کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 102
[سورة البقرة (2): آية 115]
وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يريد بهما ناحيتي الأرض، أي له الأرض كلها لا يختص به مكان، دون مكان، فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام، أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا. فَأَيْنَما تُوَلُّوا ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي جهته التي أمر بها فإن إمكان التولية لا يختص بمسجد أو مكان. أو فَثَمَ ذاته: أي هو عالم مطلع بما يفعل فيه إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ بإحاطته بالأشياء. أو برحمته يريد التوسعة على عباده عَلِيمٌ بمصالحهم و أعمالهم في الأماكن كلها و عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنها أنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة: و قيل: في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم، و على هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك. و قيل؛ هي توطئة لنسخ القبلة و تنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة.
[سورة البقرة (2): آية 116]
وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت لما قال اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، و النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، و مشركوا العرب: الملائكة بنات اللّه، و عطفه على قالت اليهود، أو منع، أو مفهوم قوله تعالى و من أظلم.
و قرأ ابن عامر بغير واو سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك، فإنه يقتضي التشبيه و الحاجة و سرعة الفناء، ألا ترى أن الأجرام الفلكية. مع إمكانها و فنائها. لما كانت باقية ما دام العالم، لم تتخذ ما يكون لها كالولد اتخاذ الحيوان و النبات، اختيارا أو طبعا. بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رد لما قالوه، و استدلال على فساده، و المعنى أنه تعالى خالق ما في السموات و الأرض، الذي من جملته الملائكة و عزير و المسيح كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون لا يمتنعون عن مشيئته و تكوينه، و كل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته: فلا يكون له ولد، لأن من حق الولد أن يجانس والده، و إنما جاء بما الذي لغير أولي العلم، و قال قانتون على تغليب أولي العلم تحقيرا لشأنهم، و تنوين كل عوض عن المضاف إليه، أي كل ما فيهما. و يجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعون مقرون بالعبودية، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة، و الآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه، و احتج بها الفقهاء على أن من ملك ولده عتق عليه، لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك، و ذلك يقتضي تنافيهما.
[سورة البقرة (2): آية 117]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما، و نظيره السميع في قوله:
أمن ريحانة الداعي السّميع
يؤرّقني و أصحابي هجوع
أو بديع سماواته و أرضه، من بدع فهو بديع، و هو حجة رابعة. و تقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه، و اللّه سبحانه و تعالى مبدع الأشياء كلها، فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال، فلا يكون والدا. و الإبداع: اختراع الشيء لا عن الشيء دفعة، و هو أليق بهذا الموضوع من الصنع الذي هو:
تركيب الصور لا بالعنصر، و التكوين الذي يكون بتغيير و في زمان غالبا. و قرئ بديع مجرورا على البدل من الضمير في له. و بديع منصوبا على المدح.
وَ إِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا، و أصل القضاء إتمام الشيء قوة كقوله تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ ، أو فعلا كقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ . و أطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث إنه يوجبه.
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من كان التامة بمعنى أحدث فيحدث، و ليس المراد به حقيقة أمر و امتثال، بل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 103
تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. و فيه تقرير لمعنى الإبداع، و إيماء إلى حجة خامسة و هي: أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار و مهلة، و فعله تعالى مستغن عن ذلك. و قرأ ابن عامر «فيكون» بفتح النون. و اعلم أن السبب في هذه الضلالة، أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على اللّه تعالى باعتبار أنه السبب الأول، حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر، و اللّه سبحانه و تعالى هو الرب الأكبر، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة، فاعتقدوا ذلك تقليدا، و لذلك كفّر قائله و منع منه مطلقا حسما لمادة الفساد.
[سورة البقرة (2): آية 118]
وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي جهلة المشركين، أو المتجاهلون من أهل الكتاب. لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ هلا يكلمنا اللّه كما يكلم الملائكة، أو يوحي إلينا بأنك رسوله. أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ حجة على صدقك، و الأول استكبار و الثاني جحود، لأن ما أتاهم آيات اللّه استهانة به و عنادا، كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الماضية مِثْلَ قَوْلِهِمْ فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً . هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قلوب هؤلاء و من قبلهم في العمى و العناد. و قرئ بتشديد الشين. قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يطلبون اليقين، أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة و لا عناد. و فيه إشارة إلى أنهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد اليقين، و إنما قالوه عتوا و عنادا.
[سورة البقرة (2): الآيات 119 الى 120]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ متلبسا مؤيدا به. بَشِيراً وَ نَذِيراً فلا عليك إن أصروا و كابروا. وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت. و قرأ نافع و يعقوب: لا تُسْئَلُ ، على أنه نهي للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن السؤال عن حال أبويه. أو تعظيم لعقوبة الكفار كأنها لفظاعتها لا يقدر أن يخبر عنها، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال. و الجحيم: المتأجج من النار.
وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ مبالغة في إقناط الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من إسلامهم، فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، فكيف يتبعون ملته. و لعلهم قالوا مثل ذلك فحكى اللّه عنهم و لذلك قال: قُلْ تعليما للجواب. إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي هدى اللّه الذي هو الإسلام هو الهدى إلى الحق، لا ما تدعون إليه. وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ آراءهم الزائفة. و الملة ما شرعه اللّه تعالى لعباده على لسان أنبيائه، من أمللت الكتاب إذا أمليته، و الهوى: رأي يتبع الشهوة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الوحي، أو الدين المعلوم صحته. ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ يدفع عنك عقابه و هو جواب لئن.
[سورة البقرة (2): آية 121]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد به مؤمني أهل الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ بمراعاة اللفظ عن التحريف و التدبر في معناه و العمل بمقتضاه، و هو حال مقدرة و الخبر ما بعده، أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 104
أهل الكتاب أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ بكتابهم دون المحرفين. وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ بالتحريف و الكفر بما يصدقه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
[سورة البقرة (2): الآيات 122 الى 123]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعم، و القيام بحقوقها، و الحذر من إضاعتها، و الخوف من الساعة و أهوالها، كرر ذلك و ختم به الكلام معهم مبالغة في النصح، و إيذانا بأنه فذلكة القضية و المقصود من القصة.
[سورة البقرة (2): آية 124]
وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ كلفه بأوامر و نواه، و الابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفهما، و الضمير لإبراهيم، و حسن لتقدمه لفظا و إن تأخر رتبة، لأن الشرط أحد المتقدمين، و الكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة في قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الآية و قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ إلى آخر الآية، و قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ كما فسرت بها في قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ و بالعشر التي هي من سننه، و بمناسك الحج؛ و بالكواكب، و القمرين، و الختان، و ذبح الولد، و النار، و الهجرة. على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن و بما تضمنته الآيات التي بعدها. و قرئ «إبراهيم ربه» على أنه دعا ربه بكلمات مثل أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى . و اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ليرى هل يجيبه. و قرأ ابن عامر إبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة. فَأَتَمَّهُنَ فأداهن كملا و قام بهن حق القيام، لقوله تعالى: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى و في القراءة الأخيرة الضمير لربه، أي أعطاه جميع ما دعاه. قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً استئناف إن أضمرت ناصب إذ كأنه قيل: فماذا قال ربه حين أتمهن، فأجيب بذلك. أو بيان لقوله ابتلى فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة، و تطهير البيت، و رفع قواعده، و الإسلام. و إن نصبته يقال فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها، أو جاعل من جعل الذي له مفعولان، و الإمام اسم لمن يؤتم به و إمامته عامة مؤبدة، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه. قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف أي و بعض ذريتي، كما تقول: و زيدا، في جواب: سأكرمك، و الذرية نسل الرجل، فعلية أو فعولة قلبت راؤها الثانية ياء كما في تقضيت. من الذر بمعنى التفريق، أو فعولة أو فعلية قلبت همزتها من الذرة بمعنى الخلق. و قرئ «ذريتي» بالكسر و هي لغة. قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ إجابة إلى ملتمسه، و تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة، و أنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من اللّه تعالى و عهد، و الظالم لا يصلح لها، و إنما ينالها البررة الأتقياء منهم. و فيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة، و أن الفاسق لا يصلح للإمامة. و قرئ «الظالمون» و المعنى واحد إذ كل ما نالك فقد نلته.
[سورة البقرة (2): آية 125]
وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي الكعبة، غلب عليها كالنجم على الثريا. مَثابَةً لِلنَّاسِ مرجعا يثوب إليه أعيان
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 105
الزوار أو أمثالهم، أو موضع ثواب يثابون بحجه و اعتماره. و قرئ: «مثابات» أي لأنه مثابة كل أحد.
وَ أَمْناً و موضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى: حَرَماً آمِناً* . و يتخطف الناس من حولهم، أو يأمن حاجّه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله، أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج، و هو مذهب أبي حنيفة رضي اللّه عنه. وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى على إرادة القول، أو عطف على المقدر عاملا لإذ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه و اتخذوا، على أن الخطاب لأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو أمر استحباب، و مقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه و دعا الناس إلى الحج، أو رفع بناء البيت و هو موضعه اليوم.
روي أنه عليه الصلاة و السلام أخذ بيد عمر رضي اللّه تعالى عنه و قال: «هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى، فقال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت»
و قيل المراد به الأمر بركعتي الطواف، لما
روى جابر أنه عليه الصلاة و السلام :
لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين و قرأ: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى
و للشافعي رحمه اللّه تعالى في وجوبهما قولان. و قيل: مقام إبراهيم الحرم كله. و قيل مواقف الحج و اتخاذها مصلى أن يدعي فيها، و يتقرب إلى اللّه تعالى. و قرأ نافع و ابن عامر وَ اتَّخِذُوا بلفظ الماضي عطفا على جَعَلْنَا ، أي: و اتخذوا الناس مقامه الموسوم به، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها. وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أمرناهما. أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ بأن طهرا بيتي و يجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول، يريد طهراه من الأوثان و الأنجاس و ما لا يليق به، أو أخلصاه. لِلطَّائِفِينَ حوله. وَ الْعاكِفِينَ المقيمين عنده، أو المعتكفين فيه وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ . أي المصلين، جمع راكع و ساجد.
[سورة البقرة (2): آية 126]
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا يريد به البلد، أو المكان. بَلَداً آمِناً ذا أمن كقوله تعالى؛ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* . أو آمنا أهله كقولك: ليل نائم وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أبدل من مَنْ آمَنَ أَهْلَهُ بدل البعض للتخصيص قالَ وَ مَنْ كَفَرَ عطف على آمَنَ و المعنى و ارزق من كفر، قاس إبراهيم عليه الصلاة و السلام الرزق على الإمامة، فنبه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن و الكافر، بخلاف الإمامة و التقدم في الدين. أو مبتدأ متضمن معنى الشرط فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا خبره، و الكفر و إن لم يكن سببا للتمتيع لكنه سبب لتقليله، بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب، و لذلك عطف عليه ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أي ألزه إليه لز المضطر لكفره و تضييعه ما متعته به من النعم، و قليلا نصب على المصدر، أو الظرف. و قرئ بلفظ الأمر فيهما على أنه من دعاء إبراهيم و في قال ضميره. و قرأ ابن عامر فَأُمَتِّعُهُ من أمتع. و قرئ «فنمتعه» ثم نضطره، و «اضطره» بكسر الهمزة على لغة من يكسر حروف المضارعة، و «أطره» بإدغام الضاد و هو ضعيف لأن حروف (ضم شفر) يدغم فيها ما يجاورها دون العكس.
وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف، و هو العذاب.
[سورة البقرة (2): آية 127]
وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ حكاية حال ماضية، و الْقَواعِدَ جمع قاعدة و هي الأساس صفة غالبة من القعود، بمعنى الثبات، و لعله مجاز من المقابل للقيام، و منه قعدك اللّه، و رفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، و يحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 106
فوقه و يرفعها بناؤها. و قيل المراد رفع مكانته و إظهار شرفه بتعظيمه، و دعاء الناس إلى حجه. و في إبهام القواعد و تبيينها تفخيم لشأنها. وَ إِسْماعِيلُ كان يناوله الحجارة، و لكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه. و قيل: كانا يبنيان في طرفين، أو على التناوب. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان ربنا تقبل منا، و قد قرئ به و الجملة حال منهما. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعاتنا الْعَلِيمُ بنياتنا.
[سورة البقرة (2): الآيات 128 الى 129]
رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ مخلصين لك، من أسلم وجهه، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم و انقاد، و المراد طلب الزيادة في الإخلاص و الإذعان، أو الثبات عليه. و قرئ «مسلمين» على أن المراد أنفسهما و هاجر. أو أن التثنية من مراتب الجمع. وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ أي و اجعل بعض ذريتنا، و إنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة، و لأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع، و خصا بعضهم لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة، و علما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص و الإقبال الكلي على اللّه تعالى، فإنه مما يشوش المعاش، و لذلك قيل: لو لا الحمقى لخربت الدنيا، و قيل: أراد بالأمة أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و يجوز أن تكون من للتبيين كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ قدم على المبين و فصل به بين العاطف و المعطوف كما في قوله تعالى: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ . وَ أَرِنا من رأى بمعنى أبصر، أو عرف، و لذلك لم يتجاوز مفعولين مَناسِكَنا متعبداتنا في الحج، أو مذابحنا. و النسك في الأصل غاية العبادة، و شاع في الحج لما فيه من الكلفة و البعد عن العادة. و قرأ ابن كثير و السوسي عن أبي عمرو و يعقوب أَرِنا ، قياسا على فخذ في فخذ، و فيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها. و قرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس وَ تُبْ عَلَيْنا استتابة لذريتهما، أو عما فرط منهما سهوا. و لعلهما قالا هضما لأنفسهما و إرشاد لذريتهما إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ لمن تاب.
رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ في الأمة المسلمة رَسُولًا مِنْهُمْ و لم يبعث من ذريتهما غير محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، فهو المجاب به دعوتهما كما
قال عليه الصلاة و السلام «أنا دعوة أبي إبراهيم، و بشرى عيسى، و رؤيا أمي»
. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ يقرأ عليهم و يبلغهم ما توحي إليه من دلائل التوحيد و النبوة. وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القرآن.
وَ الْحِكْمَةَ ما تكمل به نفوسهم من المعارف و الأحكام. وَ يُزَكِّيهِمْ عن الشرك و المعاصي إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا يقهر و لا يغلب على ما يريد الْحَكِيمُ المحكم له.
[سورة البقرة (2): آية 130]
وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ استبعاد و إنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء، أي لا يرغب أحد من ملته. إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ إلا من استمهنها و أذلها و استخف بها. قال المبرد و ثعلب سفه بالكسر متعد و بالضم لازم، و يشهد له ما
جاء في الحديث «الكبر أن تسفه الحق، و تغمص الناس»
. و قيل:
أصله سفه نفسه على الرفع، فنصب على التمييز نحو غبن رأيه و ألم رأسه، و قول جرير:
و نأخذ بعده بذناب عيش
أجب الظّهر ليس له سنام
أو سفه في نفسه، فنصب بنزع الخافض. و المستثنى في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 107
يرغب لأنه في معنى النفي. وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ حجة و بيان لذلك، فإن من كان صفوة العباد في الدنيا مشهودا له بالاستقامة و الصلاح يوم القيامة، كان حقيقا بالاتباع له لا يرغب عنه إلا سفيه، أو متسفه أذل نفسه بالجهل و الإعراض عن النظر.
[سورة البقرة (2): آية 131]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ظرف ل اصْطَفَيْناهُ ، أو تعليل له، أو منصوب بإضمار اذكر. كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة و التقدم، و أنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان و إخلاص السر حين، دعاه ربه و أخطر بباله دلائله المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام.
روي أنها نزلت لما دعا عبد الله بن سلام ابني أخيه: سلمة و مهاجرا إلى الإسلام، فأسلم سلمة و أبي مهاجر.
[سورة البقرة (2): آية 132]
وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح و قربة، و أصلها الوصل يقال:
وصاه إذا وصله، و فصاه: إذا فصله، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى، و الضمير في بها للملة، أو لقوله أسلمت على تأويل الكلمة، أو الجملة و قرأ نافع و ابن عامر وَ وَصَّى و الأول أبلغ وَ يَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، أي و وصى هو أيضا بها بنيه. و قرئ بالنصب على أنه ممن وصاه إبراهيم يا بَنِيَ . على إضمار القول عند البصريين، متعلق بوصي عند الكوفيين لأنه نوع منه و نظيره:
رجلان من ضبّة أخبرانا
أنّا رأينا رجلا عريانا
بالكسر، و بنو إبراهيم كانوا أربعة: إسماعيل و إسحاق و مدين و مدان. و قيل: ثمانية. و قيل: أربعة عشر:
و بنو يعقوب إثنا عشر: روبيل و شمعون و لاوي و يهوذا و يشسوخور و زبولون و نفتوني و دون و كوذا و أوشير و بنيامين و يوسف إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام، و المقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا، و الأمر بالثبات على الإسلام كقولك: لا تصلّ إلا و أنت خاشع، و تغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، و أن من حقه أن لا يحل بهم، و نظيره في الأمر مت و أنت شهيد. و
روي أن اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أ لست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت.
[سورة البقرة (2): آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ أم منقطعة و معنى الهمزة فيها الإنكار، أي ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت و قال لبنيه ما قال فلم تدعون اليهودية عليه، أو متصلة بمحذوف تقديره أ كنتم غائبين أم كنتم شاهدين. و قيل: الخطاب للمؤمنين و المعنى ما شاهدتم ذلك و إنما علمتموه بالوحي و قرئ «حضر» بالكسر.
إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إِذْ حَضَرَ . ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي: أي شيء تعبدونه، أراد به تقريرهم على التوحيد و الإسلام، و أخذ ميثاقهم على الثبات عليهما، و ما يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف، فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن تعيينه، و إن سئل عن وصفه قيل: ما زيد أ فقيه أم طبيب؟. قالُوا نَعْبُدُ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 108
إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ المتفق على وجوده و ألوهيته و وجوب عبادته، وعد إسماعيل من آبائه تغليبا للأب و الجد، أو لأنه كالأب
لقوله عليه الصلاة و السلام : «عم الرجل صنو أبيه»
. كما
قال عليه الصلاة و السلام في العباس رضي اللّه عنه «هذا بقية آبائي»
. و قرئ «إله أبيك»، على أنه جمع بالواو و النون كما قال:
و لما تبيّن أصواتنا
بكين و فديننا بالأبينا
أو مفرد و إبراهيم وحده عطف بيان.
إِلهاً واحِداً بدل من إله آبائك كقوله تعالى: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ . و فائدته التصريح بالتوحيد، و نفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور و التأكيد، أو نصب على الاختصاص وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ حال من فاعل نعبد، أو مفعوله، أو منهما، و يحتمل أن يكون اعتراضا.
[سورة البقرة (2): آية 134]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ يعني إبراهيم و يعقوب و بينهما، و الأمة في الأصل المقصود و سمي بها الجماعة، لأن الفرق تؤمها. لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ لكل أجر عمله، و المعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، و إنما تنتفعون بموافقتهم و اتباعهم، كما
قال عليه الصلاة و السلام : «لا يأتيني الناس بأعمالهم و تأتوني بأنسابكم»
وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم.
[سورة البقرة (2): آية 135]
وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى الضمير الغائب لأهل الكتاب و أو للتنويع، و المعنى مقالتهم أحد هذين القولين. قالت اليهود كونوا هودا. و قال النصارى كونوا نصارى تَهْتَدُوا جواب الأمر. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملته، أو بل نتبع ملة إبراهيم. و قرئ بالرفع أي ملته ملتنا، أو عكسه، أو نحن ملته بمعنى نحن أهل ملته. حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الحق. حال من المضاف، أو المضاف إليه كقوله تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً . وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بأهل الكتاب و غيرهم، فإنهم يدعون اتباعه و هم مشركون.
[سورة البقرة (2): آية 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الخطاب للمؤمنين لقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ . وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا القرآن، قدم ذكره لأنه أول بالإضافة إلينا، أو سبب للإيمان بغيره وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ الصحف، و هي و إن نزلت إلى إبراهيم لكنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها فهي أيضا منزلة إليهم، كما أن القرآن منزل إلينا، و ال. سباط جمع سبط و هو الحافد، يريد به حفدة يعقوب، أو أبناءه و ذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم و إسحاق وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى التوراة و الإنجيل، أفردهما بالذكر بحكم أبلغ لأن أمرهما بالإضافة إلى موسى و عيسى مغاير لما سبق، و النزاع وقع فيهما وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ جملة المذكورين منهم و غير المذكورين. مِنْ رَبِّهِمْ منزلا عليهم من ربهم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كاليهود، فنؤمن ببعض و نكفر ببعض، و أحد لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين.