کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 88
وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خطابا للجميع لوجود القتل فيهم فَادَّارَأْتُمْ فِيها اختصمتم في شأنها، إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضا، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه، و أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال و اجتلبت لها همزة الوصل وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مظهره لا محالة، و أعمل مخرج لأنه حكاية مستقبل كما أعمل باسِطٌ ذِراعَيْهِ لأنه حكاية حال ماضية.
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ عطف على ادارأتم و ما بينها اعتراض، و الضمير للنفس و التذكير على تأويل الشخص أو القتيل بِبَعْضِها أي بعض كان، و قيل: بأصغريها، و قيل بلسانها، و قيل بفخذها اليمنى، و قيل بالأذن، و قيل بالعجب كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى يدل على ما حذف و هو فضربوه فحيي، و الخطاب مع من حضر حياة القتيل، أو نزول الآية وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ دلائله على كمال قدرته. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي يكمل عقلكم و تعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها، أو تعملوا على قضيته. و لعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء و شرط فيه ما شرط لما فيه من التقرب و أداء الواجب، و نفع اليتيم و التنبيه على بركة التوكل و الشفقة على الأولاد، و أن من حق الطالب أن يقدم قربة، و المتقرب أن يتحرى الأحسن و يغالي بثمنه، كما روي عن عمر رضي اللّه تعالى عنه: أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار. و أن المؤثر في الحقيقة هو اللّه تعالى، و الأسباب أمارات لا إثر لها، و أن من أراد أن يعرف أعدى عدوه الساعي في إماتته الموت الحقيقي، فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوة الشهوية حين زال عنها شره الصبا، و لم يلحقها ضعف الكبر، و كانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا، مسلمة عن دنسها لا سمة بها من مقابحها بحيث يصل أثره إلى نفسه، فتحيا حياة طيبا، و تعرب عما به ينكشف الحال، و يرتفع ما بين العقل و الوهم من التدارؤ و النزاع.
[سورة البقرة (2): آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة، كما في الحجر. و قساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار، و ثم لاستبعاد القسوة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني إحياء القتيل، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في قسوتها أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها، و المعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها، أو أنها مثلها، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، و يعضده قراءة الحسن بالجر عطفا على الحجارة، و إنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة، و الدلالة على اشتداد القسوتين و اشتمال المفضل على زيادة و أَوْ للتخيير، أو للترديد بمعنى: أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها.
وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تعليل للتفضيل، و المعنى: أن الحجارة تتأثر و تنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء، و تنفجر منه الأنهار، و منها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد اللّه تعالى به. و قلوب هؤلاء لا تتأثر و لا تنفعل عن أمره تعالى. و التفجر التفتح بسعة و كثرة، و الخشية مجاز عن الانقياد، و قرئ إِنَ على أنها المخففة من الثقيلة و تلزمها اللام الفارقة بينها و بين إن النافية، و يهبط بالضم.
وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد على ذلك، و قرأ ابن كثير و نافع و يعقوب و خلف و أبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده، و الباقون بالتاء.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 89
[سورة البقرة (2): آية 75]
أَ فَتَطْمَعُونَ الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أن يصدقوكم، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم. يعني اليهود. وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ طائفة من أسلافهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ يعني التوراة. ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ كنعت محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و آية الرجم. أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون. و قيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام اللّه تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور، ثم قالوا سمعنا اللّه تعالى يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا و إن شئتم فلا تفعلوا. مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي فهموه بعقولهم و لم يبق لهم فيه ريبة. وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم مفترون مبطلون، و معنى الآية: أن أحبار هؤلاء و مقدميهم كانوا على هذه الحالة، فما ظنك بسفلتهم و جهالهم، و أنهم إن كفروا و حرفوا فلهم سابقة في ذلك.
[سورة البقرة (2): الآيات 76 الى 77]
وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا يعني منافقيهم. قالُوا آمَنَّا بأنكم على الحق، و إن رسولكم هو المبشر به في التوراة وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أي الذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافق. أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، أو الذين نافقوا لأعقابهم إظهارا للتصلب في اليهودية، و منعا لهم عن إبداء ما وجدوا في كتابهم، فينافقون الفريقين. فالاستفهام على الأول تقريع و على الثاني إنكار و نهي لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، جعلوا محاجتهم بكتاب اللّه و حكمه محاجة عنده كما يقال عند اللّه كذا، و يراد به أنه جاء في كتابه و حكمه، و قيل عند ذكر ربكم، أو بين يدي رسول ربكم. و قيل عند ربكم في القيامة و فيه نظر إذ الإخفاء لا يدفعه. أَ فَلا تَعْقِلُونَ إما من تمام كلام اللائمين و تقديره: أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم به فيحجونكم، أو خطاب من اللّه تعالى للمؤمنين متصل بقوله: أَ فَتَطْمَعُونَ ، و المعنى: أفلا تعقلون حالهم و أن لا مطمع لكم في إيمانهم.
أَ وَ لا يَعْلَمُونَ يعني هؤلاء المنافقين، أو اللائمين، أو كليهما، أو إياهم و المحرفين. أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ و من جملتهما إسرارهم الكفر و إعلانهم الإيمان، و إخفاء ما فتح اللّه عليهم، و إظهار غيره، و تحريف الكلم عن مواضعه و معانيه.
[سورة البقرة (2): الآيات 78 الى 79]
وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة، و يتحققوا ما فيها. أو التوراة إِلَّا أَمانِيَ استثناء منقطع. و الأماني: جمع أمنية و هي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، و لذلك تطلق، على الكذب و على ما يتمنى و ما يقرأ و المعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرفين أو مواعيد فارغة. سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، و أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة. و قيل إلا ما يقرءون قراءة عارية عن معرفة المعنى و تدبره من قوله:
تمنّى كتاب اللّه أوّل ليله
تمني داود الزبور على رسل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 90
و هو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون. وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم، و قد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي و اعتقاد من غير قاطع، و إن جزم به صاحبه: كاعتقاد المقلد و الزائغ عن الحق لشبهة.
فَوَيْلٌ أي تحسر و هلك. و من قال إنه واد أو جبل في جهنم فمعناه: أن فيها موضعا يتبوأ فيه من جعل له الويل، و لعله سماه بذلك مجازا. و هو في الأصل مصدر لا فعل له و إنما ساغ الابتداء به نكرة لأنه دعاء. لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ يعني المحرفين، و لعله أراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة. بِأَيْدِيهِمْ تأكيد كقولك: كتبته بيميني ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا كي يحصلوا به عرضا من أعراض الدنيا، فإنه و إن جعل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدائم. فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ يعني المحرف. وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ يريد به الرشى.
[سورة البقرة (2): آية 80]
وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ المس اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة به، و اللمس كالطلب له و لذلك يقال ألمسه فلا أجده. إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً محصورة قليلة، روي أن بعضهم قالوا نعذب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوما، و بعضهم قالوا مدة الدنيا سبعة آلاف سنة و إنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً خبرا أو وعد بما تزعمون. و قرأ ابن كثير و حفص بإظهار الذال. و الباقون بإدغامه فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ جواب شرط مقدر أي: إن اتخذتم عند اللّه عهدا فلن يخلف اللّه عهده، و فيه دليل على أن الخلف في خبره محال.
أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أم معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي الأمرين كائن، على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، أو منقطعة بمعنى: بل أ تقولون، على التقرير و التقريع.
[سورة البقرة (2): الآيات 81 الى 82]
بَلى إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زمانا مديدا و دهرا طويلا على وجه أعم، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم، و تختص بجواب النفي مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً قبيحة، و الفرق بينها و بين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات، و الخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ، و الكسب: استجلاب النفع. و تعليقه بالسيئة على طريق قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* .
وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي استولت عليه، و شملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه، و هذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره و إن لم يكن له سوى تصديق قلبه و إقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به، و لذلك فسرها السلف بالكفر. و تحقيق ذلك: أن من أذنب ذنبا و لم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله و الانهماك فيه و ارتكاب ما هو أكبر منه، حتى تستولي عليه الذنوب و تأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلا إلى المعاصي، مستحسنا إياها معتقدا أن لا لذة سواها، مبغضا لمن يمنعه عنها مكذبا لمن ينصحه فيها، كما قال اللّه تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ . و قرأ نافع خطيئاته.
و قرئ «خطيته» و «خطياته» على القلب و الإدغام فيهما. فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون، أو لابثون لبثا طويلا. و الآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة و كذا التي قبلها.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 91
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جرت عادته سبحانه و تعالى على أن يشفع وعده بوعيده، لترجى رحمته و يخشى عذابه، و عطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه.
[سورة البقرة (2): آية 83]
وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ إخبار في معنى النهي كقوله تعالى: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ . و هو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه و يعضده قراءة: «لا تعبدوا». و عطف قُولُوا عليه فيكون على إرادة القول. و قيل: تقديره أن لا يعبدوا فلما حذف أن رفع كقوله:
ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى
و أن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
و يدل عليه قراءة: «ألا تعبدوا»، فيكون بدلا عن الميثاق، أو معمولا له بحذف الجار. و قيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قال: و حلفناهم لا يعبدون. و قرأ نافع و ابن عامر و أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالتاء حكاية لما خوطبوا به، و الباقون بالياء لأنهم غيب وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً تعلق بمضمر تقديره: و تحسنون، أو أحسنوا وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ عطف على الوالدين. وَ الْيَتامى جمع يتيم كنديم و ندامى و هو قليل. و مسكين مفعيل من السكون، كأن الفقر أسكنه وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولا حسنا، و سماه حُسْناً للمبالغة. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب حُسْناً بفتحتين. و قرئ «حسنا» بضمتين و هو لغة أهل الحجاز، و حسنى على المصدر كبشرى و المراد به ما فيه تخلق و إرشاد وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ على طريقة الالتفات، و لعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و من قبلهم على التغليب، أي أعرضتم عن الميثاق و رفضتموه إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ يريد به من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ، و من أسلم منهم وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء و الطاعة. و أصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض.
[سورة البقرة (2): آية 84]
وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على نحو ما سبق و المراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل و الإجلاء عن الوطن. و إنما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه، لاتصاله به نسبا. أو دينا، أو لأنه يوجبه قصاصا. و قيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم و إخراجكم من دياركم، أو لا تفعلوا ما يرديكم و يصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة، و لا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم، فإنه الجلاء الحقيقي ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق و اعترفتم بلزومه وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ توكيد كقولك.
أقر فلان شاهدا على نفسه. و قيل و أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم، فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا.
[سورة البقرة (2): آية 85]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 92
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق و الإقرار به و الشهادة عليه. و أنتم مبتدأ و هؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقصون، كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا، نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات، وعدهم باعتبار ما أسند إليهم حضورا و باعتبار ما سيحكي عنهم غيبا. و قوله تعالى: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ إما حال و العامل فيها معنى الإشارة، أو بيان لهذه الجملة. و قيل:
هؤلاء تأكيد، و الخبر هو الجملة. و قيل بمعنى الذين و الجملة صلته و المجموع هو الخبر، و قرئ «تقتّلون» على التكثير. تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ حال من فاعل تخرجون، أو من مفعوله، أو كليهما.
و التظاهر التعاون من الظهر. و قرأ عاصم و حمزة و الكسائي بحذف إحدى التاءين. و قرئ بإظهارها، و تظهرون بمعنى تتظهرون وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس، و النضير حلفاء الخزرج، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل و تخريب الديار و إجلاء أهلها، و إذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه. و قيل معناه إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد و الوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . و قرأ حمزة أسرى و هو جمع أسير كجريح و جرحى، و أسارى جمعه كسكرى و سكارى. و قيل هو أيضا جمع أسير، و كأنه شبه بالكسلان و جمع جمعه.
و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و ابن عامر «تفدوهم» وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ متعلق بقوله وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ ، و ما بينهما اعتراض، و الضمير للشأن، أو مبهم و يفسره إخراجهم، أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر. و إخراجهم بدل أو بيان أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ يعني الفداء.
وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ يعني حرمة المقاتلة و الإجلاء. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كقتل قريظة و سبيهم. و إجلاء بني النضير، و ضرب الجزية على غيرهم. و أصل الخزي ذل يستحيا منه، و لذلك يستعمل في كل منهما. وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ لأن عصيانهم أشد. وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تأكيد للوعيد، أي اللّه سبحانه و تعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم. و قرأ عاصم في رواية المفضل، «تردون» على الخطاب لقوله مِنْكُمْ . و ابن كثير و نافع و عاصم في رواية أبي بكر، و خلف و يعقوب «يعملون» على أن الضمير لمن.
[سورة البقرة (2): آية 86]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ آثروا الحياة الدنيا على الآخرة. فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ بنقض الجزية في الدنيا، و التعذيب في الآخرة. وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ بدفعهما عنهم.
[سورة البقرة (2): آية 87]
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي أرسلنا على أثره الرسل، كقوله سبحانه و تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا . يقال قفاه إذا تبعه، و قفاه به إذا أتبعه إياه من القفا، نحو ذنبه من الذنب وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات كإحياء الموتى و إبراء الأكمة و الأبرص، و الإخبار بالمغيبات. أو الإنجيل، و عيسى بالعبرية أبشوع. و مريم بمعنى الخادم، و هو بالعربية من النساء كالزير من الرجال، قال رؤبة: قلت لزير لم تصله مريمه. و وزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل وَ أَيَّدْناهُ و قويناه،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 93
و قرئ «آيدناه» بالمد بِرُوحِ الْقُدُسِ بالروح المقدسة كقولك: حاتم الجود، و رجل صدق، و أراد به جبريل.
و قيل: روح عيسى عليه الصلاة و السلام، و وصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته على اللّه سبحانه و تعالى و لذلك أضافه إلى نفسه تعالى، أو لأنه لم تضمه الأصلاب و الأرحام الطوامث، أو الإنجيل، أو اسم اللّه الأعظم الذي كان يحيي به الموتى، و قرأ ابن كثير الْقُدُسِ بالإسكان في جميع القرآن أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ بما لا تحبه. يقال هوي بالكسر هوى إذا أحب و هوى بالفتح هويا بالضم إذا سقط. و وسطت الهمزة بين الفاء و ما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا و تعجيبا من شأنهم، و يحتمل أن يكون استئنافا و الفاء للعطف على مقدر، اسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان و اتباع الرسل. فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ كموسى و عيسى عليهما السلام، و الفاء للسببية أو للتفصيل وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ كزكريا و يحيى عليهما السلام، و إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس، فإن الأمر فظيع. أو مراعاة للفواصل، أو للدلالة على أنكم بعد فيه فإنكم تحومون حول قتل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، لولا أني أعصمه منكم، و لذلك سحرتموه و سممتم له الشاة.
[سورة البقرة (2): آية 88]
وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)
وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ مغشاة بأغطية خلقية لا يصل إليها ما جئت به و لا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن و قيل أصله غلف جمع غلاف فخفف، و المعنى أنها أوعية للعلم لا تسمع علما إلا وعته، و لا تعي ما تقول. أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره. بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ رد لما قالوه، و المعنى أنها خلقت على الفطرة و التمكن من قبول الحق، و لكن اللّه خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لخلل فيه، بل لأن اللّه تعالى خذلهم بكفرهم كما قال تعالى: فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ ، أو هم كفرة ملعونون، فمن أين لهم دعوى العلم و الاستغناء عنك؟ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ فإيمانا قليلا يؤمنون، و ما مزيده للمبالغة في التقليل، و هو إيمانهم ببعض الكتاب. و قيل: أراد بالقلة العدم.
[سورة البقرة (2): آية 89]
وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من كتابهم، و قرئ بالنصب على الحال من كتاب لتخصصه بالوصف، و جواب لما، محذوف دل عليه جواب لما الثانية. وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي يستنصرون على المشركين و يقولون: اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت، في التوراة. أو يفتحون عليهم و يعرفونهم أن نبيا يبعث منهم، و قد قرب زمانه، و السين للمبالغة و الإشعار أن الفاعل يسأل ذلك عن نفسه فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا من الحق. كَفَرُوا بِهِ حسدا و خوفا على الرياسة. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ أي عليهم، و أتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم، فتكون اللام للعهد، و يجوز أن تكون للجنس و يدخلون فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيهم.
[سورة البقرة (2): آية 90]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ما نكرة بمعنى شيء مميزة لفاعل بئس المستكن، و اشتروا صفته و معناه باعوا، أو اشتروا بحسب ظنهم، فإنهم ظنوا أنهم خلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا. أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هو المخصوص بالذم بَغْياً طلبا لما ليس لهم و حسدا، و هو علة أَنْ يَكْفُرُوا دون اشْتَرَوْا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 94
للفصل. أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ لأن ينزل، أي حسدوه على أن ينزل اللّه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و سهل و يعقوب بالتخفيف. مِنْ فَضْلِهِ يعني الوحي. عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ على من اختاره للرسالة فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ للكفر و الحسد على من هو أفضل الخلق. و قيل: لكفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم بعد عيسى عليه السلام، أو بعد قولهم عزير ابن اللّه وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يراد به إذلالهم، بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه.
[سورة البقرة (2): آية 91]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعم الكتب المنزلة بأسرها. قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي بالتوراة وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ حال من الضمير في قالوا، و وراء في الأصل جعل ظرفا، و يضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به و هو خلفه، و إلى المفعول فيراد به ما يواريه و هو قدامه، و لذلك عد من الأضداد. وَ هُوَ الْحَقُ الضمير لما وراءه، و المراد به القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ حال مؤكدة تتضمن رد مقالهم، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ اعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة و التوراة لا تسوغه، و إنما أسنده إليهم لأنه فعل آبائهم، و أنهم راضون به عازمون عليه.
و قرأ نافع وحده أَنْبِياءَ اللَّهِ مهموزا في جميع القرآن.
[سورة البقرة (2): آية 92]
وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ يعني الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي إلها مِنْ بَعْدِهِ من بعد مجيء موسى، أو ذهابه إلى الطور وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ حال، بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته، أو بالإخلال بآيات اللّه تعالى، أو اعتراض بمعنى و أنتم قوم عادتكم الظلم. و مساق الآية أيضا لإبطال قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا و التنبيه على أن طريقتهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى عليهما الصلاة و السلام، لا لتكرير القصة و كذا ما بعدها.
[سورة البقرة (2): آية 93]