کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل
الجزء الأول
مقدمة
(2) سورة البقرة
الجزء الثاني
(3) سورة آل عمران
(4) سورة النساء
(5) سورة المائدة
(6) سورة الأنعام
الجزء الثالث
(7) سورة الأعراف
(8) سورة الأنفال
(9) سورة براءة
(10) سورة يونس
(11) سورة هود
(12) سورة يوسف
(13) سورة الرعد
(14) سورة إبراهيم
(15) سورة الحجر
(16) سورة النحل
(17) سورة بني إسرائيل
(18) سورة الكهف
الجزء الرابع
(19) سورة مريم
(20) سورة طه
(21) سورة الأنبياء
(22) سورة الحج
(23) سورة المؤمنون
(24) سورة النور
(25) سورة الفرقان
(26) سورة الشعراء
(27) سورة النمل
(28) سورة القصص
(29) سورة العنكبوت
(30) سورة الروم
(31) سورة لقمان
(32) سورة السجدة
(33) سورة الأحزاب
(34) سورة سبأ
(35) سورة الملائكة
(36) سورة يس
الجزء الخامس
(37) سورة الصافات
(38) سورة ص
(39) سورة الزمر
(40) سورة المؤمن
(41) سورة فصلت
(42) سورة حم عسق
(43) سورة الزخرف
(44) سورة الدخان
(45) سورة الجاثية
(46) سورة الأحقاف
(47) سورة محمد صلى الله عليه و سلم
(48) سورة الفتح
(49) سورة الحجرات
(50) سورة ق
(51) سورة و الذاريات
(52) سورة و الطور
(53) سورة و النجم
(54) سورة القمر
(55) سورة الرحمن
(56) سورة الواقعة
(57) سورة الحديد
(58) سورة المجادلة
(59) سورة الحشر
(67) سورة الملك
(68) سورة ن
(69) سورة الحاقة
(70) سورة المعارج
(71) سورة نوح
(72) سورة الجن
(73) سورة المزمل
(74) سورة المدثر
(75) سورة القيامة
(76) سورة الإنسان
(77) سورة المرسلات
(78) سورة النبأ
(79) سورة النازعات
(80) سورة عبس
(83) سورة المطففين
(89) سورة الفجر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 25
(1) سورة الفاتحة
مكية و آيها سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم و تسمى أم القرآن، لأنها مفتتحة و مبدؤه فكأنها أصله و منشؤه، و لذلك تسمى أساسا. أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على اللّه سبحانه و تعالى، و التعبد بأمره و نهيه و بيان وعده و وعيده. أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، و الأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم و الاطلاع على مراتب السعداء و منازل الأشقياء. و سورة الكنز و الوافية و الكافية لذلك. و سورة الحمد و الشكر و الدعاء. و تعليم المسألة لاشتمالها عليها و الصلاة لوجوب قراءتها أو استحبابها فيها. و الشافية و الشفاء
لقوله عليه الصلاة و السلام : «هي شفاء من كل داء»
. و «السبع المثاني» لأنها سبع آيات بالاتفاق، إلا أن منهم من عد التسمية دون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، و منهم من عكس، و تثنى في الصلاة، أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، و بالمدينة حين حولت القبلة، و قد صح أنها مكية لقوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ، و هو مكي بالنص.
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من الفاتحة، و من كل سورة، و عليه قراءة مكة و الكوفة و فقهاؤهما و ابن المبارك رحمه اللّه تعالى و الشافعي. و خالفهم قراء المدينة و البصرة و الشام و فقهاؤها و مالك و الأوزاعي، و لم ينص أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده.
و سئل محمد بن الحسن عنها فقال: ما بين الدفتين كلام اللّه تعالى
. و لنا أحاديث كثيرة: منها
ما روى أبو هريرة رضي اللّه تعالى عنه، أنه عليه الصلاة و السلام قال : «فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهن بسم اللّه الرحمن الرحيم»
. و
قول أم سلمة رضي اللّه عنها «قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الفاتحة وعد «بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين» آية
و من أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها، و الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه سبحانه و تعالى، و الوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين. و الباء متعلقة بمحذوف تقديره:
بسم اللّه أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء. و كذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له، و ذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه و يدل عليه. أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه، و تقديم المعمول هاهنا أوقع كما في قوله:
بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها و قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأنه أهم و أدل على الاختصاص، و أدخل في التعظيم و أوفق للوجود فإن اسمه سبحانه و تعالى مقدم على القراءة، كيف لا و قد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم و لا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى
لقوله عليه الصلاة و السلام «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر»
، و قيل الباء للمصاحبة، و المعنى متبركا باسم اللّه تعالى أقرأ، و هذا و ما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه، و يحمد على نعمه، و يسأل من فضله، و إنما كسرت و من حق الحروف المفردة أن تفتح، لاختصاصها باللزوم الحرفية و الجر، كما كسرت لام الأمر و لام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما و بين لام الابتداء، و الاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال، و بنيت أوائلها على السكون، و أدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لأن من دأبهم أن يبتدئوا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 26
بالمتحرك و يقفوا على الساكن. و يشهد له تصريفه على أسماء و أسامي و سمى و سميت و مجيء سمى كهدى لغة فيه قال:
و اللّه أسماك سمى مباركا
آثرك اللّه به إيثاركا
و القلب بعيد غير مطرد، و اشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى و شعار له. و من السمة عند الكوفيين، و أصله و سم حذفت الواو و عوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله. ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم، و من لغاته سم و سم قال:
بسم الذي في كلّ سورة سمه و الاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة، و يختلف باختلاف الأمم و الأعصار، و يتعدد تارة و يتحد أخرى. و المسمى لا يكون كذلك، و إن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى و قوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه و تعالى و صفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث و سوء الأدب. أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما و إن أريد به الصفة، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري، انقسم انقسام الصفة عنده: إلى ما هو نفس المسمى، و إلى ما هو غيره، و إلى ما ليس هو و لا غيره. و إنما قال بسم اللّه و لم يقل باللّه، لأن التبرك و الاستعانة بذكر اسمه. أو للفرق بين اليمين و التيمن. و لم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال و طولت الباء عوضا عنها. و اللّه أصله إله، فحذفت الهمزة و عوض عنها الألف و اللام و لذلك قيل:
يا اللّه، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق. و الإله في الأصل لكل معبود، ثم غلب على المعبود بالحق.
و اشتقاقه من أله ألهة و ألوهة و ألوهية بمعنى عبد، و منه تأله و استأله، و قيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته. أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره، و الأرواح تسكن إلى معرفته.
أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه، و آلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه و هو يجيره حقيقة أو بزعمه. أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد. أو من وله إذا تحير و تخبط عقله، و كان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه، فقيل إله كإعاء و إشاح، و يرده الجمع على آلهة دون أولهة. و قيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها و لاها، إذا احتجب و ارتفع لأنه سبحانه و تعالى محجوب عن إدراك الأبصار، و مرتفع على كل شيء و عما لا يليق به و يشهد له قول الشاعر:
كحلفة من أبي رباح
يشهدها لاهه الكبار
و قيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف و لا يوصف به، و لأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته و لا يصلح له مما يطلق عليه سواه، و لأنه لو كان وصفا لم يكن قول: لا إله إلا اللّه، توحيدا مثل: لا إله إلا الرحمن، فإنه لا يمنع الشركة، و الأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره و صار له كالعلم مثل: الثريا و الصعق أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه، و امتناع الوصف به، و عدم تطرق احتمال الشركة إليه، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، و لأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه و تعالى: وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ معنى صحيحا، و لأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى و التركيب، و هو حاصل بينه و بين الأصول المذكورة، و قيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة، و إدخال اللام عليه، و تفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة، و قيل مطلقا، و حذف ألفه لحن تفسد به
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 27
الصلاة، و لا ينعقد به صريح اليمين، و قد جاء لضرورة الشعر:
ألا لا بارك اللّه في سهيل
إذا ما اللّه بارك في الرّجال
و الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، و العليم من علم، و الرحمة في اللغة: رقة القلب، و انعطاف يقتضي التفضل و الإحسان، و منه الرّحم لانعطافها على ما فيها. و أسماء اللّه تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات. و الرَّحْمنِ أبلغ من الرَّحِيمِ ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطّع و قطع و كبّار و كبار، و ذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، و أخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن و الكافر، و رحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن، و على الثاني قيل: يا رحمن الدنيا و الآخرة، و رحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، و أما النعم الدنيوية فجليلة و حقيرة، و إنما قدم و القياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا، و لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، و ذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه و إنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم و وجودها، و القدرة على إيصالها، و الداعية الباعثة عليه، و التمكن من الانتفاع بها، و القوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره. أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم و أصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة و الرديف له. أو للمحافظة على رؤوس الآي.
و الأظهر أنه غير مصروف و إن حظر اختصاصه باللّه تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقا له بما هو الغالب في بابه. و إنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها و آجلها، جليلها و حقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس، و يتمسك بحبل التوفيق، و يشغل سره بذكره و الاستعداد به عن غيره.
[سورة الفاتحة (1): آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، و المدح: هو الثناء على الجميل مطلقا. تقول حمدت زيدا على علمه و كرمه، و لا تقول حمدته على حسنه، بل مدحته. و قيل هما أخوان. و الشكر: مقابلة النعمة قولا و عملا و اعتقادا قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي و لساني و الضّمير المحجّبا
فهو أعم منهما من وجه، و أخص من آخر و لما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة، و أدل على مكانها لخفاء الاعتقاد، و ما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر و العمدة فيه
فقال عليه الصلاة و السلام : «الحمد رأس الشكر، و ما شكر اللّه من لم يحمده».
و الذم نقيض الحمد و الكفران نقيض الشكر. و رفعه بالابتداء و خبره للّه و أصله النصب و قد قرئ به، و إنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد و ثباته له دون تجدده و حدوثه. و هو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها، و التعريف فيه للجنس و معناه: الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو؟ أو للاستغراق، إذ الحمد في الحقيقة كله له، إذ ما من خير إلا و هو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ و فيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم. إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه. و قرئ الحمد للّه بإتباع الدال اللام و بالعكس تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 28
رَبِّ الْعالَمِينَ الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية: و هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به للمبالغة كالصوم و العدل. و قيل: هو نعت من ربّه يربه فهو رب، كقولك نم ينم فهو نم، ثم سمي به المالك لأنه يحفظ ما يملكه و يربيه. و لا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ و العالم اسم لما يعلم به، كالخاتم و القالب، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى، و هو كل ما سواه من الجواهر و الأعراض، فإنها لإمكانها و افتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، و إنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، و غلب العقلاء منهم فجمعه بالياء و النون كسائر أوصافهم. و قيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة و الثقلين، و تناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع. و قيل: عني به الناس هاهنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر و الأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير، و لذلك سوى بين النظر فيهما، و قال تعالى: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ، أَ فَلا تُبْصِرُونَ . و قرئ رَبِّ الْعالَمِينَ بالنصب على المدح. أو النداء. أو بالفعل الذي دل عليه الحمد، و فيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها.
[سورة الفاتحة (1): الآيات 3 الى 4]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كرره للتعليل على ما سنذكره.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قراءة عاصم و الكسائي و يعقوب و يعضده قوله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ . و قرأ الباقون: ملك. و هو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين و لقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ . و لما فيه من التعظيم. و المالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك. و الملك هو المتصرف بالأمر و النهي في المأمورين من الملك. و قرئ ملك بالتخفيف و ملك بلفظ الفعل. و مالكا بالنصب على المدح أو الحال، و مالك بالرفع منونا و مضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف، و ملك مضافا بالرفع و النصب. و يوم الدين يوم الجزاء و منه «كما تدين تدان» و بيت الحماسة:
و لم يبق سوى العدوا
ن دناهم كما دانوا
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار، و معناه، ملك الأمور يوم الدين على طريقة وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ . أوله الملك في هذا اليوم، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة، و قيل: الدِّينِ الشريعة، و قيل: الطاعة.
و المعنى يوم جزاء الدين، و تخصيص اليوم بالإضافة: إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه، و إجراء هذه الأوصاف على اللّه تعالى من كونه موجدا للعالمين ربا لهم منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها و باطنها عاجلها و آجلها، مالكا لأمورهم يوم الثواب و العقاب، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له، و للإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد، فيكون دليلا على ما بعده، فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد، و هو الإيجاد و التربية. و الثاني و الثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد. و الرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما، و تضمين الوعد للحامدين و الوعيد للمعرضين.
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، و وصف بصفات عظام تميز بها عن سائر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 29
الذوات و تعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة و الاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، و للترقي من البرهان إلى العيان و الانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عيانا و المعقول مشاهدا و الغيبة حضورا، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر و الفكر و التأمل في أسمائه و النظر في آلائه و الاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه و باهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره و هو أن يخوض لجة الوصول و يصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا و يناجيه شفاها.
اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر. و من عادة العرب التفنن في الكلام و العدول من أسلوب إلى آخر تطرية له و تنشيطا للسامع، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى التكلم و بالعكس، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ و قوله: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ و قول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالإثمد
و نام الخليّ و لم ترقد
و بات و باتت له ليلة
كليلة ذي العائر الأرمد
و ذلك من نبأ جاءني
و خبرته عن أبي الأسود
و إيا ضمير منصوب منفصل، و ما يلحقه من الياء و الكاف و الهاء حروف زيدت لبيان التكلم و الخطاب و الغيبة لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنت و الكاف في أ رأيتك. و قال الخليل: إيا مضاف إليها، و احتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه و إيا الشواب، و هو شاذ لا يعتمد عليه. و قيل: هي الضمائر، و إيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به، و قيل:
الضمير هو المجموع. و قرئ إِيَّاكَ بفتح الهمزة و «هياك» بقلبها هاء.
و العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلل و منه طريق معبّد أي مذلل، و ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة، و لذلك لا تستعمل إلا في الخضوع للّه تعالى.
و الاستعانة: طلب المعونة و هي: إما ضرورية، أو غير ضرورية. و الضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل و تصوره و حصول آلة و مادة يفعل بها فيها و عند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة و يصح أن يكلف بالفعل. و غير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل و يسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل و يحثه عليه، و هذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف و المراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، و الضمير المستكن في الفعلين للقارئ و من معه من الحفظة، و حاضري صلاة الجماعة. أو له و لسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم و خلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها و يجاب إليها و لهذا شرعت الجماعة و قدم المفعول للتعظيم و الاهتمام به و الدلالة على الحصر و لذلك قال ابن عباس رضي اللّه عنهما (معناه نعبدك و لا نعبد غيرك) و تقديم ما هو مقدم في الوجود و التنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا و بالذات، و منه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه و وصلة سنية بينه و بين الحق، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس و غاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه و لا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له و منتسبة إليه، و لذلك فضل ما حكى اللّه عن حبيبه حين قال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا . على ما حكاه عن كليمه حين قال: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ . و كرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير، و قدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، و يعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.
و أقول: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أو هم ذلك تبجحا و اعتدادا منه بما يصدر عنه، فعقبه بقوله:
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 30
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم و لا يستتب له إلا بمعونة منه و توفيق، و قيل: الواو للحال و المعنى نعبدك مستعينين بك. و قرئ بكسر النون فيهما و هي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها.
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا اهْدِنَا . أو إفراد لما هو المقصود الأعظم. و الهداية دلالة بلطف و لذلك تستعمل في الخير و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وارد على التهكم. و منه الهداية و هوادي الوحش لمقدماتها، و الفعل منه هدى، و أصله أن يعدى باللام، أو إلى، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ و هداية اللّه تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عد كما قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها و لكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية و الحواس الباطنة و المشاعر الظاهرة.
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل و الصلاح و الفساد و إليه أشار حيث قال: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ و قال: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى .
الثالث: الهداية بإرسال الرسل و إنزال الكتب، و إياها عنى بقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا و قوله:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر و يريهم الأشياء كما هي بالوحي، أو الإلهام و المنامات الصادقة، و هذا قسم يختص بنيله الأنبياء و الأولياء و إياه عني بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ . و قوله:
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا . فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المرتبة عليه. فإذا قاله العارف باللّه الواصل عنى به: أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، و تميط غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك. و الأمر و الدعاء يتشاركان لفظا و معنى و يتفاوتان بالاستعلاء و التسفل، و قيل: بالرتبة.
و السراط: من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة، و لذلك سمي لقما لأنه يلتقمهم. و الصِّراطَ من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق، و قد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه. و قرأ ابن كثير برواية قنبل عنه، و رويس عن يعقوب بالأصل، و حمزة بالإشمام، و الباقون بالصاد و هو لغة قريش، و الثابت في الإمام و جمعه سرط ككتب و هو كالطريق في التذكير و التأنيث.
و الْمُسْتَقِيمَ المستوي و المراد به طريق الحق، و قيل: هو ملة الإسلام.
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)