کتابخانه تفاسیر
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 55
العباد على مطلوبهم منه، و لأنّ المتكلّم لمّا نسب العبادة الى نفسه كان كالمعتدّ بما يصدر منه فعقّبه «1» ب «إيّاك نستعين»، إيذانا بأنّ العبادة لا تتمّ إلّا بمعونته.
و إيثار صيغة المتكلّم مع الغير على المتكلّم وحده، ليلاحظ القارئ دخول الحفظة أو حاضري صلاة الجماعة، او كلّ موجود وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، «2» و ليؤذن بحقارة نفسه عن عرض العبادة و طلب المعونة منفردا على باب الكبرياء بدون انضمامه إلى جماعة تشاركه في العرض، كما يصنع في عرض الهدايا، و رفع الحوائج إلى الملوك، و ليحترز عن الكذب لو انفرد في ادّعائه: قصر خضوعه التّام و استعانته عليه تعالى، مع خضوعه التّام لأهل الدنيا من الملوك و نحوهم.
و في الجمع يمكن أن يقصد تغليب الخلّص على غيرهم فيصدق، و ليدرج عبادته و حاجته في عبادة المقرّبين و حاجتهم لعلّها تقبل و تجاب ببركتهم.
و العدول من الغيبة الى الخطاب التفات، و يكون بالعكس، و من أحدهما الى التّكلّم و بالعكس، و من عادة العرب العدول من أسلوب الى آخر تفنّنا في الكلام، و تطرية له، و تنشيطا للسّامع، و تختصّ مواقعه بنكت.
و ممّا اختص به هذا الموضع: أنّ الحمد إظهار مزايا المحمود، فالمخاطب به غيره تعالى، فالمناسب له طريق الغيبة.
و أما العبادة و الاستعانة، فينبغي كتمانهما من غير المعبود و المستعان؛ ليكون أقرب الى الإخلاص و أبعد عن الرّياء، فالمناسب له طريق الخطاب.
و منه: التّلويح إلى ما
في حديث: «اعبد اللّه كأنّك تراه» «3»
إذ العبادة الكاملة هي ما يكون العابد حال اشتغاله بها مستغرقا في الحضور، كأنّه مشاهد لجناب معبوده.
(1) في «ج»: فعقّب.
(2) سورة الإسراء: 17/ 44.
(3) عوالي اللآلي 1: 405 الحديث 65.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 56
و منه التّنبيه على علوّ مرتبة الذّكر، و أنّ العبد بإجراء هذا القدر منه على لسانه صار أهلا للخطاب، فكيف لو لازمه ليلا و نهارا.
و منه الإيماء إلى أنّ من تأدّب و كسر نفسه و رءاها بعيدة عن ساحة القرب حقيق أن تدركه رحمة إلهيّة توصله إلى مقام أهل القرب و الخطاب.
[6]- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فصل عمّا قبله لكمال الانقطاع؛ لتخالفهما خبرا و إنشاء، أو لكمال الاتّصال لأنّه بيان للمعونة المطلوبة كأنّه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: «اهدنا».
و الهداية: الدّلالة بلطف- أوصلت إلى المطلوب أم لا-، و قيل: الموصلة. «1» و يدفعه فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى . «2» و قيل: إراءة ما يوصل، «3» و يدفعه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «4» و قيل إن تعدّت الى ثاني مفعوليها بنفسها فالموصلة، و لا تسند إلّا اليه تعالى، أو بالحرف فالإراءة و تسند الى النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، و يدفعه: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «5» و الإسناد إلى غيره تعالى في: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا . «6» ثمّ إنّ أصناف هديته سبحانه- و إن لم يحصرها العدّ- على أربعة أوجه:
الاول: إفاضة القوى و الحواس لجلب النّفع و دفع الضّرر أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى . «7»
(1) ذكره البيضاوي في تفسيره 1: 34.
(2) سورة فصّلت: 41/ 17 و تمامه: «و أمّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى علي الهدى».
(3) أشار اليه البيضاوي في تفسيره 1: 35.
(4) سورة القصص: 28/ 56.
(5) سورة البلد: 90/ 10.
(6) سورة مريم: 19/ 43.
(7) سورة طه: 20/ 50.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 57
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحقّ و الباطل وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ . «1» الثالث: إرسال الرّسل و إنزال الكتب وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ . «2» الرابع: إزالة الغواشي البدنيّة و إراءة الأشياء كما هي، بالوحي أو الإلهام أو المنام الصّادق، و الاستغراق في ملاحظة جماله و جلاله، و هذا يختصّ به الأنبياء و الأولياء و نحوهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ ، «3» فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ، «4» فإذا تلا هذه الآية غير الواصلين أرادوا بالهداية: المرتبة الرّابعة، و إذا تلاها الواصلون أرادوا: زيادة ما منحوه من الهدى وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً . «5» و الثبات عليه.
عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «اهدنا»: ثبّتنا. «6»
و الصّراط: الجادّة، من: سرط الطّعام، أي ابتلعه، فكأنّه يسترط السّابلة و هم يسترطونه، كما سمّي: لقما كأنّه يلتقمهم. و جمعه: ككتب، و يذكّر و يؤنّث كالسّبيل، و أصله: السين، قلبت صادا لتطابق الطاء في الإطباق، و قد يشمّ الصّاد صوت الزّاء.
و قرأ «ابن كثير» بالأصل «7» و «حمزة» بالإشمام، «8» و الباقون بالصّاد- و هي لغة قريش-. «9» و المراد ب «الصراط المستقيم»: طريق الحقّ أو دين الإسلام، أو كتاب اللّه.
[7]- صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل كلّ من: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ،
(1) سورة البلد: 90/ 10.
(2) سورة فصّلت: 41/ 17.
(3) سورة الزمر: 39/ 18.
(4) سورة الانعام: 6/ 90.
(5) سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 47/ 17.
(6) رواه الزمخشري في تفسير الكشّاف: 1/ 67.
(7، 8، 9) الكشف عن وجوه القراءات 1: 34.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 58
للتأكيد و التّنصيص على أنّ الطريق الذي هو علم في الاستقامة هو طريق المنعم عليهم، حيث جعل كالتّفسير له.
و المراد بهم المذكورون في قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ . «1» و قيل: المراد بهم المسلمون، «2» فإنّ نعمة الإسلام أصل كلّ النّعم. و قيل: الأنبياء. «3» و الإنعام: إيصال النّعمة، و هي- في الأصل- مصدر، بمعنى: الحالة المستلذّة، ككون الإنسان مليّا- مثلا، ثمّ أطلقت على نفس الشّيء المستلذّ، تسمية للسّبب باسم المسبّب.
و نعمه سبحانه- على كثرتها و تعذّر حصرها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «4» - ثمانية أنواع: إمّا دنيويّ موهبيّ روحاني- كإفاضة العقل-، أو جسمانيّ- كخلق الأعضاء-.
و إمّا دنيويّ كسبيّ روحانيّ- كتحلية النّفس بالأخلاق الزّكية-، أو جسمانيّ- كتزيين البدن بالهيئات المطبوعة.
و إمّا أخرويّ موهبيّ روحانيّ- كغفران ذنب من لم يتب-، أو جسماني كأنهار العسل، و امّا أخرويّ كسبي روحانيّ كغفران ذنب التائب او جسماني كاللذّات الجسمانية المستجلبة بالطّاعات.
و المراد- هنا-: الأربعة الأخيرة، و ما يكون وصلة إليها من الأربعة الاول- لاشتراك المؤمن و الكافر فيما عدا ذلك-. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ .
(1) سورة النساء: 4/ 69.
(2) قاله وكيع كما في تفسير ابن كثير 1: 28.
(3) أورد هذا القول ابن كثير في تفسيره (1: 28) أيضا.
(4) سورة النحل: 16/ 18.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 59
الغضب: ثوران النفس «1» لإرادة الانتقام، فإن أسند إليه تعالى فباعتبار الغاية- كالرّحمة-.
و العدول عن اسناده إليه تعالى إلى صيغة المجهول، و إسناد عديله اليه سبحانه تأسيس لمباني الرّحمة، فكأنّ الغضب صادر من غيره تعالى، و إلّا فالظّاهر: غير الذين غضبت عليهم، و مثله- في التّصريح بالوعد و التّعريض بالوعيد- كثير في الكتاب المجيد، و منه: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «2» و المقابل: لاعذبنّكم.
و الضّلال: العدول عن الطّريق السّويّ و لو خطأ، و شعبه كثيرة، بشهادة
قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ستفترق امّتي ثلاثا و سبعين فرقة، فرقة ناجية و الباقون في النار». «3»
و تفسير «المغضوب عليهم» باليهود، و «الضّالين» بالنصارى مشهور. «4» و قيل: المراد بهما مطلق الكفار، «5» و قيل: مطلق الموصوفين بالعنوانين من الكفّار و غيرهم. «6» و «غير» بدل كلّ من «الذين»، و المعنى: أنّ المنعم عليهم هم الذين- سلموا من الغضب و الضّلال، فيفيد التأكيد و التنصيص- كما مرّ-، أو صفة له.
و يبتنى- كونها مبيّنة او مقيّدة- على تفاسير «المنعم عليهم»، و «المغضوب عليهم» و «الضّالّين»، و لا يكاد يخفى على المتدبّر.
(1) اي: هيجانها- كما في مجمع البحرين «ثور».
(2) سورة ابراهيم: 14/ 7.
(3) أورده السيوطي في الجامع الصغير 1: 184 و الدر المنثور 1: 136 و غيره، و قد الّف في هذا الحديث عدّة كتب، فينظر.
(4) ذهب اليه كثير من علمائنا و منهم العياشي في تفسيره 1: 22 و الطبرسي في تفسير مجمع البيان 1: 31.
(5) نقل هذا القول الطبرسي في تفسير مجمع البيان 1: 30.
(6) قاله عبد القاهر الجرجاني- كما في تفسير مجمع البيان 1: 30.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 60
و كيف كان: فتعرّف الموصوف، و توغّل الصّفة في النّكارة يحوج إلى إخراج أحدهما عن صرافته، اما: بجعل الموصول مقصودا به جماعة- لا بأعيانهم-، فيصير معهودا ذهنيا، فيجري مجرى النّكرات كالمعرّف بلام الجنس- المراد به فرد غير معيّن-.
أو بجعل «غير» بالإضافة الى ذي الضد الواحد معيّنا تعيّن المعارف، فينكسر إبهامه، فيصّح وصف المعرفة به كقولهم: «عليك بالحركة غير السكون».
و رجّح هذا على سابقه بأنّ إرادة بعض غير معيّن تخدش بدليّة صراطهم من «الصراط المستقيم»، إذ مدارها على علميّة صراطهم في الاستقامة، و ذلك انّما هو من حيث انتسابه الى كلّهم لا إلى البعض.
و لفظة «لا» بعد «واو» العطف في سياق النّفي، تفيد توكيده و التّصريح بشموله كلا من المتعاطفين لا أنّه لمجموعهما. و صحّح مجيئها هنا تضمّن «غير» المغايرة و النّفي، و لذا جاز «أنا زيدا غير ضارب» رعاية لجانب النّفي، فتكون الإضافة كالعدم، فيجوز تقديم معمول المضاف اليه على المضاف، كما جاز: «أنا زيدا لا ضارب» و إن لم يجز في: «أنا مثل ضارب زيدا»: «أنا زيدا مثل ضارب» لامتناع وقوع المعمول حيث يمتنع وقوع العامل.
روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أفضل سورة أنزلها اللّه في كتابه هي «الحمد»، أمّ الكتاب، و إنّها شفاء من كلّ داء». «1»
و
عن الصّادق عليه السّلام: «لو قرئت الحمد على ميّت سبعين مرة، ثم ردّت فيه الرّوح، ما كان عجبا». «2»
و
عنه عليه السّلام أنه قال: اسم اللّه الأعظم مقطّع في أمّ الكتاب». «3»
(1) رواه العياشي في تفسيره، 1: 20 الحديث 9.
(2) رواه الكليني في الكافي 2: 456- كتاب: فضل القرآن- الحديث 16.
(3) رواه الصدوق في ثواب الأعمال: 130.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 61
سورة البقرة
[2] مائتان و ستّ و ثمانون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [1]- الم و باقي الألفاظ المتهجّى بها، «1» أسماء مسمّياتها: الحروف التي منها ركّبت الكلم، لصدق حدّ الاسم عليها و قبولها خواصّه، و قد تسمّى حروفا مجازا.
و ما
في حديث: «من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالها».
لا أقول: «الم» حرف، بل «الف» حرف و «لام» حرف و «ميم» حرف «2» فلغوي، إذ
(1) و هي الألفاظ الواردة في أوائل السّور التالية: آل عمران: 3، و الأعراف: 7، يونس: 10، هود: 11، يوسف: 12، الرعد: 13، ابراهيم: 14، الحجر: 15، مريم: 19، طه: 20، الشعراء:
26، النمل: 27، القصص: 28، العنكبوت: 29، الروم: 30، لقمان: 31، السجدة: 32، يس: 36، ص: 38، و الحواميم السبعة و هي: غافر: 40، فصّلت: 41، الشورى: 42، الزخرف: 43، الدخان: 44، الجاثية: 45 و الأحقاف: 46، و الألفاظ الواردة في أول سورتي ق: 50 و القلم: 68.