب (7/ 166)، التاريخ الكبير (7/ 43)، طبقات ابن سعد (6/ 22).
(84) رواه الطبري في التفسير (1/ 185، 193) و صححه الشيخ أحمد شاكر و زاد السيوطي نسبته في الدر (1/ 16) لعبد بن حميد و ابن المنذر و ابن حبان في صحيحه و الحديث أصله قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي رضي اللّه عنه. و قد جاء بروايات متعددة كثيرة كما قال الحافظ ابن كثير في تفسيره. و قد رواه الإمام أحمد في مسنده (4/ 194، 378، 379) أنظر تخريج القصة في الدر المنثور (4/ 174) و كذا تخريج تفسير الطبري للشيخ أحمد شاكر و حسن القصة الترمذي و حسنها الشيخ الألباني في غاية المرام (ص 6) وفات السيوطي نسبتها لأحمد في مسنده. تنبيه:- و أما قول-
النكت و العيون، ج1، ص: 61
و هو قول جميع المفسرين «85» .
و في غضب اللّه عليهم، أربعة أقاويل:
أحدها: الغضب المعروف من العباد «86» .
و الثاني: أنه إرادة الإنتقام، لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة، و هذه الصفة لا تجوز على اللّه تعالى.
و الثالث: أن غضبه عليهم هو ذمّه لهم.
و الرابع: أنه نوع من العقوبة سمّي غضبا، كما سمّيت نعمه رحمة.
و الضلال ضد الهدى، و خصّ اللّه تعالى اليهود بالغضب، لأنهم أشد عداوة.
و قرأ عمر بن الخطاب «87» (غير المغضوب عليهم و غير الضّالّين).
- الشيخ الدوسري حفظه اللّه في كتابه النهج السديد (ص 53) «و عزو الحديث لأحمد وهم و لذلك لم يعز السيوطي في الدر الحديث إليه». فوهم منه حفظه اللّه فقد رواه الإمام أحمد في مسنده كما رأيت ... و أما قوله: «و لذلك لم يعز السيوطي في الدر الحديث إليه» فيقال كم من حديث رواه أحمد في مسنده وفات السيوطي في الجامع الصغير و الدر المنثور و الأمثلة على ذلك كثير لا يتسع المقام لها.
(85) قال الحافظ ابن حجر رحمه اللّه (8/ 159) قال ابن أبي حاتم لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافا قال السهيلي و شاهد ذلك في قوله تعالى في اليهود: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ و في النصارى قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً ا ه ثم اعلم أيها القارىء أن تفسير غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» ورد من حديث أبي ذر و اسناده حسن حسنه الحافظ رحمه اللّه في نفس المكان من الفتح (8/ 159) أخرجه ابن مردويه.
(86) إن اللّه سبحانه و تعالى يغضب و لا سيما يوم القيامة فإنه يغضب غضبة لم يغضب مثلها و لا قبلها و لا بعدها و أن غضب اللّه تعالى لا يتأثر بالانفعالات و لا يوصف بالمزاجية الناشئة عن الضعف و عدم التمالك لأن اللّه سبحانه و تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» لا في ذاته و لا في صفاته و كذلك فقد وصف الرب جل و علا نفسه بقوله «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» أي ليس للّه شبيها أحد. لذا فمن جعل صفة من صفات اللّه تعالى كصفات المخلوقات متأثره بالانعكاسات و الانفعالات فقد خيل ضلالا بعيدا و قد قال الإمام أبو جعفر الطحاوي و هو من السلف الصالح. (من وصف اللّه بمعنى من معاني البشر فقد كفر).
(87) و قد رواها أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن و سعيد بن منصور بإسناد صحيح صححه ابن حجر في الفتح (8/ 159) و ابن كثير من قبله (1/ 29) لكن الحافظ ابن كثير رحمه اللّه قال: «و كذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك و هو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير».
النكت و العيون، ج1، ص: 63
سورة البقرة
مدنية في قول الجميع، إلا آية منها، و هي قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ، فإنها نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عز و جل: الم اختلف فيه المفسرون على ثمانية أقاويل:
أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن كالفرقان و الذكر، و هو قول قتادة و ابن جريج «88» .
و الثاني: أنه من أسماء السور، و هو قول زيد بن أسلم.
و الثالث: أنه اسم اللّه الأعظم، و هو قول السدي «89» و الشعبي «90» .
(88) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأسوي مولاهم، المكي، أبو الوليد، أبو خالد محدث، حافظ، فقيه، مفسر، ولد بمكة و حدث بالبصرة و أكثروا عنه. من آثاره: السنن، مناسك الحج، تفسير القرآن. توفي رحمه اللّه سنة 150 ه. أنظر:-
سير أعلام النبلاء (5/ 262) تهذيب التهذيب (6/ 402)، تاريخ بغداد (10/ 400).
(89) هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، تابعي، حجازي الأصل، سكن الكوفة، صاحب التفسير و المغازي و السير، كان إماما عارفا بالوقائع و أيام الناس. توفي رحمه اللّه سنة 128 ه، من آثاره:
التفسير. أنظر:-
الأعلام للزركلي (1/ 317)، روضات الجنات (101)، طبقات ابن سعد (6/ 323)، ميزان الاعتدال (1/ 236).
(90) هو عامر بن شرحبيل بن ذي كبار، أبو عمرو. رأى عليا و صلى خلفه. و حدث عن جمع من-
النكت و العيون، ج1، ص: 64
و الرابع: أنه قسم أقسم اللّه تعالى به، و هو من أسمائه، و به قال ابن عباس و عكرمة.
و الخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء و أفعال، فالألف من أنا و اللّام من اللّه، و الميم من أعلم، فكان معنى ذلك: أنا اللّه أعلم، و هذا قول ابن مسعود و سعيد بن جبير، و نحوه عن ابن عباس أيضا.
و السادس: أنها حروف يشتمل كل حرف منها على معان مختلفة، فالألف مفتاح اسمه اللّه، و اللام مفتاح اسمه لطيف، و الميم مفتاح اسمه مجيد، و الألف آلاء اللّه، و الميم مجده، و الألف سنة، و اللام ثلاثون سنة، و الميم أربعون سنة، آجال قد ذكرها اللّه.
و السابع: أنها حروف من حساب الجمل، لما جاء في الخبر عن «91» عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس و جابر بن عبد اللّه، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يتلو فاتحة الكتاب و سورة البقرة: الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فأتى أخاه حيّي بن أخطب في رجال من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: يا محمد ألم تذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل اللّه عليك: الم. ذلِكَ
- الصحابة، و كان حافظا، متقنا توفي سنة 105 رحمه اللّه. قال أبو مجلز عنه:- ما رأيت أحدا أفقه من الشعبي. أنظر:-
طبقات ابن سعد (6/ 246)، سير أعلام النبلاء (4/ 294)، البداية و النهاية (9/ 230)، تذكرة الحفاظ (1/ 74)، تهذيب التهذيب (2/ 114).
(91) رواه الطبري في التفسير (1/ 226) و البخاري في التاريخ الكبير (1/ 2/ 207) و قال الطبري خبر في اسناده نظر و ضعفه السيوطي في الدر المنثور (1/ 57) و الشوكاني في فتح القدير (1/ 20) و زاد السيوطي نسبته في الدر لابن اسحق و قال أخرجه ابن المنذر في تفسيره من وجه آخر عن ابن جريج مفصلا قال الحافظ ابن كثير (1/ 69، 70) أما من زعم أنها دالة على معرفة المدد و أنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث و الفتن و الملاحم فقد ادعى ما ليس له و طار في غير مطاره و قد ورد في ذلك حديث ضعيف و هو مع ذلك أؤل على بطلان هذا المسلك و التمسك به مع صحته.