کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 40
أو نصارى، و أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، و اختلافهم في نعيم الجنة: أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره؟ و في دوامه و انقطاعه، و في تقديم الصلة و بناء يوقنون على هم تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب، و بأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق و لا صادر عن إيقان. و اليقين: إتقان العلم بنفي الشك و الشبهة عنه نظرا و استدلالا، و لذلك لا يوصف به علم البارئ، و لا العلوم الضرورية. و الآخرة تأنيث الآخر، صفة الدار بدليل قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ فغلبت كالدنيا، و عن نافع أنه خففها بحذف الهمزة إلقاء حركتها على اللام، و قرئ «يوقنون» بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه و وقتت و نظيره:
لحبّ المؤقد إن إلى مؤسى
و جعدة إذ أضاءهما الوقود
[سورة البقرة (2): آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له، فكأنه لما قيل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ قيل ما بالهم خصوا بذلك؟ فأجيب بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى آخر الآيات. و إلا فاستئناف لا محل لها، فكأنه نتيجة الأحكام و الصفات المتقدمة. أو جواب سائل قال: ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ و نظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان، فإن اسم الإشارة هاهنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة، و هو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى و تلخيصه، فإن ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنه الموجب له. و معنى الاستعلاء في عَلى هُدىً تمثيل تمكنهم من الهدى و استقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء و ركبه، و قد صرحوا به في قولهم:
امتطى الجهل و غوى و اقتعد غارب الهوى، و ذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر و إدامة النظر فيما نصب من الحجج و المواظبة على محاسبة النفس في العمل. و نكر هدى للتعظيم. فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه و لا يقادر قدره، و نظيره قول الهذلي:
فلا و أبي الطير المربّة بالضّحى
على خالد لقد وقعت على لحم
و أكد تعظيمه بأن اللّه تعالى مانحه و الموفق له، و قد أدغمت النون في الراء بغنة و بغير غنة.
وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كرر فيه اسم الإشارة تنبيها على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين و إن كلا منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم، و وسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين هاهنا بخلاف قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ، فإن التسجيل بالغفلة و التشبيه بالبهائم شيء واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف. و هم: فصل يفصل الخبر عن الصفة و يؤكد النسبة، و يفيد اختصاص المسند إليه، أو مبتدأ و المفلحون خبره و الجملة خبر أولئك. و المفلح بالحاء و الجيم:
الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، و هذا التركيب و ما يشاركه في الفاء و العين نحو فلق و فلذ و فلي يدل على الشق. و الفتح و تعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة. أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين و خصوصياتهم.
تنبيه: تأمل كيف نبه سبحانه و تعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى، و بناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز و تكريره و تعريف الخبر و توسيط الفصل، لإظهار قدرهم و الترغيب في اقتفاء أثرهم، و قد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح، و يلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح له رأسا.
[سورة البقرة (2): آية 6]
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 41
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لما ذكر خاصة عباده، و خلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى و الفلاح، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة، الذين لا ينفع فيهم الهدى و لا تغني عنهم الآيات و النذر، و لم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى؛ إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لتباينهما في الغرض، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب و بيان شأنه و الأخرى مسوقة لشرح تمردهم، و انهماكهم في الضلال، و (إن) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف و البناء على الفتح و لزوم الأسماء و إعطاء معانيه، و المتعدي خاصة في دخولها على اسمين. و لذلك أعملت عمله الفرعي و هو نصب الجزء الأول و رفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل دخيل فيه.
و قال الكوفيون: الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية، و هي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف. و أجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان، و قد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف. و فائدتها تأكيد النسبة و تحقيقها، و لذلك يتلقّى بها القسم و يصدر بها الأجوبة، و تذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ، وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قال المبرد (قولك: عبد الله قائم، إخبار عن قيامه، و إن عبد الله قائم، جواب سائل عن قيامه، و إن عبد الله لقائم، جواب منكر لقيامه).
و تعريف الموصول: إما للعهد، و المراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب، و أبي جهل، و الوليد بن المغيرة، و أحبار اليهود. أو للجنس، متناولا من صمم على الكفر، و غيرهم. فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه. و الكفر لغة: ستر النعمة، و أصله الكفر بالفتح و هو الستر، و منه قيل للزارع و لليل كافر، و لكمام الثمرة كافور. و في الشرع: إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم به، و إنما عدّ لبس الغيار و شد الزنار و نحوهما كفرا لأنها تدل على التكذيب، فإن من صدق الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لا يجترئ عليها ظاهرا لا لأنها كفر في أنفسها.
و احتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه، و أجيب بأنه مقتضى التعلق و حدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ خبر إن و سواء اسم بمعنى الاستواء، نعت به كما نعت بالمصادر قال اللّه تعالى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ رفع بأنه خبر إن و ما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك و عدمه، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى: إنذارك و عدمه سيان عليهم، و الفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو أطلق و أريد به اللفظ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة، و الإسناد إليه كقوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا و قوله: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ و قولهم: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه.
و إنما عدل هاهنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد و حسن دخول الهمزة، و أم عليه لتقرير معنى الاستواء و تأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة.
و الإنذار: التخويف أريد به التخويف من عذاب اللّه، و إنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب و أشد تأثيرا في النفس، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى، و قرئ أَ أَنْذَرْتَهُمْ بتحقيق الهمزتين و تخفيف الثانية بين بين، و قلبها ألفا و هو لحن لأن المتحركة لا تقلب، و لأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده، و بتوسيط ألف بينهما محققتين، و بتوسيطها و الثانية بين بين و بحذف الاستفهامية، و بحذفها و إلقاء حركتها على الساكن قبلها.
لا يُؤْمِنُونَ جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة. أو بدل عنه. أو خبر إن و الجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 42
و الآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق، فإنه سبحانه و تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون و أمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا. و شمل إيمانهم بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان، و الحق أن التكليف بالممتنع لذاته و إن جاز عقلا من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضا سيما الامتثال، لكنه غير واقع للاستقراء، و الإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره، و فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجع إلزام الحجة، و حيازة الرسول فضل الإبلاغ، و لذلك قال سَواءٌ عَلَيْهِمْ و لم يقل سواء عليك. كما قال لعبدة الأصنام سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ .
و في الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات.
[سورة البقرة (2): آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ تعليل للحكم السابق و بيان لما يقتضيه.
و الختم الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له و البلوغ آخره نظرا إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه. و الغشاوة: فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشيء، كالعصابة و العمامة و لا ختم و لا تغشية على الحقيقة، و إنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر و المعاصي، و استقباح الإيمان و الطاعات بسبب غيهم، و انهماكهم في التقليد، و إعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق، و أسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم، و أبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس و الآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين، فتصير كأنها غطي عليها. و حيل بينها و بين الإبصار، و سماه على الاستعارة ختما و تغشية. أو مثل قلوبهم و مشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها و بين الاستنفاع بها ختما و تغطية، و قد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ . و بالاغفال في قوله تعالى:
وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ، و بالإقساء في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً و هي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندة إلى اللّه تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه و من حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ و قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم و وخامة عاقبتهم. و اضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوها من التأويل:
الأول: أن القوم لما أعرضوا عن الحق و تمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.
الثاني: أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها اللّه تعالى خالية عن الفطن. أو قلوب مقدر ختم اللّه عليها، و نظيره: سال به الوادي إذا هلك. و طارت به العنقاء إذا طالت غيبته.
الثالث: أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب.
الرابع: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر و استحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء و القسر، ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف، عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم. و فيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي و تناهي انهماكهم في الضلال و البغي.
الخامس: أن يكون حكاية لما كانت الكفرة يقولون مثل: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ تهكما و استهزاء بهم كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ الآية.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 43
السادس: أن ذلك في الآخرة، و إنما أخبر عنه بالماضي لتحققه و تيقن وقوعه و يشهد له قوله تعالى:
وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا .
السابع: أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم و ينفرون عنهم، و على هذا المنهاج كلامنا و كلامهم فيما يضاف إلى اللّه تعالى من طبع و إضلال و نحوهما.
و عَلى سَمْعِهِمْ معطوف على قلوبهم لقوله تعالى: وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ و للوفاق على الوقف عليه، و لأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، و إدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة، و كرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين و استقلال كل منهما بالحكم. و وحد السمع للأمن من اللبس و اعتبار الأصل، فإنه مصدر في أصله و المصادر لا تجمع. أو على تقدير مضاف مثل و على حواس سمعهم.
و الأبصار جمع بصر و هو: إدراك العين، و قد يطلق مجازا على القوة الباصرة، و على العضو و كذا السمع، و لعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشد مناسبة للختم و التغطية، و بالقلب ما هو محل العلم و قد يطلق و يراد به العقل و المعرفة كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ . و إنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير. و غشاوة رفع بالابتداء عند سيبويه، و بالجار و المجرور عند الأخفش، و يؤيده العطف على الجملة الفعلية. و قرئ بالنصب على تقدير، و جعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار و إيصال الختم بنفسه إليه و المعنى: و ختم على أبصارهم بغشاوة، و قرئ بالضم و الرفع، و بالفتح و النصب و هما لغتان فيها. و «غشوة» بالكسر مرفوعة، و بالفتح مرفوعة و منصوبة و «عشاوة» بالعين الغير المعجمة.
وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وعيد و بيان لما يستحقونه. و العذاب كالنكال بناء، و معنى تقول: عذب عن الشيء و نكل عنه إذا أمسك، و منه الماء العذب لأنه يقمع العطش و يردعه و لذلك سمي نقاخا و فراتا، ثم اتسع فأطلق على كل ألم قادح و إن لم يكن نكالا، أي: عقابا يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما. و قيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية و التمريض. و العظيم نقيض الحقير، و الكبير نقيض الصغير، فكما أن الحقير دون الصغير، فالعظيم فوق الكبير، و معنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه و حقر بالإضافة إليه و معنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، و هو التعامي عن الآيات، و لهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا اللّه.
[سورة البقرة (2): آية 8]
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لما افتتح سبحانه و تعالى بشرح حال الكتاب و ساق لبيانه، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم للّه تعالى و واطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، و ثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا و باطنا و لم يلتفتوا لفتة رأسا، ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، و هم الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم، و هم أخبث الكفرة و أبغضهم إلى اللّه لأنهم موهوا الكفر و خلطوا به خداعا و استهزاء، و لذلك طول في بيان خبثهم و جهلهم و استهزأ بهم، و تهكم بأفعالهم و سجل على عمههم و طغيانهم، و ضرب لهم الأمثال و أنزل فيهم إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ و قصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصرّين.
و الناس أصله أناس لقولهم: إنسان و أنس و أناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة و عوض عنها حرف التعريف و لذلك لا يكاد يجمع بينهما. و قوله:
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 44
إنّ المنايا يطّلعن على الإناس الآمنينا شاذ. و هو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم. أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون، و لذلك سموا بشرا كما سمي الجن جنا لاجتنابهم. و اللام فيه للجنس، و من موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال: و من الناس ناس يقولون. أو للعهد و المعهود: هم الذين كفروا، و من موصولة مراد بها ابن أبيّ و أصحابه و نظراؤه، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم، و اختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني.
و اختصاص الإيمان باللّه و باليوم الآخر بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان و ادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه و أحاطوا بقطريه، و إيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق، لأن القوم كانوا يهودا و كانوا يؤمنون باللّه و باليوم الآخر إيمانا كلا إيمان، لاعتقادهم التشبيه و اتخاذ الولد، و أن الجنة لا يدخلها غيرهم، و أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة و غيرها، و يرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم. و بيان لتضاعف خبثهم و إفراطهم في كفرهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع و النفاق و عقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيمانا، فكيف و قد قالوه تمويها على المسلمين و تهكما بهم. و في تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة و الاستحكام.
و القول هو التلفظ بما يفيد، و يقال بمعنى المقول، و للمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ و للرأي و المذهب مجازا. و المراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي. أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة.
وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إنكار ما ادعوه و نفي ما انتحلوا إثباته، و كان أصله و ما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيدا. أو مبالغة في التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، و لذلك أكد النفي بالباء و أطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، و يحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه.
و الآية تدل على أن من ادعى الإيمان و خالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا، لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا. و الخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم.
[سورة البقرة (2): آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه، و عما هو بصدده من قولهم: خدع الضب. إذ توارى في جحره، و ضب خادع و خدع إذا أوهم الحارش إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر و أصله الإخفاء و منه المخدع للخزانة، و الأخدعان لعرقين خفيين في العنق، و المخادعة تكون بين اثنين. و خداعهم مع اللّه ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية، و لأنهم لم يقصدوا خديعته. بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة اللّه من حيث إنه خليفته كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ . إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ . و إما أن صورة صنيعهم مع اللّه تعالى من إظهار الإيمان و استبطان الكفر، و صنع اللّه معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، و هم عنده أخبث الكفار و أهل الدرك الأسفل من النار، استدراجا لهم و امتثال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين أمر اللّه في إخفاء حالهم، و إجراء حكم الإسلام عليهم مجاراة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين.
و يحتمل أن يراد ب يُخادِعُونَ يخدعون لأنه بيان ليقول، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه، إلا أنه أخرج
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 45
في زنة فاعل للمغالبة، فإن الزنة لما كانت للمغالبة و الفعل متى غولب فيه، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض و مبار استصحبت ذلك، و يعضده قراءة من قرأ يَخْدَعُونَ . و كان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة، و أن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام و الإعطاء، و أن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم و يذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض و المقاصد.
وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قراءة نافع و ابن كثير و أبي عمرو. و المعنى: أن دائرة الخداع راجعة إليهم و ضررها يحيق بهم. أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك. و خدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة و حملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية.
و قرأ الباقون وَ ما يَخْدَعُونَ ، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين و قرئ و «يخدعون» من خدع و «يخدعون» بمعنى يختدعون و «يخدعون» و «يخادعون» على البناء للمفعول، و نصب أنفسهم بنزع الخافض، و النفس ذات الشيء و حقيقته، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به، و للقلب لأنه محل الروح أو متعلقه، و للدم لأن قوامها به، و للماء لفرط حاجتها إليه، و للرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتا تأمره و تشير عليه. و المراد بالأنفس هاهنا ذواتهم و يحتمل حملها على أرواحهم و آرائهم.
وَ ما يَشْعُرُونَ لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم. جعل لحوق وبال الخداع و رجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس. و الشعور: الإحساس، و مشاعر الإنسان حواسه، و أصله الشعر و منه الشعار.
[سورة البقرة (2): آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به و يوجب الخلل في أفعاله. و مجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل و سوء العقيدة و الحسد و الضغينة و حب المعاصي، لأنها مانعة من نيل الفضائل، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية. و الآية الكريمة تحتملهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقا على ما فات عنهم من الرياسة، و حسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و استعلاء شأنه يوما فيوما، و زاد اللّه غمهم بما زاد في إعلاء أمره و إشادة ذكره، و نفوسهم كانت موصوفة بالكفر و سوء الاعتقاد و معاداة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و نحوها، فزاد اللّه سبحانه و تعالى ذلك بالطبع. أو بازدياد التكاليف و تكرير الوحي و تضاعف النصر، و كان إسناد الزيادة إلى اللّه تعالى من حيث إنه مسبب من فعله و إسنادها إلى السورة في قوله تعالى فَزادَتْهُمْ رِجْساً لكونها سببا.
و يحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن و الخور حين شاهدوا شوكة المسلمين و إمداد اللّه تعالى لهم بالملائكة، و قذف الرعب في قلوبهم و بزيادته تضعيفه بما زاد لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نصرة على الأعداء و تبسطا في البلاد.
وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم يقال: ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع، وصف به العذاب للمبالغة كقوله:
تحية بينهم ضرب وجيع على طريقة قولهم: جد جده. بِما كانُوا يَكْذِبُونَ قرأها عاصم و حمزة و الكسائي، و المعنى بسبب كذبهم، أو ببدله جزاء لهم و هو قولهم آمنا. و قرأ الباقون يَكْذِبُونَ ، من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة و السلام بقلوبهم، و إذا خلوا إلى شياطينهم. أو من كذّب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشيء و موتت البهائم. أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد.
و الكذب: هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به. و هو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 46
رتب عليه. و ما
روي أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام كذب ثلاث كذبات
، فالمراد التعريض. و لكن لما شابه الكذب في صورته سمي به.
[سورة البقرة (2): آية 11]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ عطف على يَكْذِبُونَ أو يَقُولُ . و ما روي عن سلمان رضي اللّه عنه أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد فلعله أراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط، بل و سيكون من بعد من حاله حالهم لأن الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها. و الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال. و الصلاح ضده و كلاهما يعمان كل ضار و نافع.
و كان من فسادهم في الأرض هيج الحروب و الفتن بمخادعة المسلمين، و ممالأة الكفار عليهم بإفشاء الأسرار إليهم، فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض من الناس و الدواب و الحرث.
و منه إظهار المعاصي و الإهانة بالدين فإن الإخلال بالشرائع و الإعراض عنها مما يوجب الهرج و المرج و يخل بنظام العالم. و القائل هو اللّه تعالى، أو الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، أو بعض المؤمنين. و قرأ الكسائي و هشام (قيل) بإشمام الضم الأول.
قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ جواب ل إِذا رد للناصح على سبيل المبالغة، و المعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك، فإن شأننا ليس إلا الإصلاح، و إن حالنا متمحضة عن شوائب الفساد، لأن (إنما) تفيد قصر ما دخلت عليه على ما بعده. مثل: إنما زيد منطلق، و إنما ينطلق زيد، و إنما قالوا ذلك: لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال اللّه تعالى: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً .
[سورة البقرة (2): آية 12]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ رد لما ادعوه أبلغ رد للاستئناف به و تصديره بحرفي التأكيد:
(ألا) المنبهة على تحقيق ما بعدها، فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا، و نظيره (أليس ذلك بقادر)، و لذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم، و أختها أما التي هي من طلائع القسم: و إن المقررة للنسبة، و تعريف الخبر و توسيط الفصل لرد ما في قولهم (إنما نحن مصلحون) من التعريض للمؤمنين، و الاستدراك ب لا يَشْعُرُونَ .
[سورة البقرة (2): آية 13]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا من تمام النصح و الإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين: الإعراض عما لا ينبغي و هو المقصود بقوله: لا تُفْسِدُوا ، و الإتيان بما ينبغي و هو المطلوب بقوله: آمَنُوا .
كَما آمَنَ النَّاسُ في حيز النصب على المصدر، و ما مصدرية أو كافة مثلها في ربما، و اللام في الناس للجنس و المراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به و المقصودة منه، و لذلك يسلب عن غيره فيقال: زيد ليس بإنسان، و من هذا الباب قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ و نحوه و قد جمعهما الشاعر في قوله: