کتابخانه تفاسیر
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 180
[سورة البقرة (2): الآيات 155 الى 157]
تسع و ثلاثين و تسعمائة أنى أزور قبور شهداء أحد رضى اللّه تعالى عنهم أجمعين و أنا أتلوا هذه الآية و ما فى سورة آل عمران و أرددهما متفكرا فى أمرهم و فى نفسى أن حياتهم روحانية لا جسمانية فبينما أنا على ذلك إذ رأيت شابا منهم قاعدا فى قبره تام الجسد كامل الخلقة فى أحسن ما يكون من الهيئة و المنظر ليس عليه شىء من اللباس قد بدا منه ما فوق السرة و الباقى فى القبر خلا أنى أعلم يقينا أن ذلك أيضا كما ظهر و إنما لا يظهر لكونه عورة فنظرت إلى وجهه فرأيته ينظر إلى متبسما كأنه ينبهنى على أن الأمر بخلاف رأيى فسبحان من علت كلمته و جلت حكمته و قيل الآية نزلت فى شهداء بدر و كانوا أربعة عشر و فيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت دراكة و عليه جمهور الصحابة و التابعين رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين و به نطقت الآيات و السنن و على هذا فتخصيص الشهداء بذلك لما يستدعيه مقام التحريض على مباشرة مبادى الشهادة و لاختصاصهم بمزيد القرب من اللّه عز و علا
(وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم أتصبرون على البلاء و تستسلمون للقضاء (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ) أى بقليل من ذلك فإن ما وقاهم عنه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة و كذا ما يصيب به معانديهم و إنما أخبر به قبل الوقوع ليوطنوا عليه نفوسهم و يزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به و ليعلموا أنه شىء يسير له عاقبة حميدة (وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ) عطف على شىء و قيل على الخوف و عن الشافعى رحمه اللّه الخوف خوف اللّه و الجوع صوم رمضان و نقص من الأموال الزكاة و الصدقات و من الأنفس الأمراض و من الثمرات موت الأولاد و عن النبى صلّى اللّه عليه و سلم إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة أقبضتم روح ولد عبدى فيقولون نعم فيقول عز و جل أقبضتم ثمرة قلبه فيقولون نعم فيقول اللّه تعالى ماذا قال عبدى فيقولون حمدك و استرجع فيقول اللّه عز و علا ابنوا لعبدى بيتا فى الجنة و سموه بيت الحمد (وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ)
(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلم أو لكل من يتأتى منه البشارة و المصيبة ما يصيب الإنسان من مكروه لقوله عليه السلام كل شىء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة و ليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب بأن يتصور ما خلق له و أنه راجع إلى ربه و يتذكر نعم اللّه تعالى عليه و يرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون ذلك على نفسه و يستسلم و المبشر به محذوف دل عليه ما بعده
(أُولئِكَ) إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت و معنى البعد فيه للإيذان بعلور تبتهم (عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 181
[سورة البقرة (2): آية 158]
رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ) الصلاة من اللّه سبحانه المغفرة و الرأفة و جمعها للتنبيه على كثرتها و تنوعها و الجمع بينها و بين الرحمة للمبالغة كما فى قوله تعالى رَأْفَةً وَ رَحْمَةً لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ* و التنوين فيهما للتفخيم و التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم أى أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجليلة عليهم فنون الرأفة الفائضة من مالك أمورهم و مبلغهم إلى كمالاتهم اللائقة بهم و عن النبى صلّى اللّه عليه و سلم من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته و أحسن عقباه و جعل له خلفا صالحا يرضاه (وَ أُولئِكَ) إشارة إليهم إما بالاعتبار السابق و التكرير لإظهار كمال العناية بهم و إما باعتبار حيازتهم لما ذكر من الصلوات و الرحمة المترتب على الاعتبار الأول فعلى الأول المراد بالاهتداء فى قوله عز و جل (هُمُ الْمُهْتَدُونَ) هو الاهتداء للحق و الصواب مطلقا لا الاهتداء لما ذكر من الاسترجاع و الاستسلام خاصة لما أنه متقدم عليهما فلا بد لتأخيره عما هو نتيجة لهما من داع يوجبه و ليس بظاهر و الجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله كأنه قيل و أولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق و صواب و لذلك استرجعوا و استسلموا لقضاء اللّه تعالى و على الثانى هو الاهتداء و الفوز بالمطالب و المعنى أولئك هم الفائزون بمباغيهم الدينية و الدنيوية فإن من نال رأفة اللّه تعالى و رحمته لم يفته مطلب
(إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ) علمان لجبلين بمكة المعظمة كالصمان و المقطم (مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) من أعلام مناسكه جمع شعيرة و هى العلامة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحج فى اللغة القصد و الاعتمار الزيارة غلبا فى الشريعة على قصد البيت و زيارته على الوجهين المعروفين كالبيت و النجم فى الأعيان و حيث أظهر البيت وجب تجريده عن التعلق به (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أى فى أن يطوف بهما أصله يتطوف قلبت التاء طاء فأدغمت الطاء فى الطاء و فى إيراد صيغة التفعل إيذان بأن من حق الطائف أن يتكلف فى الطواف و يبذل فيه جهده و هذا الطواف واجب عندنا و الشافعى و عن مالك رحمهما اللّه أنه ركن و إيراده بعدم الجناح المشعر بالتخيير لما أنه كان فى عهد الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف و على المروة آخر اسمه نائلة و كانوا إذا سعوا بينهما مسحوا بهما فلما جاء الإسلام و كسر الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت و قيل هو تطوع و يعضده قراءة ابن مسعود فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما (وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أى فعل طاعة فرضا كان أو نفلا أو زاد على ما فرض عليه من حج أو عمرة أو طواف و خيرا حينئذ نصب على أنه صفة لمصدر محذوف أى تطوعا خيرا أو على حذف الجار و إيصال الفعل إليه أو على تضمين معنى فعل و قرىء يطوع و أصله يتطوع مثل يطوف و قرىء و من يتطوع بخير (فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ) أى مجاز على الطاعة عبر عن ذلك بالشكر مبالغة فى الإحسان إلى العباد (عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم و كيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا و هو علة لجواب الشرط قائم مقامه كأنه قيل و من تطوع خيرا جازاه اللّه و أثابه فإن اللّه شاكر عليم
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 182
[سورة البقرة (2): الآيات 159 الى 160]
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) قيل نزلت فى أحبار اليهود الذين كتموا ما فى التوراة من نعوت النبى صلّى اللّه عليه و سلم و غير ذلك من الأحكام و عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الحسن و السدى و الربيع و الأصم أنها نزلت فى أهل الكتاب من اليهود و النصارى و قيل نزلت فى كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل و الأقرب هو الأول فإن عموم الحكم لا يأبى خصوص السبب و الكتم و الكتمان ترك إظهار الشىء قصدا مع مساس الحاجة إليه و تحقق الداعى إلى إظهاره و ذلك قد يكون بمجرد ستره و إخفائه و قد يكون بإزالته و وضع شىء آخر فى موضعه و هو الذى فعله هؤلاء (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) من الآيات الواضحة الدالة على أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلم (وَ الْهُدى) أى و الآيات الهادية إلى كنه أمره و وجوب اتباعه و الإيمان به عبر عنها بالمصدر مبالغة و لم يجمع مراعاة للأصل و هى المرادة بالبينات أيضا و العطف لتغاير العنوان كما فى قوله عز و جل هدى للناس و بينات الخ و قيل المراد بالهدى الأدلة العقلية و يأباه الإنزال و الكتم (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) متعلق بيكتمون و المراد بالناس الكل لا الكاتمون فقط و اللام متعلقة بييناه و كذا الظرف فى قوله تعالى (فِي الْكِتابِ) فإن تعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب فى جوازه أو الأخير متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أى كائنا فى الكتاب و تبيينه لهم تلخيصه و إيضاحه بحيث يتلقاه كل أحد منهم من غير أن يكون له فيه شبهة و هذا عنوان مغاير لكونه بينا فى نفسه و هدى مؤكد لقبح الكتم أو تفهيمه لهم بواسطة موسى عليه السلام و الأول أنسب بقوله تعالى فِي الْكِتابِ و المراد بكتمه إزالته و وضع غيره فى موضعه فإنهم محوا نعته عليه الصلاة و السلام و كتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه فى تفسير قوله عز و علا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ الخ (أُولئِكَ) إشارة إليهم باعتبار ما وصفوا به للإشعار بعليته لما حاق بهم و ما فيه من معنى البعد للإيذان يترامى أمرهم و بعد منزلتهم فى الفساد (يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) أى يطردهم و يبعدهم من رحمته و الالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات الجامع للصفات لتربية المهابة و إدخال الروعة و الإشعار بأن مبدأ صدور اللعن عنه سبحانه صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال و التبيين من وصف الجمال و الرحمة (وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أى الذين يتأتى منهم اللعن أى الدعاء عليهم باللعن من الملائكة و مؤمنى الثقلين و المراد بيان دوام اللعن و استمراره و عليه يدور الاستثناء المتصل فى قوله تعالى
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أى عن الكتمان (وَ أَصْلَحُوا) أى ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرف و كتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف (وَ بَيَّنُوا) للناس معانيه فإنه غير الإصلاح المذكور أو بينوا لهم ما وقع منهم أولا و آخرا فإنه أدخل فى إرشاد الناس إلى الحق و صرفهم عن طريق الضلال الذى كانوا أوقعوهم فيه أو بينوا توبتهم ليمحوا به سمة ما كانوا فيه و يقتدى بهم أضرابهم
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 183
[سورة البقرة (2): الآيات 161 الى 163]
و حيث كانت هذه التوبة المقرونة بالإصلاح و التبيين مستلزمة للتوبة عن الكفر مبنية عليها لم يصرح بالإيمان و قوله تعالى (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة للإشعار بعليته للحكم و الفاء لتأكيد ذلك (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أى بالقبول و إفاضة المغفرة و الرحمة و قوله تعالى (وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أى المبالغ فى قبول التوب و نشر الرحمة اعتراض تذييلى محقق لمضمون ما قبله و الالتفات إلى التكلم للافتنان فى النظم الكريم مع ما فيه من التلويح و الرمز إلى ما مر من اختلاف المبدأ فى فعليه تعالى السابق و اللاحق
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) جملة مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء و تأكيد دوامه و استمراره على غير التائبين حسبما يفيده الكلام و الاقتصار على ذكر الكفر فى الصلة من غير تعرض لعدم التوبة و الإصلاح و التبيين مبنى على ما أشير إليه فكما أن وجود تلك الأمور الثلاثة مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر كذلك وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعا أى إن الذين استمروا على الكفر المستتبع للكتمان و عدم التوبة (وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ) لا يرعوون عن حالتهم الأولى (أُولئِكَ) الكلام فيه كما فيما قبله (عَلَيْهِمْ) أى مستقر عليهم (لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ) ممن يعتد بلعنتهم و هذا بيان لدوامها الثبوتى بعد بيان دوامها التجددى و قيل الأول لعنتهم أحياء و هذا لعنتهم أمواتا و قرىء و الملائكة و الناس أجمعون عطفا على محل اسم اللّه لأنه فاعل فى المعنى كقولك أعجبنى ضرب زيد و عمرو تريد من أن ضرب زيد و عمر و كأنه قيل أولئك عليهم أن لعنهم اللّه و الملائكة الخ و قيل هو فاعل لفعل مقدر أى و يلعنهم الملائكة
(خالِدِينَ فِيها) أى فى اللعنة أو فى النار على أنها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها و تهويلا لأمرها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيان كثرته من حيث الكم أو حال من الضمير فى خالدين على وجه التداخل أو من الضمير فى عليهم على طريقة الترادف (وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ) عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه و إيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفى و استمراره أى لا يمهلون و لا يؤجلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة
(وَ إِلهُكُمْ) خطاب عام لكافة الناس أى المستحق منكم للعبادة (إِلهٌ واحِدٌ) أى فرد فى الإلهية لا صحة لتسمية غيره إلها أصلا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو اعتراض و أيا ما كان فهو مقرر للوحدانية و مزيح لما عسى يتوهم أن فى الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) خبران آخران للمبتدأ أو لمبتدأ محذوف و هو تقرير للتوحيد فإنه تعالى حيث كان موليا لجميع النعم أصولها و فروعها جليلها و دقيقها و كان ما سواه كائنا ما كان مفتقرا إليه فى وجوده و ما يتفرع عليه من كمالاته تحققت وحدانيته بلا ريب و انحصر استحقاق العبادة فيه تعالى قطعا قيل كان للمشركين
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 184
[سورة البقرة (2): آية 164]
حول الكعبة المكرمة ثلثمائة و ستون صنما فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا و قالوا إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) أى فى إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من التعاجيب العبر و بدائع صنائع يعجز عن فهمها عقول البشر و جمع السموات لما هو المشهور من أنها طبقات متخالفة الحقائق دون الأرض (وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ) أى اعتقابهما و كون كل منهما خلفا للآخر كقوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً أو اختلاف كل منهما فى أنفسهما ازديادا و انتقاصا على ما قدره اللّه تعالى (وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) عطف على ما قبله و تأنيثه إما بتأويل السفينة أو بأنه جمع فإن ضمة الجمع مغايرة لضمة الواحد فى التقدير إذ الأولى كما فى حمر و الثانية كما فى قفل و قرىء بضم اللام (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أى متلبسة بالذى ينفعهم مما يحمل فيها من أنواع المنافع أو بنفعهم (وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) عطف على الفلك و تأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفصيل و قيل المقصود الاستدلال بالبحر و أحواله و تخصيص الفلك بالذكر لأنه سبب الخوض فيه و الاطلاع على عجائبه و لذلك قدم على ذكر المطر و السحاب لأن منشأهما البحر فى غالب الأمر و من الأولى ابتدائية و الثانية بيانية أو تبعيضية و أياما كان فتأخيرها لما مر مرارا من التشويق و المراد بالسماء الفلك أو السحاب أو جهة العلو (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بأنواع النبات و الأزهار و ما عليها من الأشجار (بَعْدَ مَوْتِها) باستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها كما يوزن به إيراد الموت فى مقابلة الإحياء (وَ بَثَّ فِيها) أى فرق و نشر (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) من العقلاء و غيرهم و الجملة معطوفة على أنزل داخلة تحت حكم الصلة و قوله تعالى فَأَحْيا الخ متصل بالمعطوف عليه بحيث كانا فى حكم شىء واحد كأنه قيل و ما أنزل فى الأرض من ماء و بث فيها الخ أو على أحيا بحذف الجار و المجرور العائد إلى الموصول و إن لم تتحقق الشرائط المعهودة كما فى قوله
[ و إن لسانى شهدة يشتفى بها
و لكن على من صبه اللّه علقم ]
أى علقم عليه و قوله
[ لعل الذى أصعدتنى أن يردنى
إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره ]
على معنى فأحيا بالماء الأرض و بث فيها من كل دابة فإنهم ينمون بالخصب و يعيشون بالحيا (وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ) عطف على ما أنزل أى تقلييها من مهب إلى آخر أو من حال إلى أخرى و قرىء على الإفراد (وَ السَّحابِ) عطف على تصريف أو الرياح و هو اسم جنس واحده سحابة سمى بذلك لا نسحابه فى الجو (الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ) صفة للسحاب باعتبار لفظه و قد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما فى قوله تعالى سَحاباً ثِقالًا و تسخيره تقليبه فى الجو بواسطة الرياح حسبما تقتضيه مشيئة اللّه تعالى و لعل تأخير تصريف الرياح و تسخير السحاب فى الذكر عن جريان الفلك و إنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجى لما مر فى قصة البقرة من الإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة فى
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 185
[سورة البقرة (2): آية 165]
كونها آية و لو روعى الترتيب الخارجى لربما توهم كون المجموع المترتب بعضه على بعض آية واحدة (لَآياتٍ) اسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها و التنكير للتفخيم كما و كيفا أى آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة و الحكمة الباهرة و الرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به سبحانه (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أى يتفكرون فيها و ينظرون إليها بعيون العقول و فيه تعريض بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبى صلّى اللّه عليه و سلم آية تصدقه فى قوله تعالى وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و تسجيل عليهم بسخافة العقول و إلا فمن تأمل فى تلك الآيات وجد كلا منها ناطقة بوجوده تعالى و وحدانيته و سائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى و استغنى بها عن سائرها فإن كل واحد من الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة و أحكام مخصوصة من غير أن تقتضى ذاته وجوده فضلا عن وجوده على نمط معين مستتبع لحكم مستقل فإذن لا بدله حتما من موجد قادر حكيم بوجده حسبما تقتضيه حكمته و تستدعيه مشيئته متعال عن معارضة الغير إذ لو كان معه آخر يقدر على ما يقدر عليه لزم إما اجتماع المؤثرين على أثر واحد أو التمانع المؤدى إلى فساد العالم
(وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) بيان لكمال ركاكة آراء المشركين أثر تقرير وحدانيته سبحانه و تحرير الآيات الباهرة الملجئة للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضة باستحالة أن يشاركه شىء من الموجودات فى صفة من صفات الكمال فضلا عن المشاركة فى صفة الألوهية و الكلام فى إعرابه كما فصل فى قوله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الخ و مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق بيتخذ أى من الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذى ذكرت شئونه الجليلة و إيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غب تعيينه بالصفات (أَنْداداً) أى أمثالا و هم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون و ما يذرون لا سيما فى الأوامر و النواهى كما يفصح عنه ما سيأتى من وصفهم بالتبرى من المتبعين و قيل هى الأصنام و إرجاع ضمير العقلاء إليها فى قوله عز و علا (يُحِبُّونَهُمْ) مبنى على آرائهم الباطلة فى شأنها من وصفهم بما لا يوصف به إلا العقلاء و المحبة ميل القلب من الحب استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها و رسخ فيها و الفعل منها حب على حدمد لكن الاستعمال المستفيض على أحب حبا و محبة فهو محب و ذاك محبوب و محب قليل و حاب أقل منه و محبة العبد للّه سبحانه إرادة طاعته فى أوامره و نواهيه و الاعتناء بتحصيل مراضيه فمعنى يحبونهم يطيعونهم و يعظمونهم و الجملة فى حيز النصب إما صفة لأندادا أو حالا من فاعل يتخذ و جمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراده باعتبار لفظها (كَحُبِّ اللَّهِ) مصدر تشبيهى أى نعت لمصدر مؤكد للفعل السابق و من قضية كونه مبنيا للفاعل كونه أيضا كذلك و الظاهر اتحاد فاعلهما فإنهم كانوا يقرون به تعالى أيضا و يتقربون إليه فالمعنى يحبونهم حبا كائنا كحبهم للّه تعالى أى يسوون بينه تعالى و بينهم فى الطاعة و التعظيم و قيل فاعل الحب المذكور هم
ارشاد العقل السليم الى مزايا القرآن الكريم، ج1، ص: 186
[سورة البقرة (2): آية 166]
المؤمنون فالمعنى حبا كائنا كحب المؤمنين له تعالى فلا بد من اعتبار المشابهة بينهما فى أصل الحب لا فى وصفه كما أو كيفا لما سيأتى من التفاوت البين و قيل هو مصدر من المبنى للمفعول أى كما يحب اللّه تعالى و يعظم و إنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس و أنت خبير بأنه لا مشابهة بين محبيتهم لأندادهم و بين محبوبيته تعالى فالمصير حينئذ ما أسلفناه فى تفسير قوله عز قائلا كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ و إظهار الاسم الجليل فى مقام الإضمار لتربية المهابة و تفخيم المضاف و إبانة كمال قبح ما ارتكبوه (وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) جملة مبتدأة جىء بها توطئة لما يعقبها من بيان رخاوة حبهم و كونه حسرة عليهم و المفضل عليه محذوف أى المؤمنون أشد حبا له تعالى منهم لأندادهم و مآله أن حب أولئك له تعالى أشد من حب هؤلاء لأندادهم فيه من الدلالة على كون الحب مصدرا من المبنى للفاعل ما لا يخفى و إنما لم يجعل المفضل عليه حبهم للّه تعالى لما أن المقصود بيان انقطاعه و انقلابه بغضا و ذلك إنما يتصور فى حبهم لأندادهم لكونه منوطا بمبان فاسدة و مباد موهومة يزول بزوالها. قيل و لذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد إلى اللّه سبحانه و كانوا يعبدون صنما أياما فإذا وجدوا آخر رفضوه إليه و قد أكلت باهلة إلهها عام المجاعة و كان من حيس و أنت خبير بأن مدار ذلك اعتبار اختلال حبهم لها فى الدنيا و ليس الكلام فيه بل فى انقطاعه فى الآخرة عند ظهور حقيقة الحال و معاينة الأهوال كما سيأتى بل اعتباره مخل بما يقتضيه مقام المبالغة فى بيان كمال قبح ما ارتكبوه و غاية عظم ما اقترفوه و إيثار الإظهار فى موضع الإضمار لتفخيم الحب و الإشعار بعلته (وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى باتخاذ الأنداد و وضعها موضع المعبود (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) المعد لهم يوم القيامة أى لو علموا إذا عاينوه و إنما أوثر صيغة المستقبل لجريانها مجرى الماضى فى الدلالة على التحقق فى إخبار علام الغيوب (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد مفعولى يرى (وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) عطف عليه و فائدته المبالغة فى تهويل الخطب و تفظيع الأمر فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه و جواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان إما لعدم الإحاطة بكنهه و إما لضيق العبارة عنه و إما لإيحاب ذكره ما لا يستطيعه المعبر أو المستمع من الضجر و التفجع عليه أى لو علموا إذ رأوا العذاب قد حل بهم و لم ينقذهم منه أحد من أندادهم أن القوة للّه جميعا و لا دخل لأحد فى شىء أصلا لوقعوا من الحسرة و الندم فيما لا يكاد يوصف و قرىء و لو ترى بالتاء الفوقانية على أن الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب فالجواب حينئذ لرأيت أمرا لا يوصف من الهول و الفظاعة و قرىء إذ يرون على البناء للمفعول (وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) على الاستئناف و إضمار القول