کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 99
الاستماع حتى لا تفتقروا إلى طلب المراعاة، أو و اسمعوا سماع قبول لا كسماع اليهود، أو و اسمعوا ما أمرتم به بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه. وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الذين تهاونوا بالرسول عليه السلام و سبوه.
[سورة البقرة (2): آية 105]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين، و يزعمون أنهم يودون لهم الخير. و الود: محبة الشيء مع تمنيه، و لذلك يستعمل في كل منهما، و من للتبيين كما في قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ مفعول يود، و من الأولى مزيدة للاستغراق، و الثانية للابتداء، و فسر الخير بالوحي. و المعنى أنهم يحسدونكم به و ما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه و بالعلم و بالنصرة، و لعل المراد به ما يعم ذلك وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ يستنبئه و يعلمه الحكمة و ينصره لا يجب عليه شيء، و ليس لأحد عليه حق وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ إشعار بأن النبوة من الفضل، و أن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله، بل لمشيئته و ما عرف فيه من حكمته.
[سورة البقرة (2): الآيات 106 الى 107]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نزلت لما قال المشركون أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه و يأمر بخلافه. و النسخ في اللغة: إزالة الصورة عن الشيء و إثباتها في غيره، كنسخ الظل للشمس و النقل، و منه التناسخ. ثم استعمل لكل واحد منهما كقولك: نسخت الريح الأثر، و نسخت الكتاب.
و نسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها، أو الحكم المستفاد منها، أو بهما جميعا. و إنساؤها إذهابها عن القلوب، و ما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية. و قرأ ابن عامر ما ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها، أو نجدها منسوخة. و ابن كثير و أبو عمرو «ننسأها» أي نؤخرها من النسء. و قرئ «ننسها» أي ننس أحدا إياها، و «ننسها» أي أنت، و «تنسها» على البناء للمفعول، و «ننسكها» بإضمار المفعولين نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أي بما هو خير للعباد في النفع و الثواب، أو مثلها في الثواب. و قرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا. أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على النسخ و الإتيان بمثل المنسوخ، أو بما هو خير منه. و الآية دلت على جواز النسخ و تأخير الإنزال إذ الأصل اختصاص أن و ما يتضمنها بالأمور المحتملة، و ذلك لأن الأحكام شرعت، و الآيات نزلت لمصالح العباد و تكميل نفوسهم فضلا من اللّه و رحمة، و ذلك يختلف باختلاف الأعصار و الأشخاص، كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في عصر غيره.
و احتج بها من منع النسخ بلا بدل، أو ببدل أثقل. و نسخ الكتاب بالسنة، فإن الناسخ هو المأتي به بدلا و السنة ليست كذلك و الكل ضعيف، إذ قد يكون عدم الحكم، أو الأثقل أصلح. و النسخ قد يعرف بغيره، و السنة مما أتى به اللّه تعالى، و ليس المراد بالخير و المثل ما يكون كذلك في اللفظ. و المعتزلة على حدوث القرآن فإن التغير و التفاوت من لوازمه. و أجيب: بأنهما من عوارض الأمور المتعلقة بالمعنى القائم بالذات القديم.
أَ لَمْ تَعْلَمْ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المراد هو و أمته، لقوله: وَ ما لَكُمْ و إنما أفرده لأنه أعلمهم، و مبدأ علمهم. أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، و هو كالدليل على قوله: أَنَّ اللَّهَ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 100
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أو على جواز النسخ و لذلك ترك العاطف. وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ و إنما هو الذي يملك أموركم و يجريها على ما يصلحكم، و الفرق بين الولي و النصير. أن الولي قد يضعف عن النصرة، و النصير قد يكون أجنبيا عن المنصور فيكون بينهما عموم من وجه.
[سورة البقرة (2): آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أم معادلة للهمزة في أَ لَمْ تَعْلَمْ أي: ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر و ينهى كما أراد، أم تعلمون و تقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام. أو منقطعة و المراد أن يوصيهم بالثقة به و ترك الاقتراح عليه. قيل:
نزلت في أهل الكتاب حين سألوا أن ينزل اللّه عليهم كتابا من السماء. و قيل: في المشركين لما قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ و من ترك الثقة بالآيات البينات و شك فيها و اقترح غيرها، فقد ضل الطريق المستقيم حتى وقع في الكفر بعد الإيمان. و معنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل، و يؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد و تبديل الكفر بالإيمان.
و قرئ «يبدل» من أبدل.
[سورة البقرة (2): الآيات 109 الى 110]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني أحبارهم. لَوْ يَرُدُّونَكُمْ أن يردوكم، فإن لو تنوب عن أن في المعنى دون اللفظ: مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً مرتدين، و هو حال من ضمير المخاطبين حَسَداً علة ود.
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ يجوز أن يتعلق بود، أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم و تشهيهم، لا من قبل التدين و الميل مع الحق. أو بحسدا أي حسدا بالغا منبعثا من أصل نفوسهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ بالمعجزات و النعوت المذكورة في التوراة. فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا العفو ترك عقوبة المذنب، و الصفح ترك تثريبه. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الذي هو الإذن في قتالهم و ضرب الجزية عليهم، أو قتل بني قريظة و إجلاء بني النضير. و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه منسوخ بآية السيف، و فيه نظر إذ الأمر غير مطلق إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الانتقام منهم.
وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ عطف على فاعفوا كأنه أمرهم بالصبر و المخالفة و اللجأ إلى اللّه تعالى بالعبادة و البر وَ ما «تُقَدِّمُوا» لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ كصلاة و صدقة. و قرئ «تقدموا» من أقدم تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه.
إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يضيع عنده عمل. و قرئ بالياء فيكون وعيدا.
[سورة البقرة (2): الآيات 111 الى 112]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 101
وَ قالُوا عطف على وَدَّ ، و الضمير لأهل الكتاب من اليهود و النصارى. لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى لف بين قولي الفريقين كما في قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى ثقة بفهم السامع، و هود جمع هائد كعوذ و عائذ، و توحيد الاسم المضمر في كان، و جمع الخبر لاعتبار اللفظ و المعنى.
تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ إشارة إلى الأماني المذكورة، و هي أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، و أن يردوهم كفارا، و أن لا يدخل الجنة غيرهم، أو إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم، و الجملة اعتراض و الأمنية أفعولة من التمني كالأضحوكة و الأعجوبة. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على اختصاصكم بدخول الجنة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم فإن كل قول لا دليل عليه غير ثابت.
بَلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص له نفسه، أو قصده، و أصله العضو وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَلَهُ أَجْرُهُ الذي وعد له على عمله عِنْدَ رَبِّهِ ثابتا عن ربه لا يضيع و لا ينقص، و الجملة جواب من إن كانت شرطية و خبرها إن كانت موصولة. و الفاء فيها لتضمنها معنى الشرط فيكون الرد بقوله: بلى وحده، و يحسن الوقف عليه. و يجوز أن يكون من أسلم فاعل فعل مقدر مثل بلى يدخلها من أسلم وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة.
[سورة البقرة (2): آية 113]
وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ أي على أمر يصح و يعتد به. نزلت لما قدم وفد نجران على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و أتاهم أحبار اليهود فتناظروا و تقاولوا بذلك. وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الواو للحال، و الكتاب للجنس أي: قالوا ذلك و هم من أهل العلم و الكتاب. كَذلِكَ مثل ذلك قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ كعبدة الأصنام، و المعطلة. وبخهم على المكابرة و التشبه بالجهال.
فإن قيل: لم وبخهم و قد صدقوا، فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء؟. قلت: لم يقصدوا ذلك، و إنما قصد به كل فريق إبطال دين الآخر من أصله، و الكفر بنبيه و كتابه مع أن ما لم ينسخ منهما حق واجب القبول و العمل به فَاللَّهُ يَحْكُمُ يفصل بَيْنَهُمْ بين الفريقين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العقاب. و قيل حكمه بينهم أن يكذبهم و يدخلهم النار.
[سورة البقرة (2): آية 114]
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ عام لكل من خرب مسجدا، أو سعى في تعطيل مكان مرشح للصلاة. و إن نزل في الروم لما غزوا بيت المقدس و خربوه و قتلوا أهله. أو في المشركين لما منعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ثاني مفعولي منع وَ سَعى فِي خَرابِها بالهدم، أو التعطيل أُولئِكَ أي المانعون ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية و خشوع فضلا عن أن يجترئوا على تخريبها، أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا عن أن يمنعوهم منها، أو ما كان لهم في علم اللّه و قضائه، فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة و استخلاص المساجد منهم و قد أنجز وعده. و قيل: معناه النهي عن تمكينهم من الدخول في المسجد، و اختلف الأئمة فيه فجوز أبو حنيفة و منع مالك، و فرق الشافعي بين المسجد الحرام و غيره لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قتل و سبي، أو ذلة بضرب الجزية وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ بكفرهم و ظلمهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 102
[سورة البقرة (2): آية 115]
وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يريد بهما ناحيتي الأرض، أي له الأرض كلها لا يختص به مكان، دون مكان، فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام، أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا. فَأَيْنَما تُوَلُّوا ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي جهته التي أمر بها فإن إمكان التولية لا يختص بمسجد أو مكان. أو فَثَمَ ذاته: أي هو عالم مطلع بما يفعل فيه إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ بإحاطته بالأشياء. أو برحمته يريد التوسعة على عباده عَلِيمٌ بمصالحهم و أعمالهم في الأماكن كلها و عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنها أنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة: و قيل: في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم، و على هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك. و قيل؛ هي توطئة لنسخ القبلة و تنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة.
[سورة البقرة (2): آية 116]
وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت لما قال اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، و النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، و مشركوا العرب: الملائكة بنات اللّه، و عطفه على قالت اليهود، أو منع، أو مفهوم قوله تعالى و من أظلم.
و قرأ ابن عامر بغير واو سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك، فإنه يقتضي التشبيه و الحاجة و سرعة الفناء، ألا ترى أن الأجرام الفلكية. مع إمكانها و فنائها. لما كانت باقية ما دام العالم، لم تتخذ ما يكون لها كالولد اتخاذ الحيوان و النبات، اختيارا أو طبعا. بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رد لما قالوه، و استدلال على فساده، و المعنى أنه تعالى خالق ما في السموات و الأرض، الذي من جملته الملائكة و عزير و المسيح كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون لا يمتنعون عن مشيئته و تكوينه، و كل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته: فلا يكون له ولد، لأن من حق الولد أن يجانس والده، و إنما جاء بما الذي لغير أولي العلم، و قال قانتون على تغليب أولي العلم تحقيرا لشأنهم، و تنوين كل عوض عن المضاف إليه، أي كل ما فيهما. و يجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعون مقرون بالعبودية، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة، و الآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه، و احتج بها الفقهاء على أن من ملك ولده عتق عليه، لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك، و ذلك يقتضي تنافيهما.
[سورة البقرة (2): آية 117]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما، و نظيره السميع في قوله:
أمن ريحانة الداعي السّميع
يؤرّقني و أصحابي هجوع
أو بديع سماواته و أرضه، من بدع فهو بديع، و هو حجة رابعة. و تقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه، و اللّه سبحانه و تعالى مبدع الأشياء كلها، فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال، فلا يكون والدا. و الإبداع: اختراع الشيء لا عن الشيء دفعة، و هو أليق بهذا الموضوع من الصنع الذي هو:
تركيب الصور لا بالعنصر، و التكوين الذي يكون بتغيير و في زمان غالبا. و قرئ بديع مجرورا على البدل من الضمير في له. و بديع منصوبا على المدح.
وَ إِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا، و أصل القضاء إتمام الشيء قوة كقوله تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ ، أو فعلا كقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ . و أطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث إنه يوجبه.
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من كان التامة بمعنى أحدث فيحدث، و ليس المراد به حقيقة أمر و امتثال، بل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 103
تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. و فيه تقرير لمعنى الإبداع، و إيماء إلى حجة خامسة و هي: أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار و مهلة، و فعله تعالى مستغن عن ذلك. و قرأ ابن عامر «فيكون» بفتح النون. و اعلم أن السبب في هذه الضلالة، أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على اللّه تعالى باعتبار أنه السبب الأول، حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر، و اللّه سبحانه و تعالى هو الرب الأكبر، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة، فاعتقدوا ذلك تقليدا، و لذلك كفّر قائله و منع منه مطلقا حسما لمادة الفساد.
[سورة البقرة (2): آية 118]
وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي جهلة المشركين، أو المتجاهلون من أهل الكتاب. لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ هلا يكلمنا اللّه كما يكلم الملائكة، أو يوحي إلينا بأنك رسوله. أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ حجة على صدقك، و الأول استكبار و الثاني جحود، لأن ما أتاهم آيات اللّه استهانة به و عنادا، كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الماضية مِثْلَ قَوْلِهِمْ فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً . هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قلوب هؤلاء و من قبلهم في العمى و العناد. و قرئ بتشديد الشين. قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يطلبون اليقين، أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة و لا عناد. و فيه إشارة إلى أنهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد اليقين، و إنما قالوه عتوا و عنادا.
[سورة البقرة (2): الآيات 119 الى 120]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ متلبسا مؤيدا به. بَشِيراً وَ نَذِيراً فلا عليك إن أصروا و كابروا. وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت. و قرأ نافع و يعقوب: لا تُسْئَلُ ، على أنه نهي للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن السؤال عن حال أبويه. أو تعظيم لعقوبة الكفار كأنها لفظاعتها لا يقدر أن يخبر عنها، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال. و الجحيم: المتأجج من النار.
وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ مبالغة في إقناط الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من إسلامهم، فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، فكيف يتبعون ملته. و لعلهم قالوا مثل ذلك فحكى اللّه عنهم و لذلك قال: قُلْ تعليما للجواب. إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي هدى اللّه الذي هو الإسلام هو الهدى إلى الحق، لا ما تدعون إليه. وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ آراءهم الزائفة. و الملة ما شرعه اللّه تعالى لعباده على لسان أنبيائه، من أمللت الكتاب إذا أمليته، و الهوى: رأي يتبع الشهوة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الوحي، أو الدين المعلوم صحته. ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ يدفع عنك عقابه و هو جواب لئن.
[سورة البقرة (2): آية 121]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد به مؤمني أهل الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ بمراعاة اللفظ عن التحريف و التدبر في معناه و العمل بمقتضاه، و هو حال مقدرة و الخبر ما بعده، أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 104
أهل الكتاب أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ بكتابهم دون المحرفين. وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ بالتحريف و الكفر بما يصدقه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
[سورة البقرة (2): الآيات 122 الى 123]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعم، و القيام بحقوقها، و الحذر من إضاعتها، و الخوف من الساعة و أهوالها، كرر ذلك و ختم به الكلام معهم مبالغة في النصح، و إيذانا بأنه فذلكة القضية و المقصود من القصة.
[سورة البقرة (2): آية 124]
وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ كلفه بأوامر و نواه، و الابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفهما، و الضمير لإبراهيم، و حسن لتقدمه لفظا و إن تأخر رتبة، لأن الشرط أحد المتقدمين، و الكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة في قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الآية و قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ إلى آخر الآية، و قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ كما فسرت بها في قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ و بالعشر التي هي من سننه، و بمناسك الحج؛ و بالكواكب، و القمرين، و الختان، و ذبح الولد، و النار، و الهجرة. على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن و بما تضمنته الآيات التي بعدها. و قرئ «إبراهيم ربه» على أنه دعا ربه بكلمات مثل أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى . و اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ليرى هل يجيبه. و قرأ ابن عامر إبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة. فَأَتَمَّهُنَ فأداهن كملا و قام بهن حق القيام، لقوله تعالى: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى و في القراءة الأخيرة الضمير لربه، أي أعطاه جميع ما دعاه. قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً استئناف إن أضمرت ناصب إذ كأنه قيل: فماذا قال ربه حين أتمهن، فأجيب بذلك. أو بيان لقوله ابتلى فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة، و تطهير البيت، و رفع قواعده، و الإسلام. و إن نصبته يقال فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها، أو جاعل من جعل الذي له مفعولان، و الإمام اسم لمن يؤتم به و إمامته عامة مؤبدة، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه. قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف أي و بعض ذريتي، كما تقول: و زيدا، في جواب: سأكرمك، و الذرية نسل الرجل، فعلية أو فعولة قلبت راؤها الثانية ياء كما في تقضيت. من الذر بمعنى التفريق، أو فعولة أو فعلية قلبت همزتها من الذرة بمعنى الخلق. و قرئ «ذريتي» بالكسر و هي لغة. قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ إجابة إلى ملتمسه، و تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة، و أنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من اللّه تعالى و عهد، و الظالم لا يصلح لها، و إنما ينالها البررة الأتقياء منهم. و فيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة، و أن الفاسق لا يصلح للإمامة. و قرئ «الظالمون» و المعنى واحد إذ كل ما نالك فقد نلته.
[سورة البقرة (2): آية 125]
وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي الكعبة، غلب عليها كالنجم على الثريا. مَثابَةً لِلنَّاسِ مرجعا يثوب إليه أعيان
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 105
الزوار أو أمثالهم، أو موضع ثواب يثابون بحجه و اعتماره. و قرئ: «مثابات» أي لأنه مثابة كل أحد.
وَ أَمْناً و موضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى: حَرَماً آمِناً* . و يتخطف الناس من حولهم، أو يأمن حاجّه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله، أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج، و هو مذهب أبي حنيفة رضي اللّه عنه. وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى على إرادة القول، أو عطف على المقدر عاملا لإذ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه و اتخذوا، على أن الخطاب لأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو أمر استحباب، و مقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه و دعا الناس إلى الحج، أو رفع بناء البيت و هو موضعه اليوم.
روي أنه عليه الصلاة و السلام أخذ بيد عمر رضي اللّه تعالى عنه و قال: «هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى، فقال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت»
و قيل المراد به الأمر بركعتي الطواف، لما
روى جابر أنه عليه الصلاة و السلام :
لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين و قرأ: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى
و للشافعي رحمه اللّه تعالى في وجوبهما قولان. و قيل: مقام إبراهيم الحرم كله. و قيل مواقف الحج و اتخاذها مصلى أن يدعي فيها، و يتقرب إلى اللّه تعالى. و قرأ نافع و ابن عامر وَ اتَّخِذُوا بلفظ الماضي عطفا على جَعَلْنَا ، أي: و اتخذوا الناس مقامه الموسوم به، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها. وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أمرناهما. أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ بأن طهرا بيتي و يجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول، يريد طهراه من الأوثان و الأنجاس و ما لا يليق به، أو أخلصاه. لِلطَّائِفِينَ حوله. وَ الْعاكِفِينَ المقيمين عنده، أو المعتكفين فيه وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ . أي المصلين، جمع راكع و ساجد.
[سورة البقرة (2): آية 126]
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا يريد به البلد، أو المكان. بَلَداً آمِناً ذا أمن كقوله تعالى؛ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* . أو آمنا أهله كقولك: ليل نائم وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أبدل من مَنْ آمَنَ أَهْلَهُ بدل البعض للتخصيص قالَ وَ مَنْ كَفَرَ عطف على آمَنَ و المعنى و ارزق من كفر، قاس إبراهيم عليه الصلاة و السلام الرزق على الإمامة، فنبه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن و الكافر، بخلاف الإمامة و التقدم في الدين. أو مبتدأ متضمن معنى الشرط فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا خبره، و الكفر و إن لم يكن سببا للتمتيع لكنه سبب لتقليله، بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب، و لذلك عطف عليه ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أي ألزه إليه لز المضطر لكفره و تضييعه ما متعته به من النعم، و قليلا نصب على المصدر، أو الظرف. و قرئ بلفظ الأمر فيهما على أنه من دعاء إبراهيم و في قال ضميره. و قرأ ابن عامر فَأُمَتِّعُهُ من أمتع. و قرئ «فنمتعه» ثم نضطره، و «اضطره» بكسر الهمزة على لغة من يكسر حروف المضارعة، و «أطره» بإدغام الضاد و هو ضعيف لأن حروف (ضم شفر) يدغم فيها ما يجاورها دون العكس.
وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف، و هو العذاب.
[سورة البقرة (2): آية 127]