کتابخانه تفاسیر
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 13
و بهذا يتضح فساد ما قيل أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها فكأنه قيل ما شأنكم معه و كيف توجهكم إليه فأجيب بحصر العبادة و الاستعانة فيه فإن تناسى جانب السائل بالكلية و بناء الجواب على خطابه عز و علا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله و الحق الذى لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكر من النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هناك شىء آخر كما ستحيط به خبرا و إيثار الرفع على النصب الذى هو الأصل للإيذان بأن ثبوت الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مثبت و أن ذلك أمر دائم مستمر لا حادث متجدد كما تفيده قراءة النصب و هو السر فى كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحية و السلام أحسن من تحيتهم له فى قوله تعالى قالُوا سَلاماً* قال سلام و تعريفه للجنس و معناه الإشارة إلى الحقيقة من حيث هى حاضرة فى ذهن السامع و المراد تخصيص حقيقة الحمد به تعالى المستدعى لتخصيص جميع أفرادها به سبحانه على الطريق البرهانى لكن لا بناء على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى فتكون الأفراد الواقعة بمقابلة ما صدر عنهم من الأفعال الجميلة راجعة إليه تعالى بل بناء على تنزيل تلك الأفراد و دواعيها فى المقام الخطابى منزلة العدم كيفا و كما و قد قيل للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققها فى ضمن جميع افرادها حسبما يقتضيه المقام و قرىء الحمد للّه بكسر الدال اتباعا لها باللام و بضم اللام اتباعا لها بالدال بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمة واحدة مثل المغيرة و منحدر الجبل.
(رَبِّ الْعالَمِينَ) بالجر على أنه صفة للّه فإن إضافته حقيقية مفيدة للتعريف على كل حال ضرورة تعين إرادة الاستمرار و قرىء منصوبا على المدح أو بما دل عليه الجملة السابقة كأنه قيل نحمد اللّه رب العالمين و لا مساغ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المحلى باللام و للزوم الفصل بين العامل و المعمول بالخبر و الرب فى الأصل مصدر بمعنى التربية و هى تبليغ الشىء إلى كماله شيئا فشيئا وصف به الفاعل مبالغة كالعدل و قيل صفة مشبهة من ربه يربه مثل نمه ينمه بعد جعله لازما بنقله إلى فعل بالضم كما هو المشهور سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه و يربيه و لا يطلق على غيره تعالى إلا مقيد كرب الدار و رب الدابة و منه قوله تعالى فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً و قوله تعالى ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ و ما فى الصحيحين من أنه صلّى اللّه عليه و سلم قال لا يقل أحدكم أطعم ربك و ضىء ربك و لا يقل أحدكم ربى و ليقل سيدى و مولاى فقد قيل إن النهى فيه للتنزيه و أما الأرباب فحيث لم يكن إطلاقه على اللّه سبحانه جاز فى إطلاقه الإطلاق و التقييد كما فى قوله تعالى أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ الآية و العالم اسم لما يعلم به كالخاتم و القالب غلب فيما يعلم به الصانع تعالى من المصنوعات أى فى القدر المشترك بين أجناسها و بين مجموعها فإنه كما يطلق على كل جنس جنس منها فى قولهم عالم الأفلاك و عالم العناصر و عالم النبات و عالم الحيوان إلى غير ذلك يطلق على المجموع أيضا كما فى قولنا العالم بجميع أجزائه محدث و قيل هو اسم لأولى العلم من الملائكة و الثقلين و تناوله لما سواهم بطريق الاستتباع و قيل أريد به الناس فقط فإن كل واحد منهم من حيث اشتماله على نظائر ما فى العالم الكبير من الجواهر و الأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما فيه عالم على حياله و لذلك أمر بالنظر فى الأنفس كالنظر فى الآفاق فقيل وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ و الأول هو الأحق الأظهر و إيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 14
الأجناس و التعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها إذ لو أفرد لربما توهم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هى أو استغراق إفراد جنس واحد على الوجه الذى أشير إليه فى تعريف الحمد و حيث صح ذلك بمساعدة التعريف نزل العالم و إن لم ينطلق على آحاد مدلوله منزلة الجمع حتى قيل أنه جمع لا واحد له من لفظه فكما أن الجمع المعرف يستغرق آحاد مفرده و إن لم يصدق عليها كما فى مثل قوله تعالى وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* أى كل محسن كذلك العالم يشمل أفراد الجنس المسمى به و إن لم ينطلق عليها كأنها آحاد مفرده التقديرى و من قضية هذا التنزيل تنزيل جمعه منزلة جمع الجمع فكما أن الأقاويل يتناول كل واحد من آحاد الأقوال يتناول لفظ العالمين كل واحد من آحاد الأجناس التى لا تكاد تحصى روى عن وهب ابن منبه أنه قال للّه تعالى ثمانية عشر ألف عالم و الدنيا عالم منها و إنما جمع بالواو و النون مع اختصاص ذلك بصفات العقلاء و ما فى حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العلم مع اعتبار تغليب العقلاء على غيرهم و اعلم أن عدم انطلاق اسم العالم على كل واحد من تلك الآحاد ليس إلا باعتبار الغلبة و الاصطلاح و أما باعتبار الأصل فلا ريب فى صحة الإطلاق قطعا لتحقق المصداق حتما فإنه كما يستدل على اللّه سبحانه بمجموع ما سواه و بكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من أجزاء ذلك المجموع و بكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته فى الكل فإن كل ما ظهر فى المظاهر مما عز و هان و حضر فى هذه المحاضر كائنا ما كان دليل لائح على الصانع المجيد و سبيل واضح إلى عالم التوحيد و أما شمول ربوبيته عز و جل للكل فمما لا حاجة إلى بيانه إذ لا شىء مما أحدق به نطاق الإمكان و الوجود من العلويات و السفليات و المجردات و الماديات و الروحانيات و الجسمانيات إلا و هو فى حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما استقر له القرار و لا اطمأنت به الدار إلا فى مطمورة العدم و مهاوى البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه و تقدس فى كل زمان يمضى و كل آن يمر و ينقضى من فنون الفيوض المتعلقة بذاته و وجوده و صفاته و كمالاته ما لا يحيط به فلك التعبير و لا يعلمه إلا العليم الخبير ضرورة أنه كما لا يستحق شىء من الممكنات بذاته الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء و إنما ذلك من جناب المبدأ الأول عز و علا فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لما أن الدوام من خصائص الوجود الواجبى و ظاهر أن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التى هى علله و شرائطه و إن كانت متناهية لوجوب تناهى ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التى لها دخل فى وجوده و هى المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا استحالة فى أن يكون لشىء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أى بقائها على العدم مع إمكان وجودها فى نفسها فإبقاء تلك الموانع التى لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشىء من وجوه غير متناهية و بالجملة فآثار تربيته عز و جل الفائضة على كل فرد من أفراد الموجودات فى كل آن من آنات الوجود غير متناهية فسبحانه سبحانه ما أعظم سلطانه لا تلاحظه العيون بأنظارها و لا تطالعه العقول بأفكارها شأنه لا يضاهى و إحسانه لا يتناهى و نحن فى معرفته حائرون و فى إقامة مراسم شكره قاصرون نسألك اللهم الهداية
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 15
إلى مناهج معرفتك و التوفيق لأداء حقوق نعمتك لا نحصى ثناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرك و نتوب إليك.
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان للّه فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يفيض على الكل بعد الخروج إلى طور الوجود من النعم فوجه تأخيرهما عن وصف الربوبية ظاهر و إن أريد ما يعم الكل فى الأطوار كلها حسبما فى قوله تعالى وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فوجه الترتيب أن التربية لا تقتضى المقارنة للرحمة فإيرادهما فى عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضل فيها فاعل بقضية رحمته السابقة من غير وجوب عليه و بأنها واقعة على أحسن ما يكون و الاقتصار على نعته تعالى بهما فى التسمية لما أنه الأنسب بحال المتبرك المستعين باسمه الجليل و الأوفق لمقاصده.
(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) صفة رابعة له تعالى و تأخيرها عن الصفات الأول مما لا حاجة إلى بيان وجهه و قرأ أهل الحرمين المحترمين ملك من الملك الذى هو عبارة عن السلطان القاهر و الإستيلاء الباهر و الغلبة التامة و القدرة على التصرف الكلى فى أمور العامة بالأمر و النهى و هو الأنسب بمقام الإضافة إلى يوم الدين كما فى قوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و قرىء ملك بالتخفيف و ملك بلفظ الماضى و مالك بالنصب على المدح أو الحال و بالرفع منونا و مضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف و ملك مضافا بالرفع و النصب و اليوم فى العرف عبارة عما بين طلوع الشمس و غروبها من الزمان و فى الشرع عما بين طلوع الفجر الثانى و غروب الشمس و المراد ههنا مطلق الوقت و الدين الجزاء خيرا كان أو شرا و منه الثانى فى المثل السائر كما تدين تدان و الأول فى بيت الحماسة
[ و لم يبق سوى العدوا
ن دناهم كما دانوا
و أما الأول فى الأول و الثانى فى الثانى فليس بجزاء حقيقة و إنما سمى به مشاكلة أو تسمية للشىء باسم مسببه كما سميت إرادة القيام و القراءة باسمهما فى قوله عز اسمه إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ و قوله تعالى فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ و لعله هو السر فى بناء المفاعلة من الأفعال التى تقوم أسبابها بمفعولاتها نحو عاقبت اللص و نظائره فإن قيام السرقة التى هى سبب للعقوبة باللص نزل منزلة قيام المسبب به و هى العقوبة فصار كأنها قامت بالجانبين و صدرت عنهما فبنيت صيغة المفاعلة الدالة على المشاركة بين الإثنين و إضافة اليوم إليه لأدنى ملابسة كإضافة سائر الظروف الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث كيوم الأحزاب و عام الفتح و تخصيصه من بين سائر ما يقع فيه من القيامة و الجمع و الحساب لكونه أدخل فى الترغيب و الترهيب فإن ما ذكر من القيامة و غيرها من مبادىء الجزاء و مقدماته و إضافة مالك إلى اليوم من إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على نهج الإتساع المبنى على إجرائه مجرى المفعول به مع بقاء المعنى على حاله كقولهم يا سارق الليلة أهل الدار أى مالك أمور العالمين كلها فى يوم الدين و خلو إضافته عن إفادة التعريف المسوغ لوقوعه صفة للمعرفة إنما هو إذا أريد به الحال أو الإستقبال و أما عند إرادة الإستمرار الثبوتى كما هو اللائق بالمقام فلا ريب فى كونها إضافة حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها فى قراءة ملك يوم الدين و يوم الدين و إن لم يكن مستمرا فى جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعه و بقائه أبدا أجرى مجرى المتحقق المستمر و يجوز أن يراد به الماضى بهذا الاعتبار كما يشهد به القراءة على صيغة الماضى و ما ذكر من إجراء الظرف مجرى المفعول به إنما هو من حيث المعنى لا من حيث الإعراب حتى يلزم كون الإضافة لفظية ألا ترى أنك تقول فى مالك عبده
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 16
أمس أنه مضاف إلى المفعول به على معنى أنه كذلك معنى لا أنه منصوب محلا و تخصيصه بالإضافة إما لتعظيمه و تهويله أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر فيه و انقطاع العلائق المجازية بين الملاك و الأملاك حينئذ بالكلية و إجراء هاتيك الصفات الجليلة عليه سبحانه تعليل لما سبق من اختصاص الحمد به تعالى المستلزم لاختصاص استحقاقه به تعالى و تمهيد لما لحق من اقتصار العبادة و الإستعانة عليه فإن كل واحدة منها مفصحة عن وجوب ثبوت كل واحد منها له تعالى و امتناع ثبوتها لما سواه أما الأولى و الرابعة فظاهر لأنهما متعرضتان صراحة لكونه تعالى ربا مالكا و ما سواه مربوبا مملوكا له تعالى و أما الثانية و الثالثة فلأن اتصافه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين و ذلك يستدعى أن يكون الكل منعما عليهم فظهر أن كل واحدة من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوت الأمور المذكورة له تعالى دلت على امتناع ثبوتها لما عداه على الإطلاق و هو المعنى بالإختصاص.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) التفات من الغيبة إلى الخطاب و تلوين للنظم من باب إلى باب جار على نهج البلاغة فى افتنان الكلام و مسلك البراعة حسبما يقتضى المقام لما أن التنقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل فى استجلاب النفوس و استمالة القلوب يقع من كل واحد من التكلم و الخطاب و الغيبة إلى كل واحد من الآخرين كما فى قوله عز و جل اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً الآية و قوله تعالى حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ إلى غير ذلك من الإلتفاتات الواردة فى التنزيل لأسرار تقتضيها و مزايا تستدعيها و مما استأثر به هذا المقام الجليل من النكت الرائقة الدالة على أن تخصيص العبادة و الإستعانة به تعالى لما أجرى عليه من النعوت الجليلة التى أوجبت له تعالى أكمل تميز و أتم ظهور بحيث تبدل خفاء الغيبة بجلاء الحضور فاستدعى استعمال صيغة الخطاب و الإيذان بأن حق التالى بعد ما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب للمعبودية و امتيازه بذاته عما سواه بالكلية و استبداده بجلائل الصفات و أحكام الربوبية المميزة له عن جميع أفراد العالمين و افتقار الكل إليه فى الذات و الوجود ابتداء و بقاء على التفصيل الذى مرت إليه الإشارة أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان و ينتقل من عالم الغيبة إلى معالم الشهود و يلاحظ نفسه فى حظائر القدس حاضرا فى محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه ماثل بين يديه و هو يدعو بالخضوع و الإخبات و يقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا يا من هذه شئون ذاته و صفاته نخصك بالعبادة و الإستعانة فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل من استحقاق الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان و لعل هذا هو السر فى اختصاص السورة الكريمة بوجوب القراءة فى كل ركعة من الصلاة التى هى مناجاة العبد لمولاه و مئنة للتبتل إليه بالكلية و (إيا) ضمير منفصل منصوب و ما يلحقه من الكاف و الياء و الهاء حروف زيدت لتعيين الخطاب و التكلم و الغيبة لا محل لها من الإعراب كالتاء فى أنت و الكاف فى أرأيتك و ما ادعاه الخليل من الإضافة محتجا عليه بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه و إيا الشواب فمما لا يعول عليه و قيل هى الضمائر و إيا دعامة لها لتصيرها منفصلة و قيل الضمير هو المجموع و قرىء إياك بالتخفيف و بفتح الهمزة و التشديد و هياك بقلب الهمزة هاء و العبادة أقصى غاية التذلل و الخضوع و منه طريق معبد أى مذلل و العبودية أدنى منها و قيل العبادة فعل ما يرضى به اللّه و العبودية
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 17
الرضى بما فعل اللّه تعالى و الاستعانة طلب المعونة على الوجه الذى مر بيانه و تقديم المفعول فيهما لما ذكر من القصر و التخصيص كما فى قوله تعالى وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ مع ما فيه من التعظيم و الاهتمام به قال ابن عباس رضى اللّه عنهما معناه نعبدك و لا نعبد غيرك و تكرير الضمير المنصوب للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة و الاستعانة و لإبراز الاستلذاذ بالمناجاة و الخطاب و تقديم العبادة لما أنها من مقتضيات مدلول الاسم الجليل و إن ساعده الصفات المجراة عليه أيضا و أما الاستعانة فمن الأحكام المبنية على الصفات المذكورة و لأن العبادة من حقوق اللّه تعالى و الاستعانة من حقوق المستعين و لأن العبادة واجبة حتما و الاستعانة تابعة للمستعان فيه فى الوجوب و عدمه و قيل لأن تقديم الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة و القبول هذا على تقدير كون إطلاق الاستعانة على المفعول فيه ليتناول كل مستعان فيه كما قالوا و قد قيل إنه لما أن المسئول هو المعونة فى العبادة و التوفيق لإقامة مراسمها على ما ينبغى و هو اللائق بشأن التنزيل و المناسب لحال الحامد فإن استعانته مسبوقة بملاحظة فعل من أفعاله ليستعينه تعالى فى إيقاعه و من البين أنه عند استغراقه فى ملاحظة شئونه تعالى و اشتغاله بأداء ما يوجبه تلك الملاحظة من الحمد و الثناء لا يكاد يخطر بباله من أفعاله و أحواله إلا الإقبال الكلى عليه و التوجه التام إليه و لقد فعل ذلك بتخصيص العبادة به تعالى أولا و باستدعاء الهداية إلى ما يوصل إليه آخرا فكيف يتصور أن يشتغل فيما بينهما بما لا يعنيه من أمور دنياه أو بما يعمها و غيرها كأنه قيل و إياك نستعين فى ذلك فإنا غير قادرين على أداء حقوقه من غير إعانة منك فوجه الترتيب حينئذ واضح و فيه من الإشعار بعلو رتبة عبادته تعالى و عزة منالها و بكونها عند العابد أشرف المباغى و المقاصد و بكونها من مواهبه تعالى لا من أعمال نفسه و من الملائمة لما يعقبه من الدعاء ما لا يخفى و قيل الواو للحال أى إياك نعبد مستعينين بك و إيثار صيغة المتكلم مع الغير فى الفعلين للإيذان بقصور نفسه و عدم لياقته بالوقوف فى مواقف الكبرياء منفردا و عرض العبادة و استدعاء المعونة و الهداية مستقلا و أن ذلك إنما يتصور من عصابة هو من جملتهم و جماعة هو من زمرتهم كما هو ديدن الملوك أو للإشعار باشتراك سائر الموحدين له فى الحال العارضة له بناء على تعاضد الأدلة الملجئة إلى ذلك و قرىء نستعين بكسر النون على لغة بنى تميم.
(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إفراد لمعظم أفراد المعونة المسئولة بالذكر و تعيين لما هو الأهم أو بيان لها كأنه قيل كيف أعينكم فقيل اهدنا و الهداية دلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية و لذلك اختصت بالخير و قوله تعالى فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وارد على نهج التهكم و الأصل تعديته بإلى و اللام كما فى قوله تعالى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ فعومل معاملة اختار فى قوله تعالى وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ و عليه قوله تعالى لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا و هداية اللّه تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تحصر منحصرة فى أجناس مترتبة منها أنفسية كإفاضة القوى الطبيعية و الحيوانية التى بها يصدر عن المرء أفاعيله الطبيعية و الحيوانية و القوى المدركة و المشاعر الظاهرة و الباطنة التى بها يتمكن من إقامة مصالحه المعاشية و المعادية و منها آفاقية فإما تكوينية معربة عن الحق بلسان الحال و هى نصب الأدلة المودعة فى كل فرد من أفراد العالم حسبما لوح به فيما سلف و إما تنزيلية مفصحة عن تفاصيل الأحكام النظرية و العملية بلسان المقال بإرسال الرسل
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 18
و إنزال الكتب المنطوية على فنون الهدايات التى من جملتها الإرشاد إلى مسلك الاستدلال بتلك الأدلة التكوينية الآفافية و الأنفسية و التنبيه على مكانها كما أشير إليه مجملا فى قوله تعالى وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ و فى قوله عز و علا إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ و منها الهداية الخاصة و هى كشف الأسرار على قلب المهدى بالوحى أو الإلهام و لكل مرتبة من هذه المراتب صاحب ينتحيها و طالب يستدعيها و المطلوب إما زيادتها كما فى قوله تعالى وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً و إما الثبات عليها كما روى عن على و أبى رضى اللّه عنهما اهدنا ثبتنا و لفظ الهداية على الوجه الأخير مجاز قطعا و أما على الأول فإن اعتبر مفهوم الزيادة داخلا فى المعنى المستعمل فيه كان مجازا أيضا و إن اعتبر خارجا عنه مدلولا عليه بالقرائن كان حقيقة لأن الهداية الزائدة هداية كما أن العبادة الزائدة عبادة فلا يلزم الجمع بين الحقيقة و المجاز و قرىء أرشدنا و الصراط الجادة أصله السين قلبت صادا لمكان الطاء كمصيطر فى مسيطر من سرط الشىء إذا ابتلعه سميت به لأنها تسترط السابلة إذا سلكوها كما سميت لقما لأنها تلتقمهم و قد تشم الصاد صوت الزاى تحريا للقرب من المبدل منه و قد قرىء بهن جميعا و فصحاهن إخلاص الصاد و هى لغة قريش و هى الثابتة فى الإمام و جمعه صرط ككتاب و كتب و هو كالطريق و السبيل فى التذكير و التأنيث و المستقيم المستوى و المراد به طريق الحق و هى الملة الحنيفية السمحة المتوسطة بين الإفراط و التفريط.
(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بدل من الأول بدل الكل و هو فى حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة و فائدته التأكيد و التنصيص على أن طريق الذين أنعم اللّه عليهم و هم المسلمون هو العلم فى الاستقامة و المشهود له بالاستواء يحيث لا يذهب الوهم عند ذكر الطريق المستقيم إلا إليه و إطلاق الإنعام لقصد الشمول فإن نعمة الإسلام عنوان النعم كلها فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها و قيل المراد بهم الأنبياء عليهم السلام و لعل الأظهر أنهم المذكورون فى قوله عز قائلا فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ بشهادة ما قبله من قوله تعالى وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً و قيل هم أصحاب موسى و عيسى عليهما السلام قبل النسخ و التحريف و قرىء صراط من أنعمت عليهم و الإنعام إيصال النعمة و هى فى الأصل الحالة التى يستلذها الإنسان من النعمة و هى اللين ثم أطلقت على ما تستلذه النفس من طيبات الدنيا. و نعم اللّه تعالى مع استحالة إحصائها ينحصر أصولها فى دنيوى و أخروى و الأول قسمان وهبى و كسبى و الوهبى أيضا قسمان روحانى كنفخ الروح فيه و إمداده بالعقل و ما يتبعه من القوى المدركة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعم جليلة فى أنفسها و جسمانى كتخليق البدن و القوى الحالة فيه و الهيئات العارضة له من الصحة و سلامة الأعضاء و الكسبى تخلية النفس عن الرذائل و تحليتها بالأخلاق السنية و الملكات البهية و تزيين البدن بالهيئات المطبوعة و الحلى المرضية و حصول الجاه و المال. و الثانى مغفرة ما فرط منه و الرضى عنه و تبوئته فى أعلى عليين مع المقربين و المطلوب هو القسم الأخير و ما هو ذريعة إلى نيله من القسم الأول اللهم ارزقنا ذلك بفضلك العظيم و رحمتك الواسعة. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ) صفة للموصول على أنه عبارة عن إحدى الطوائف المذكورة المشهورة بالإنعام عليهم و باستقامة المسلك و من ضرورة
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 19