کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 105
الزوار أو أمثالهم، أو موضع ثواب يثابون بحجه و اعتماره. و قرئ: «مثابات» أي لأنه مثابة كل أحد.
وَ أَمْناً و موضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى: حَرَماً آمِناً* . و يتخطف الناس من حولهم، أو يأمن حاجّه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله، أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج، و هو مذهب أبي حنيفة رضي اللّه عنه. وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى على إرادة القول، أو عطف على المقدر عاملا لإذ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه و اتخذوا، على أن الخطاب لأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو أمر استحباب، و مقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه و دعا الناس إلى الحج، أو رفع بناء البيت و هو موضعه اليوم.
روي أنه عليه الصلاة و السلام أخذ بيد عمر رضي اللّه تعالى عنه و قال: «هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى، فقال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت»
و قيل المراد به الأمر بركعتي الطواف، لما
روى جابر أنه عليه الصلاة و السلام :
لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين و قرأ: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى
و للشافعي رحمه اللّه تعالى في وجوبهما قولان. و قيل: مقام إبراهيم الحرم كله. و قيل مواقف الحج و اتخاذها مصلى أن يدعي فيها، و يتقرب إلى اللّه تعالى. و قرأ نافع و ابن عامر وَ اتَّخِذُوا بلفظ الماضي عطفا على جَعَلْنَا ، أي: و اتخذوا الناس مقامه الموسوم به، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها. وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أمرناهما. أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ بأن طهرا بيتي و يجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول، يريد طهراه من الأوثان و الأنجاس و ما لا يليق به، أو أخلصاه. لِلطَّائِفِينَ حوله. وَ الْعاكِفِينَ المقيمين عنده، أو المعتكفين فيه وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ . أي المصلين، جمع راكع و ساجد.
[سورة البقرة (2): آية 126]
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا يريد به البلد، أو المكان. بَلَداً آمِناً ذا أمن كقوله تعالى؛ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* . أو آمنا أهله كقولك: ليل نائم وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أبدل من مَنْ آمَنَ أَهْلَهُ بدل البعض للتخصيص قالَ وَ مَنْ كَفَرَ عطف على آمَنَ و المعنى و ارزق من كفر، قاس إبراهيم عليه الصلاة و السلام الرزق على الإمامة، فنبه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن و الكافر، بخلاف الإمامة و التقدم في الدين. أو مبتدأ متضمن معنى الشرط فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا خبره، و الكفر و إن لم يكن سببا للتمتيع لكنه سبب لتقليله، بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب، و لذلك عطف عليه ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أي ألزه إليه لز المضطر لكفره و تضييعه ما متعته به من النعم، و قليلا نصب على المصدر، أو الظرف. و قرئ بلفظ الأمر فيهما على أنه من دعاء إبراهيم و في قال ضميره. و قرأ ابن عامر فَأُمَتِّعُهُ من أمتع. و قرئ «فنمتعه» ثم نضطره، و «اضطره» بكسر الهمزة على لغة من يكسر حروف المضارعة، و «أطره» بإدغام الضاد و هو ضعيف لأن حروف (ضم شفر) يدغم فيها ما يجاورها دون العكس.
وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف، و هو العذاب.
[سورة البقرة (2): آية 127]
وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ حكاية حال ماضية، و الْقَواعِدَ جمع قاعدة و هي الأساس صفة غالبة من القعود، بمعنى الثبات، و لعله مجاز من المقابل للقيام، و منه قعدك اللّه، و رفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، و يحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 106
فوقه و يرفعها بناؤها. و قيل المراد رفع مكانته و إظهار شرفه بتعظيمه، و دعاء الناس إلى حجه. و في إبهام القواعد و تبيينها تفخيم لشأنها. وَ إِسْماعِيلُ كان يناوله الحجارة، و لكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه. و قيل: كانا يبنيان في طرفين، أو على التناوب. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان ربنا تقبل منا، و قد قرئ به و الجملة حال منهما. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعاتنا الْعَلِيمُ بنياتنا.
[سورة البقرة (2): الآيات 128 الى 129]
رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ مخلصين لك، من أسلم وجهه، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم و انقاد، و المراد طلب الزيادة في الإخلاص و الإذعان، أو الثبات عليه. و قرئ «مسلمين» على أن المراد أنفسهما و هاجر. أو أن التثنية من مراتب الجمع. وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ أي و اجعل بعض ذريتنا، و إنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة، و لأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع، و خصا بعضهم لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة، و علما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص و الإقبال الكلي على اللّه تعالى، فإنه مما يشوش المعاش، و لذلك قيل: لو لا الحمقى لخربت الدنيا، و قيل: أراد بالأمة أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و يجوز أن تكون من للتبيين كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ قدم على المبين و فصل به بين العاطف و المعطوف كما في قوله تعالى: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ . وَ أَرِنا من رأى بمعنى أبصر، أو عرف، و لذلك لم يتجاوز مفعولين مَناسِكَنا متعبداتنا في الحج، أو مذابحنا. و النسك في الأصل غاية العبادة، و شاع في الحج لما فيه من الكلفة و البعد عن العادة. و قرأ ابن كثير و السوسي عن أبي عمرو و يعقوب أَرِنا ، قياسا على فخذ في فخذ، و فيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها. و قرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس وَ تُبْ عَلَيْنا استتابة لذريتهما، أو عما فرط منهما سهوا. و لعلهما قالا هضما لأنفسهما و إرشاد لذريتهما إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ لمن تاب.
رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ في الأمة المسلمة رَسُولًا مِنْهُمْ و لم يبعث من ذريتهما غير محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، فهو المجاب به دعوتهما كما
قال عليه الصلاة و السلام «أنا دعوة أبي إبراهيم، و بشرى عيسى، و رؤيا أمي»
. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ يقرأ عليهم و يبلغهم ما توحي إليه من دلائل التوحيد و النبوة. وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القرآن.
وَ الْحِكْمَةَ ما تكمل به نفوسهم من المعارف و الأحكام. وَ يُزَكِّيهِمْ عن الشرك و المعاصي إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا يقهر و لا يغلب على ما يريد الْحَكِيمُ المحكم له.
[سورة البقرة (2): آية 130]
وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ استبعاد و إنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء، أي لا يرغب أحد من ملته. إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ إلا من استمهنها و أذلها و استخف بها. قال المبرد و ثعلب سفه بالكسر متعد و بالضم لازم، و يشهد له ما
جاء في الحديث «الكبر أن تسفه الحق، و تغمص الناس»
. و قيل:
أصله سفه نفسه على الرفع، فنصب على التمييز نحو غبن رأيه و ألم رأسه، و قول جرير:
و نأخذ بعده بذناب عيش
أجب الظّهر ليس له سنام
أو سفه في نفسه، فنصب بنزع الخافض. و المستثنى في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 107
يرغب لأنه في معنى النفي. وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ حجة و بيان لذلك، فإن من كان صفوة العباد في الدنيا مشهودا له بالاستقامة و الصلاح يوم القيامة، كان حقيقا بالاتباع له لا يرغب عنه إلا سفيه، أو متسفه أذل نفسه بالجهل و الإعراض عن النظر.
[سورة البقرة (2): آية 131]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ظرف ل اصْطَفَيْناهُ ، أو تعليل له، أو منصوب بإضمار اذكر. كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة و التقدم، و أنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان و إخلاص السر حين، دعاه ربه و أخطر بباله دلائله المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام.
روي أنها نزلت لما دعا عبد الله بن سلام ابني أخيه: سلمة و مهاجرا إلى الإسلام، فأسلم سلمة و أبي مهاجر.
[سورة البقرة (2): آية 132]
وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح و قربة، و أصلها الوصل يقال:
وصاه إذا وصله، و فصاه: إذا فصله، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى، و الضمير في بها للملة، أو لقوله أسلمت على تأويل الكلمة، أو الجملة و قرأ نافع و ابن عامر وَ وَصَّى و الأول أبلغ وَ يَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، أي و وصى هو أيضا بها بنيه. و قرئ بالنصب على أنه ممن وصاه إبراهيم يا بَنِيَ . على إضمار القول عند البصريين، متعلق بوصي عند الكوفيين لأنه نوع منه و نظيره:
رجلان من ضبّة أخبرانا
أنّا رأينا رجلا عريانا
بالكسر، و بنو إبراهيم كانوا أربعة: إسماعيل و إسحاق و مدين و مدان. و قيل: ثمانية. و قيل: أربعة عشر:
و بنو يعقوب إثنا عشر: روبيل و شمعون و لاوي و يهوذا و يشسوخور و زبولون و نفتوني و دون و كوذا و أوشير و بنيامين و يوسف إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام، و المقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا، و الأمر بالثبات على الإسلام كقولك: لا تصلّ إلا و أنت خاشع، و تغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، و أن من حقه أن لا يحل بهم، و نظيره في الأمر مت و أنت شهيد. و
روي أن اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أ لست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت.
[سورة البقرة (2): آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ أم منقطعة و معنى الهمزة فيها الإنكار، أي ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت و قال لبنيه ما قال فلم تدعون اليهودية عليه، أو متصلة بمحذوف تقديره أ كنتم غائبين أم كنتم شاهدين. و قيل: الخطاب للمؤمنين و المعنى ما شاهدتم ذلك و إنما علمتموه بالوحي و قرئ «حضر» بالكسر.
إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إِذْ حَضَرَ . ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي: أي شيء تعبدونه، أراد به تقريرهم على التوحيد و الإسلام، و أخذ ميثاقهم على الثبات عليهما، و ما يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف، فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن تعيينه، و إن سئل عن وصفه قيل: ما زيد أ فقيه أم طبيب؟. قالُوا نَعْبُدُ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 108
إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ المتفق على وجوده و ألوهيته و وجوب عبادته، وعد إسماعيل من آبائه تغليبا للأب و الجد، أو لأنه كالأب
لقوله عليه الصلاة و السلام : «عم الرجل صنو أبيه»
. كما
قال عليه الصلاة و السلام في العباس رضي اللّه عنه «هذا بقية آبائي»
. و قرئ «إله أبيك»، على أنه جمع بالواو و النون كما قال:
و لما تبيّن أصواتنا
بكين و فديننا بالأبينا
أو مفرد و إبراهيم وحده عطف بيان.
إِلهاً واحِداً بدل من إله آبائك كقوله تعالى: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ . و فائدته التصريح بالتوحيد، و نفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور و التأكيد، أو نصب على الاختصاص وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ حال من فاعل نعبد، أو مفعوله، أو منهما، و يحتمل أن يكون اعتراضا.
[سورة البقرة (2): آية 134]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ يعني إبراهيم و يعقوب و بينهما، و الأمة في الأصل المقصود و سمي بها الجماعة، لأن الفرق تؤمها. لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ لكل أجر عمله، و المعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، و إنما تنتفعون بموافقتهم و اتباعهم، كما
قال عليه الصلاة و السلام : «لا يأتيني الناس بأعمالهم و تأتوني بأنسابكم»
وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم.
[سورة البقرة (2): آية 135]
وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى الضمير الغائب لأهل الكتاب و أو للتنويع، و المعنى مقالتهم أحد هذين القولين. قالت اليهود كونوا هودا. و قال النصارى كونوا نصارى تَهْتَدُوا جواب الأمر. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملته، أو بل نتبع ملة إبراهيم. و قرئ بالرفع أي ملته ملتنا، أو عكسه، أو نحن ملته بمعنى نحن أهل ملته. حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الحق. حال من المضاف، أو المضاف إليه كقوله تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً . وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بأهل الكتاب و غيرهم، فإنهم يدعون اتباعه و هم مشركون.
[سورة البقرة (2): آية 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الخطاب للمؤمنين لقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ . وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا القرآن، قدم ذكره لأنه أول بالإضافة إلينا، أو سبب للإيمان بغيره وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ الصحف، و هي و إن نزلت إلى إبراهيم لكنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها فهي أيضا منزلة إليهم، كما أن القرآن منزل إلينا، و ال. سباط جمع سبط و هو الحافد، يريد به حفدة يعقوب، أو أبناءه و ذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم و إسحاق وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى التوراة و الإنجيل، أفردهما بالذكر بحكم أبلغ لأن أمرهما بالإضافة إلى موسى و عيسى مغاير لما سبق، و النزاع وقع فيهما وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ جملة المذكورين منهم و غير المذكورين. مِنْ رَبِّهِمْ منزلا عليهم من ربهم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كاليهود، فنؤمن ببعض و نكفر ببعض، و أحد لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين.
وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه. مُسْلِمُونَ مذعنون مخلصون.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 109
[سورة البقرة (2): آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا من باب التعجيز و التبكيت، كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إذ لا مثل لما آمن به المسلمون، و لا دين كدين الإسلام. و قيل: الباء للآلة دون التعدية، و المعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق، أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها . و المعنى فإن آمنوا باللّه إيمانا مثل إيمانكم به، أو المثل مقحم كما في قوله: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ أي عليه، و يشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي إن أعرضوا عن الإيمان، أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق، و هو المناوأة و المخالفة، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تسلية و تسكين للمؤمنين، و وعد لهم بالحفظ و النصرة على من ناوأهم وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ إما من تمام الوعد، بمعنى أنه يسمع أقوالكم و يعلم إخلاصكم و هو مجازيكم لا محالة، أو وعيد للمعرضين، بمعنى أنه يسمع ما يبدون و يعلم ما يخفون و هو معاقبهم عليه.
[سورة البقرة (2): آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
صِبْغَةَ اللَّهِ أي صبغنا اللّه صبغته، و هي فطرة اللّه تعالى التي فطر الناس عليها، فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة حلية المصبوغ، أو هدانا اللّه هدايته و أرشدنا حجته، أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره، و سماه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، و تداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب، أو للمشاكلة، فإن النصارى كانوا يغسمون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية و يقولون: هو تطهير لهم و به تتحقق نصرانيتهم، و نصبها على أنه مصدر مؤكد لقوله آمَنَّا ، و قيل على الإغراء، و قيل على البدل من ملة إبراهيم عليه السلام.
وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً لا صبغة أحسن من صبغته وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ تعريض بهم، أي لا نشرك به كشرككم. و هو عطف على آمنا، و ذلك يقتضي دخول قوله صِبْغَةَ اللَّهِ في مفعول قُولُوا و لمن ينصبها على الإغراء، أو البدل أن يضمر قولوا معطوفا على الزموا، أو اتبعوا ملة إبراهيم و قُولُوا آمَنَّا بدل اتبعوا، حتى لا يلزم فك النظم و سوء الترتيب.
[سورة البقرة (2): آية 139]
قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا أ تجادلوننا. فِي اللَّهِ في شأنه و اصطفائه نبيا من العرب دونكم،
روي أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا، لو كنت نبيا لكنت منا. فنزلت
: وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء من عباده. وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا، كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاما و تبكيتا، فإن كرامة النبوة إما تفضل من اللّه على من يشاء و الكل فيه سواء، و إما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة و التحلي بالإخلاص. و كما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها اللّه في إعطائها، فلنا أيضا أعمال. وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ موحدون نخصه بالإيمان و الطاعة دونكم.
[سورة البقرة (2): آية 140]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 110
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أم منقطعة و الهمزة للإنكار. و على قراءة ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في أَ تُحَاجُّونَنا ، بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة، أو ادعاء اليهودية، أو النصرانية على الأنبياء. قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ و قد نفى الأمرين عن إبراهيم بقوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا و احتج عليه بقوله:
وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ . و هؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا. وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ يعني شهادة اللّه لإبراهيم بالحنيفية و البراءة عن اليهودية و النصرانية، و المعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب، لأنهم كتموا هذه الشهادة. أو منا لو كتمنا هذه الشهادة، و فيه تعريض بكتمانهم شهادة اللّه لمحمد عليه الصلاة و السلام بالنبوة في كتبهم و غيرها، و من للابتداء كما في قوله تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ . وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد لهم، و قرئ بالياء.
[سورة البقرة (2): آية 141]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ تكرير للمبالغة في التحذير و الزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء و الاتكال عليهم. قيل: الخطاب فيما سبق لهم، و في هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم. و قيل: المراد بالأمة في الأول الأنبياء، و في الثاني أسلاف اليهود و النصارى.
[سورة البقرة (2): آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الذين خفت أحلامهم، و استمهنوها بالتقليد و الإعراض عن النظر. يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين و اليهود و المشركين. و فائدة تقديم الإخبار به توطين النفس و إعداد الجواب و إظهار المعجزة. ما وَلَّاهُمْ ما صرفهم. عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها يعني بيت المقدس، و القبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال، فصارت عرفا للمكان المتوجه نحوه للصلاة قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه، و إنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو ما ترتضيه الحكمة، و تقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة، و الكعبة أخرى.
[سورة البقرة (2): آية 143]
وَ كَذلِكَ إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل. جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا، أو عدولا مزكين بالعلم و العمل. و هو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط و تفريط، كالجود بين الإسراف و البخل، و الشجاعة بين التهور و الجبن، ثم أطلق على المتصف بها، مستويا فيه الواحد و الجمع، و المذكر و المؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها، و استدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً علة للجعل، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج، و أنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 111
أحد و ما ظلم، بل أوضح السبل و أرسل الرسل، فبلغوا و نصحوا. و لكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات، و الإعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم و على الذين من قبلكم، أو بعدكم.
روي «أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالبهم اللّه ببينة التبليغ. و هو أعلم بهم. إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم فيشهدون، فتقول الأمم من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم فيسأل عن حال أمته، فيشهد بعدالتهم»
و هذه الشهادة و إن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى، و قدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم. وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها أي الجهة التي كنت عليها، و هي الكعبة فإنه عليه الصلاة و السلام كان يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود. أو الصخرة لقول ابن عباس رضي اللّه عنهما (كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه و بينه فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، و على الثاني المنسوخ. و المعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، و ما جعلنا قبلتك بيت المقدس.
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ إلا لنمتحن به الناس و نعلم من يتبعك في الصلاة إليها، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه. أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، و ما كان لعارض يزول بزواله. و على الأول معناه: ما رددناك إلى التي كنت عليها، إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه و ضعف إيمانه. فإن قيل: كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل و هو لم يزل عالما. قلت:
هذا و أشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء، و المعنى ليتعلق علمنا به موجودا. و قيل: ليعلم رسوله و المؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه، و يشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول، و العلم إما بمعنى المعرفة، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب. وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إن هي المخففة من الثقيلة، و اللام هي الفاصلة.
و قال الكوفيون هي النافية و اللام بمعنى إلا. و الضمير لما دل عليه قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها من الجعلة، أو الردة، أو التولية، أو التحويلة، أو القبلة. و قرئ «لكبيرة» بالرفع فتكون كان زائدة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان و الاتباع وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي ثباتكم على الإيمان. و قيل: إيمانكم بالقبلة المنسوخة، أو صلاتكم إليها لما
روي : أنه عليه السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات يا رسول اللّه قبل التحويل من إخواننا فنزلت
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يضيع أجورهم و لا يدع صلاحهم، و لعله قدم الرؤوف و هو أبلغ محافظة على الفواصل و قرأ الحرميان و ابن عامر و حفص لرؤوف بالمد، و الباقون بالقصر.
[سورة البقرة (2): آية 144]