کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 43
السادس: أن ذلك في الآخرة، و إنما أخبر عنه بالماضي لتحققه و تيقن وقوعه و يشهد له قوله تعالى:
وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا .
السابع: أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم و ينفرون عنهم، و على هذا المنهاج كلامنا و كلامهم فيما يضاف إلى اللّه تعالى من طبع و إضلال و نحوهما.
و عَلى سَمْعِهِمْ معطوف على قلوبهم لقوله تعالى: وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ و للوفاق على الوقف عليه، و لأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، و إدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة، و كرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين و استقلال كل منهما بالحكم. و وحد السمع للأمن من اللبس و اعتبار الأصل، فإنه مصدر في أصله و المصادر لا تجمع. أو على تقدير مضاف مثل و على حواس سمعهم.
و الأبصار جمع بصر و هو: إدراك العين، و قد يطلق مجازا على القوة الباصرة، و على العضو و كذا السمع، و لعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشد مناسبة للختم و التغطية، و بالقلب ما هو محل العلم و قد يطلق و يراد به العقل و المعرفة كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ . و إنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير. و غشاوة رفع بالابتداء عند سيبويه، و بالجار و المجرور عند الأخفش، و يؤيده العطف على الجملة الفعلية. و قرئ بالنصب على تقدير، و جعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار و إيصال الختم بنفسه إليه و المعنى: و ختم على أبصارهم بغشاوة، و قرئ بالضم و الرفع، و بالفتح و النصب و هما لغتان فيها. و «غشوة» بالكسر مرفوعة، و بالفتح مرفوعة و منصوبة و «عشاوة» بالعين الغير المعجمة.
وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وعيد و بيان لما يستحقونه. و العذاب كالنكال بناء، و معنى تقول: عذب عن الشيء و نكل عنه إذا أمسك، و منه الماء العذب لأنه يقمع العطش و يردعه و لذلك سمي نقاخا و فراتا، ثم اتسع فأطلق على كل ألم قادح و إن لم يكن نكالا، أي: عقابا يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما. و قيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية و التمريض. و العظيم نقيض الحقير، و الكبير نقيض الصغير، فكما أن الحقير دون الصغير، فالعظيم فوق الكبير، و معنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه و حقر بالإضافة إليه و معنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، و هو التعامي عن الآيات، و لهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا اللّه.
[سورة البقرة (2): آية 8]
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لما افتتح سبحانه و تعالى بشرح حال الكتاب و ساق لبيانه، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم للّه تعالى و واطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، و ثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا و باطنا و لم يلتفتوا لفتة رأسا، ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، و هم الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم، و هم أخبث الكفرة و أبغضهم إلى اللّه لأنهم موهوا الكفر و خلطوا به خداعا و استهزاء، و لذلك طول في بيان خبثهم و جهلهم و استهزأ بهم، و تهكم بأفعالهم و سجل على عمههم و طغيانهم، و ضرب لهم الأمثال و أنزل فيهم إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ و قصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصرّين.
و الناس أصله أناس لقولهم: إنسان و أنس و أناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة و عوض عنها حرف التعريف و لذلك لا يكاد يجمع بينهما. و قوله:
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 44
إنّ المنايا يطّلعن على الإناس الآمنينا شاذ. و هو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم. أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون، و لذلك سموا بشرا كما سمي الجن جنا لاجتنابهم. و اللام فيه للجنس، و من موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال: و من الناس ناس يقولون. أو للعهد و المعهود: هم الذين كفروا، و من موصولة مراد بها ابن أبيّ و أصحابه و نظراؤه، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم، و اختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني.
و اختصاص الإيمان باللّه و باليوم الآخر بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان و ادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه و أحاطوا بقطريه، و إيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق، لأن القوم كانوا يهودا و كانوا يؤمنون باللّه و باليوم الآخر إيمانا كلا إيمان، لاعتقادهم التشبيه و اتخاذ الولد، و أن الجنة لا يدخلها غيرهم، و أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة و غيرها، و يرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم. و بيان لتضاعف خبثهم و إفراطهم في كفرهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع و النفاق و عقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيمانا، فكيف و قد قالوه تمويها على المسلمين و تهكما بهم. و في تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة و الاستحكام.
و القول هو التلفظ بما يفيد، و يقال بمعنى المقول، و للمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ و للرأي و المذهب مجازا. و المراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي. أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة.
وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إنكار ما ادعوه و نفي ما انتحلوا إثباته، و كان أصله و ما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيدا. أو مبالغة في التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، و لذلك أكد النفي بالباء و أطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، و يحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه.
و الآية تدل على أن من ادعى الإيمان و خالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا، لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا. و الخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم.
[سورة البقرة (2): آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه، و عما هو بصدده من قولهم: خدع الضب. إذ توارى في جحره، و ضب خادع و خدع إذا أوهم الحارش إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر و أصله الإخفاء و منه المخدع للخزانة، و الأخدعان لعرقين خفيين في العنق، و المخادعة تكون بين اثنين. و خداعهم مع اللّه ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية، و لأنهم لم يقصدوا خديعته. بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة اللّه من حيث إنه خليفته كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ . إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ . و إما أن صورة صنيعهم مع اللّه تعالى من إظهار الإيمان و استبطان الكفر، و صنع اللّه معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، و هم عنده أخبث الكفار و أهل الدرك الأسفل من النار، استدراجا لهم و امتثال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين أمر اللّه في إخفاء حالهم، و إجراء حكم الإسلام عليهم مجاراة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين.
و يحتمل أن يراد ب يُخادِعُونَ يخدعون لأنه بيان ليقول، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه، إلا أنه أخرج
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 45
في زنة فاعل للمغالبة، فإن الزنة لما كانت للمغالبة و الفعل متى غولب فيه، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض و مبار استصحبت ذلك، و يعضده قراءة من قرأ يَخْدَعُونَ . و كان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة، و أن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام و الإعطاء، و أن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم و يذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض و المقاصد.
وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قراءة نافع و ابن كثير و أبي عمرو. و المعنى: أن دائرة الخداع راجعة إليهم و ضررها يحيق بهم. أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك. و خدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة و حملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية.
و قرأ الباقون وَ ما يَخْدَعُونَ ، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين و قرئ و «يخدعون» من خدع و «يخدعون» بمعنى يختدعون و «يخدعون» و «يخادعون» على البناء للمفعول، و نصب أنفسهم بنزع الخافض، و النفس ذات الشيء و حقيقته، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به، و للقلب لأنه محل الروح أو متعلقه، و للدم لأن قوامها به، و للماء لفرط حاجتها إليه، و للرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتا تأمره و تشير عليه. و المراد بالأنفس هاهنا ذواتهم و يحتمل حملها على أرواحهم و آرائهم.
وَ ما يَشْعُرُونَ لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم. جعل لحوق وبال الخداع و رجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس. و الشعور: الإحساس، و مشاعر الإنسان حواسه، و أصله الشعر و منه الشعار.
[سورة البقرة (2): آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به و يوجب الخلل في أفعاله. و مجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل و سوء العقيدة و الحسد و الضغينة و حب المعاصي، لأنها مانعة من نيل الفضائل، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية. و الآية الكريمة تحتملهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقا على ما فات عنهم من الرياسة، و حسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و استعلاء شأنه يوما فيوما، و زاد اللّه غمهم بما زاد في إعلاء أمره و إشادة ذكره، و نفوسهم كانت موصوفة بالكفر و سوء الاعتقاد و معاداة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و نحوها، فزاد اللّه سبحانه و تعالى ذلك بالطبع. أو بازدياد التكاليف و تكرير الوحي و تضاعف النصر، و كان إسناد الزيادة إلى اللّه تعالى من حيث إنه مسبب من فعله و إسنادها إلى السورة في قوله تعالى فَزادَتْهُمْ رِجْساً لكونها سببا.
و يحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن و الخور حين شاهدوا شوكة المسلمين و إمداد اللّه تعالى لهم بالملائكة، و قذف الرعب في قلوبهم و بزيادته تضعيفه بما زاد لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نصرة على الأعداء و تبسطا في البلاد.
وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم يقال: ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع، وصف به العذاب للمبالغة كقوله:
تحية بينهم ضرب وجيع على طريقة قولهم: جد جده. بِما كانُوا يَكْذِبُونَ قرأها عاصم و حمزة و الكسائي، و المعنى بسبب كذبهم، أو ببدله جزاء لهم و هو قولهم آمنا. و قرأ الباقون يَكْذِبُونَ ، من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة و السلام بقلوبهم، و إذا خلوا إلى شياطينهم. أو من كذّب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشيء و موتت البهائم. أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد.
و الكذب: هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به. و هو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 46
رتب عليه. و ما
روي أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام كذب ثلاث كذبات
، فالمراد التعريض. و لكن لما شابه الكذب في صورته سمي به.
[سورة البقرة (2): آية 11]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ عطف على يَكْذِبُونَ أو يَقُولُ . و ما روي عن سلمان رضي اللّه عنه أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد فلعله أراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط، بل و سيكون من بعد من حاله حالهم لأن الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها. و الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال. و الصلاح ضده و كلاهما يعمان كل ضار و نافع.
و كان من فسادهم في الأرض هيج الحروب و الفتن بمخادعة المسلمين، و ممالأة الكفار عليهم بإفشاء الأسرار إليهم، فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض من الناس و الدواب و الحرث.
و منه إظهار المعاصي و الإهانة بالدين فإن الإخلال بالشرائع و الإعراض عنها مما يوجب الهرج و المرج و يخل بنظام العالم. و القائل هو اللّه تعالى، أو الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، أو بعض المؤمنين. و قرأ الكسائي و هشام (قيل) بإشمام الضم الأول.
قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ جواب ل إِذا رد للناصح على سبيل المبالغة، و المعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك، فإن شأننا ليس إلا الإصلاح، و إن حالنا متمحضة عن شوائب الفساد، لأن (إنما) تفيد قصر ما دخلت عليه على ما بعده. مثل: إنما زيد منطلق، و إنما ينطلق زيد، و إنما قالوا ذلك: لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال اللّه تعالى: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً .
[سورة البقرة (2): آية 12]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ رد لما ادعوه أبلغ رد للاستئناف به و تصديره بحرفي التأكيد:
(ألا) المنبهة على تحقيق ما بعدها، فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا، و نظيره (أليس ذلك بقادر)، و لذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم، و أختها أما التي هي من طلائع القسم: و إن المقررة للنسبة، و تعريف الخبر و توسيط الفصل لرد ما في قولهم (إنما نحن مصلحون) من التعريض للمؤمنين، و الاستدراك ب لا يَشْعُرُونَ .
[سورة البقرة (2): آية 13]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا من تمام النصح و الإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين: الإعراض عما لا ينبغي و هو المقصود بقوله: لا تُفْسِدُوا ، و الإتيان بما ينبغي و هو المطلوب بقوله: آمَنُوا .
كَما آمَنَ النَّاسُ في حيز النصب على المصدر، و ما مصدرية أو كافة مثلها في ربما، و اللام في الناس للجنس و المراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به و المقصودة منه، و لذلك يسلب عن غيره فيقال: زيد ليس بإنسان، و من هذا الباب قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ و نحوه و قد جمعهما الشاعر في قوله:
إذ الناس ناس و الزمان زمان أو للعهد، و المراد به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و من معه. أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام و أصحابه،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 47
و المعنى آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم، و استدل به على قبول توبة الزنديق و أن الإقرار باللسان إيمان و إن لم يفد التقييد.
قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الهمزة فيه للإنكار، و اللام مشار بها إلى الناس، أو الجنس بأسره و هم مندرجون فيه على زعمهم، و إنما سفّهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء و منهم موالي: كصهيب و بلال، أو للتجلد و عدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام و أشياعه. و السفه: خفة و سخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل، و الحلم يقابله.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ رد و مبالغة في تجهيلهم، فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة و أتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله، فإنه ربما يعذر و تنفعه الآيات و النذر، و إنما فصلت الآية ب لا يَعْلَمُونَ و التي قبلها ب لا يَشْعُرُونَ لأنه أكثر طباقا لذكر السفه، و لأن الوقوف على أمر الدين و التمييز بين الحق و الباطل مما يفتقر إلى نظر و فكر. و أما النفاق و ما فيه من الفتن و الفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن و تأمل فيما يشاهد من أقوالهم و أفعالهم.
[سورة البقرة (2): آية 14]
وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بيان لمعاملتهم المؤمنين و الكفار، و ما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم و تمهيد نفاقهم فليس بتكرير.
روي أن ابن أبيّ و أصحابه استقبلهم نفر من الصحابة، فقال لقومه:
انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي اللّه عنه فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم، و شيخ الإسلام و ثاني رسول اللّه في الغار الباذل نفسه و ماله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ثم أخذ بيد عمر رضي اللّه عنه فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه، الباذل نفسه و ماله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ثم أخذ بيد علي رضي اللّه عنه فقال: مرحبا يا ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و ختنه سيد بني هاشم، ما خلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فنزلت.
و اللقاء المصادفة يقال؛ لقيته و لاقيته، إذا صادفته و استقبلته، و منه ألقيته إذا طرحته فإنك بطرحه جعلته بحيث يلقى.
وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من خلوت بفلان و إليه إذا انفردت معه. أو من خلاك ذمّ أي عداك و مضى عنك، و منه القرون الخالية. أو من خلوت به إذا سخرت منه، و عدي بإلى لتضمن معنى الإنهاء، و المراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم، و هم المظهرون كفرهم، و إضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. أو كبار المنافقين و القائلون صغارهم. و جعل سيبويه نونه تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد عن الصلاح، و يشهد له قولهم: تشيطن. و أخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل، و من أسمائه الباطل.
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي في الدين و الاعتقاد، خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، و الشياطين بالجملة الاسمية المؤكدة بإن لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، و بالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، و لأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة و صدق رغبة فيما خاطبوا به المؤمنين، و لا توقع رواج ادعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين و الأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار.
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ تأكيد لما قبله، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به مصرّ على خلافه. أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما (قالوا إنا معكم) إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين و تدعون الإيمان فأجابوا بذلك. و الاستهزاء السخرية و الاستخفاف يقال:
هزئت و استهزأت بمعنى كأجبت و استجبت، و أصله الخفة من الهزء و هو القتل السريع يقال: هزأ فلان إذا مات على مكانه، و ناقته تهزأ به أي تسرع و تخف.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 48
[سورة البقرة (2): آية 15]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يجازيهم على استهزائهم، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة، إما لمقابلة اللفظ باللفظ، أو لكونه مماثلا له في القدر، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم، أو ينزل بهم الحقارة و الهوان الذي هو لازم الاستهزاء، أو الغرض منه، أو يعاملهم معاملة المستهزئ: أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم، و استدراجهم بالإمهال و الزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، و أما في الآخرة: فبأن يفتح لهم و هم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب، و ذلك قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ و إنما استؤنف به و لم يعطف ليدل على أن اللّه تعالى تولى مجازاتهم، و لم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم، و أنّ استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل اللّه تعالى بهم و لعله لم يقل: اللّه مستهزئ بهم ليطابق قولهم، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا و يتجدد حينا بعد حين، و هكذا كانت نكايات اللّه فيهم كما قال تعالى: أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ .
وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ من مد الجيش و أمده إذا زاده و قواه، و منه مددت السراج و الأرض إذا استصلحتهما بالزيت و السماد، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له. و يدل عليه قراءة ابن كثير (و يمدهم). و المعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا: لما منعهم اللّه تعالى ألطافه التي يمنحها المؤمنين و خذلهم بسبب كفرهم و إصرارهم، و سدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم رينا و ظلمة، تزايد قلوب المؤمنين انشراحا و نورا، و أمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغيانا، أسند ذلك إلى اللّه تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازا، و أضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة، و مصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي و قال وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ . أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم و يمد في أعمارهم كي يتنبهوا و يطيعوا، فما زادوا إلا طغيانا و عمها، فحذفت اللام و عدى الفعل بنفسه كما في قوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ . أو التقدير يمدهم استصلاحا، و هم مع ذلك يعمهون في طغيانهم. و الطغيان بالضم و الكسر كلقيان، و الطغيان: تجاوز الحد في العتو، و الغلو في الكفر، و أصله تجاوز الشيء عن مكانه قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ . و العمه في البصيرة كالعمى في البصر، و هو: التحير في الأمر يقال رجل عامه و عمه، و أرض عمهاء لا منار بها، قال:
أعمى الهدى بالجاهلين العمه
[سورة البقرة (2): آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى اختاروها عليه و استبدلوها به، و أصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان، فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا و بذله اشتراء، و إلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشتر و آخذه بائع، و لذلك عدت الكلمتان من الأضداد، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلا به غيره، سواء كان من المعاني أو الأعيان، و منه قول الشاعر:
أخذت بالجملة رأسا أزعرا
و بالثّنايا الواضحات الدّردرا
و بالطّويل العمر عمرا جيدرا
كما اشترى المسلم إذ تنصّرا
ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره، و المعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله اللّه لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها. أو اختاروا الضلالة و استحبوها على الهدى.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 49
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ . ترشيح للمجاز، لمّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلا لخسارتهم، و نحوه:
و لمّا رأيت النسر عزّ ابن دأية
و عشّش في وكريه جاش له صدري
و التجارة: طلب الربح بالبيع و الشراء. و الربح: الفضل على رأس المال، و لذلك سمي شفا، و إسناده إلى التجارة و هو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح و الخسران.
وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ لطرق التجارة، فإن المقصود منها سلامة رأس المال و الربح، و هؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مالهم كان الفطرة السليمة، و العقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، و اختل عقلهم و لم يبق لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق، و نيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل.
[سورة البقرة (2): آية 17]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح و التقرير، فإنه أوقع في القلب و أقمع للخصم الألد، لأنه يريك المتخيل محققا و المعقول محسوسا، و لأمر ما أكثر اللّه في كتبه الأمثال، و فشت في كلام الأنبياء و الحكماء. و المثل في الأصل بمعنى النظير يقال: مثل و مثل و مثيل كشبه و شبه و شيبه، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده، و لا يضرب إلا ما فيه غرابة، و لذلك حوفظ عليه من التغيير، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن و فيها غرابة مثل قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ* و قوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى .
و المعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا، و الذي: بمعنى الذين كما في قوله تعالى:
وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا إن جعل مرجع الضمير في بنورهم، و إنما جاز ذلك و لم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف، بل الجملة التي هي صلته و هو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه، فحقه أنه لا يجمع كما لا تجمع أخواتها، و يستوي فيه الواحد و الجمع و ليس الذين جمعه المصحح، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى و لذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل، و لكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف، و لذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين و المفعولين، أو قصد به جنس المستوقدين، أو الفوج الذي استوقد. و الاستيقاد: طلب الوقود و السعي في تحصيله، و هو سطوع النار و ارتفاع لهبها. و اشتقاق النار من: نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها حركة و اضطرابا.
فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ أي: النار، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية، و إلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما، و التأنيث لأن ما حوله أشياء و أماكن أو إلى ضمير النار، و ما: موصولة في معنى الأمكنة، نصب على الظرف، أو مزيدة، و حوله ظرف و تأليف الحول للدوران. و قيل للعام حول لأنه يدور.
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ جواب لما، و الضمير للذي، و جمعه للحمل على المعنى، و على هذا إنما قال: