کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 108
إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ المتفق على وجوده و ألوهيته و وجوب عبادته، وعد إسماعيل من آبائه تغليبا للأب و الجد، أو لأنه كالأب
لقوله عليه الصلاة و السلام : «عم الرجل صنو أبيه»
. كما
قال عليه الصلاة و السلام في العباس رضي اللّه عنه «هذا بقية آبائي»
. و قرئ «إله أبيك»، على أنه جمع بالواو و النون كما قال:
و لما تبيّن أصواتنا
بكين و فديننا بالأبينا
أو مفرد و إبراهيم وحده عطف بيان.
إِلهاً واحِداً بدل من إله آبائك كقوله تعالى: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ . و فائدته التصريح بالتوحيد، و نفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور و التأكيد، أو نصب على الاختصاص وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ حال من فاعل نعبد، أو مفعوله، أو منهما، و يحتمل أن يكون اعتراضا.
[سورة البقرة (2): آية 134]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ يعني إبراهيم و يعقوب و بينهما، و الأمة في الأصل المقصود و سمي بها الجماعة، لأن الفرق تؤمها. لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ لكل أجر عمله، و المعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، و إنما تنتفعون بموافقتهم و اتباعهم، كما
قال عليه الصلاة و السلام : «لا يأتيني الناس بأعمالهم و تأتوني بأنسابكم»
وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم.
[سورة البقرة (2): آية 135]
وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى الضمير الغائب لأهل الكتاب و أو للتنويع، و المعنى مقالتهم أحد هذين القولين. قالت اليهود كونوا هودا. و قال النصارى كونوا نصارى تَهْتَدُوا جواب الأمر. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملته، أو بل نتبع ملة إبراهيم. و قرئ بالرفع أي ملته ملتنا، أو عكسه، أو نحن ملته بمعنى نحن أهل ملته. حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الحق. حال من المضاف، أو المضاف إليه كقوله تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً . وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بأهل الكتاب و غيرهم، فإنهم يدعون اتباعه و هم مشركون.
[سورة البقرة (2): آية 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الخطاب للمؤمنين لقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ . وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا القرآن، قدم ذكره لأنه أول بالإضافة إلينا، أو سبب للإيمان بغيره وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ الصحف، و هي و إن نزلت إلى إبراهيم لكنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها فهي أيضا منزلة إليهم، كما أن القرآن منزل إلينا، و ال. سباط جمع سبط و هو الحافد، يريد به حفدة يعقوب، أو أبناءه و ذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم و إسحاق وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى التوراة و الإنجيل، أفردهما بالذكر بحكم أبلغ لأن أمرهما بالإضافة إلى موسى و عيسى مغاير لما سبق، و النزاع وقع فيهما وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ جملة المذكورين منهم و غير المذكورين. مِنْ رَبِّهِمْ منزلا عليهم من ربهم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كاليهود، فنؤمن ببعض و نكفر ببعض، و أحد لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين.
وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه. مُسْلِمُونَ مذعنون مخلصون.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 109
[سورة البقرة (2): آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا من باب التعجيز و التبكيت، كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إذ لا مثل لما آمن به المسلمون، و لا دين كدين الإسلام. و قيل: الباء للآلة دون التعدية، و المعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق، أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها . و المعنى فإن آمنوا باللّه إيمانا مثل إيمانكم به، أو المثل مقحم كما في قوله: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ أي عليه، و يشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي إن أعرضوا عن الإيمان، أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق، و هو المناوأة و المخالفة، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تسلية و تسكين للمؤمنين، و وعد لهم بالحفظ و النصرة على من ناوأهم وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ إما من تمام الوعد، بمعنى أنه يسمع أقوالكم و يعلم إخلاصكم و هو مجازيكم لا محالة، أو وعيد للمعرضين، بمعنى أنه يسمع ما يبدون و يعلم ما يخفون و هو معاقبهم عليه.
[سورة البقرة (2): آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
صِبْغَةَ اللَّهِ أي صبغنا اللّه صبغته، و هي فطرة اللّه تعالى التي فطر الناس عليها، فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة حلية المصبوغ، أو هدانا اللّه هدايته و أرشدنا حجته، أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره، و سماه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، و تداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب، أو للمشاكلة، فإن النصارى كانوا يغسمون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية و يقولون: هو تطهير لهم و به تتحقق نصرانيتهم، و نصبها على أنه مصدر مؤكد لقوله آمَنَّا ، و قيل على الإغراء، و قيل على البدل من ملة إبراهيم عليه السلام.
وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً لا صبغة أحسن من صبغته وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ تعريض بهم، أي لا نشرك به كشرككم. و هو عطف على آمنا، و ذلك يقتضي دخول قوله صِبْغَةَ اللَّهِ في مفعول قُولُوا و لمن ينصبها على الإغراء، أو البدل أن يضمر قولوا معطوفا على الزموا، أو اتبعوا ملة إبراهيم و قُولُوا آمَنَّا بدل اتبعوا، حتى لا يلزم فك النظم و سوء الترتيب.
[سورة البقرة (2): آية 139]
قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا أ تجادلوننا. فِي اللَّهِ في شأنه و اصطفائه نبيا من العرب دونكم،
روي أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا، لو كنت نبيا لكنت منا. فنزلت
: وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء من عباده. وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا، كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاما و تبكيتا، فإن كرامة النبوة إما تفضل من اللّه على من يشاء و الكل فيه سواء، و إما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة و التحلي بالإخلاص. و كما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها اللّه في إعطائها، فلنا أيضا أعمال. وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ موحدون نخصه بالإيمان و الطاعة دونكم.
[سورة البقرة (2): آية 140]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 110
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أم منقطعة و الهمزة للإنكار. و على قراءة ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في أَ تُحَاجُّونَنا ، بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة، أو ادعاء اليهودية، أو النصرانية على الأنبياء. قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ و قد نفى الأمرين عن إبراهيم بقوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا و احتج عليه بقوله:
وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ . و هؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا. وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ يعني شهادة اللّه لإبراهيم بالحنيفية و البراءة عن اليهودية و النصرانية، و المعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب، لأنهم كتموا هذه الشهادة. أو منا لو كتمنا هذه الشهادة، و فيه تعريض بكتمانهم شهادة اللّه لمحمد عليه الصلاة و السلام بالنبوة في كتبهم و غيرها، و من للابتداء كما في قوله تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ . وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد لهم، و قرئ بالياء.
[سورة البقرة (2): آية 141]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ تكرير للمبالغة في التحذير و الزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء و الاتكال عليهم. قيل: الخطاب فيما سبق لهم، و في هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم. و قيل: المراد بالأمة في الأول الأنبياء، و في الثاني أسلاف اليهود و النصارى.
[سورة البقرة (2): آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الذين خفت أحلامهم، و استمهنوها بالتقليد و الإعراض عن النظر. يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين و اليهود و المشركين. و فائدة تقديم الإخبار به توطين النفس و إعداد الجواب و إظهار المعجزة. ما وَلَّاهُمْ ما صرفهم. عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها يعني بيت المقدس، و القبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال، فصارت عرفا للمكان المتوجه نحوه للصلاة قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه، و إنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو ما ترتضيه الحكمة، و تقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة، و الكعبة أخرى.
[سورة البقرة (2): آية 143]
وَ كَذلِكَ إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل. جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا، أو عدولا مزكين بالعلم و العمل. و هو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط و تفريط، كالجود بين الإسراف و البخل، و الشجاعة بين التهور و الجبن، ثم أطلق على المتصف بها، مستويا فيه الواحد و الجمع، و المذكر و المؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها، و استدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً علة للجعل، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج، و أنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 111
أحد و ما ظلم، بل أوضح السبل و أرسل الرسل، فبلغوا و نصحوا. و لكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات، و الإعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم و على الذين من قبلكم، أو بعدكم.
روي «أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالبهم اللّه ببينة التبليغ. و هو أعلم بهم. إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم فيشهدون، فتقول الأمم من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم فيسأل عن حال أمته، فيشهد بعدالتهم»
و هذه الشهادة و إن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى، و قدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم. وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها أي الجهة التي كنت عليها، و هي الكعبة فإنه عليه الصلاة و السلام كان يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود. أو الصخرة لقول ابن عباس رضي اللّه عنهما (كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه و بينه فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، و على الثاني المنسوخ. و المعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، و ما جعلنا قبلتك بيت المقدس.
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ إلا لنمتحن به الناس و نعلم من يتبعك في الصلاة إليها، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه. أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، و ما كان لعارض يزول بزواله. و على الأول معناه: ما رددناك إلى التي كنت عليها، إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه و ضعف إيمانه. فإن قيل: كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل و هو لم يزل عالما. قلت:
هذا و أشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء، و المعنى ليتعلق علمنا به موجودا. و قيل: ليعلم رسوله و المؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه، و يشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول، و العلم إما بمعنى المعرفة، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب. وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إن هي المخففة من الثقيلة، و اللام هي الفاصلة.
و قال الكوفيون هي النافية و اللام بمعنى إلا. و الضمير لما دل عليه قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها من الجعلة، أو الردة، أو التولية، أو التحويلة، أو القبلة. و قرئ «لكبيرة» بالرفع فتكون كان زائدة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان و الاتباع وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي ثباتكم على الإيمان. و قيل: إيمانكم بالقبلة المنسوخة، أو صلاتكم إليها لما
روي : أنه عليه السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات يا رسول اللّه قبل التحويل من إخواننا فنزلت
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يضيع أجورهم و لا يدع صلاحهم، و لعله قدم الرؤوف و هو أبلغ محافظة على الفواصل و قرأ الحرميان و ابن عامر و حفص لرؤوف بالمد، و الباقون بالقصر.
[سورة البقرة (2): آية 144]
قَدْ نَرى ربما نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقع في روعه و يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، و أقدم القبلتين و أدعى للعرب إلى الإيمان، و لمخالفة اليهود، و ذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر و لم يسأل فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً فلنمكننك من استقبالها من قولك: وليته كذا، إذا صيرته واليا له، أو فلنجعلنك تلي جهتها تَرْضاها تحبها و تتشوق إليها، لمقاصد دينية وافقت مشيئة اللّه و حكمته. فَوَلِّ وَجْهَكَ اصرف وجهك.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 112
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه. و قيل: الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء إذا انفصل، و دار شطور: أي منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانبه، و إن لم ينفصل كالقطر، و الحرام المحرم أي محرم فيه القتال، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه، و إنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة و السلام و كان في المدينة، و البعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلا القريب.
روي : أنه عليه الصلاة و السلام قدم المدينة، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين.
و قد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحول في الصلاة و استقبل الميزاب، و تبادل الرجال و النساء صفوفهم، فسمي المسجد مسجد القبلتين. وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خص الرسول بالخطاب تعظيما له و إيجابا لرغبته، ثم عمم تصريحا بعموم الحكم و تأكيدا لأمر القبلة و تحضيضا للأمة على المتابعة. وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ جملة لعلمهم بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة، و تفصيلا لتضمن كتبهم أنه صلّى اللّه عليه و سلّم يصلي إلى القبلتين، و الضمير للتحويل أو التوجه وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وعد و وعيد للفريقين. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بالياء.
[سورة البقرة (2): آية 145]
وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ برهان و حجة على أن الكعبة قبلة، و اللام موطئة للقسم ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب للقسم المضمر، و القسم و جوابه ساد مسد جواب الشرط، و المعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بالحجة، و إنما خالفوك مكابرة و عنادا. وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ قطع لأطماعهم، فإنهم قالوا: لو ثبتّ على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره، تعزيرا له و طمعا في رجوعه، و قبلتهم و إن تعددت لكنها متحدة بالبطلان و مخالفة الحق. وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإن اليهود تستقبل الصخرة، و النصارى مطلع الشمس. لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك، لتصلب كل حزب فيما هو فيه وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ على سبيل الفرض و التقدير، أي: و لئن اتبعتهم مثلا بعد ما بان لك الحق و جاءك فيه الوحي إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ و أكد تهديده و بالغ فيه من سبعة أوجه: أحدها: الإتيان باللام الموطئة للقسم: ثانيها: القسم المضمر. ثالثها: حرف التحقيق و هو أن. رابعها: تركيبه من جملة فعلية و جملة اسمية.
و خامسها: الإتيان باللام في الخبر. و سادسها: جعله من الظَّالِمِينَ ، و لم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم. و سابعها: التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم، و تحريصا على اقتفائه و تحذيرا عن متابعة الهوى، و استفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء.
[سورة البقرة (2): الآيات 146 الى 147]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني علماءهم يَعْرِفُونَهُ الضمير لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و إن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه. و قيل للعلم، أو القرآن، أو التحويل كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ يشهد للأول: أي يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبناءهم لا يلتبسون عليهم بغيرهم. عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه سأل عبد الله بن سلام رضي اللّه تعالى عنه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: أنا أعلم به مني بابني قال: و لم، قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته قد خانت. وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ تخصيص لمن عاند و استثناء لمن آمن.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ كلام مستأنف، و الحق إما مبتدأ خبره من ربك و اللام للعهد، و الإشارة إلى ما عليه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 113
الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أو الحق الذي يكتمونه، أو للجنس. و المعنى أن الْحَقُ ما ثبت أنه من اللّه تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب، و إما خبر مبتدأ محذوف أي هو الْحَقُ . و من ربك حال، أو خبر بعد خبر. و قرئ بالنصب على أنه بدل من الأول، أو مفعول يَعْلَمُونَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين في أنه من ربك، أو في كتمانهم الحق عالمين به، و ليس المراد به نهي الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن الشك فيه، لأنه غير متوقع منه و ليس بقصد و اختيار، بل إما تحقيق الأمر و إنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ.
[سورة البقرة (2): آية 148]
وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ و لكل أمة قبلة، أو لكل قوم من المسلمين جهة و جانب من الكعبة، و التنوين بدل الإضافة هُوَ مُوَلِّيها أحد المفعولين محذوف، أي هو موليها وجهه، أو اللّه تعالى موليها إياه. و قرئ:
«و لكل وجهة» بالإضافة، و المعنى و كل وجهة اللّه موليها أهلها، و اللام مزيدة للتأكيد جبرا لضعف العامل.
و قرأ ابن عامر: «مولاها» أي هو مولى تلك الجهة أي قد وليها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ من أمر القبلة و غيره مما ينال به سعادة الدارين، أو الفاضلات من الجهات و هي المسامتة للكعبة أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي: في أي موضع تكونوا من موافق و مخالف مجتمع الأجزاء و مفترقها، يحشركم اللّه إلى المحشر للجزاء، أو أينما تكونوا من أعماق الأرض و قلل الجبال، يقبض أرواحكم، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة، يأت بكم اللّه جميعا و يجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإماتة و الإحياء و الجمع.
[سورة البقرة (2): الآيات 149 الى 150]
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ و من أي مكان خرجت للسفر فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذا صليت وَ إِنَّهُ و إن هذا الأمر لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ و قرأ أبو عمرو بالياء و الباقون بالتاء.
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل. تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بابتغاء مرضاته، و جري العادة الإلهية على أن يولي أهل كل ملة و صاحب دعوة وجهة يستقبلها و يتميز بها. و دفع حجج المخالفين على ما نبينه. و قرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله تقريبا و تقريرا، مع أن القبلة لها شأن.
و النسخ من مظان الفتنة و الشبهة فبالحري أن يؤكد أمرها و يعاد ذكرها مرة بعد أخرى. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ علة لقوله فَوَلُّوا ، و المعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، و أن محمدا يجحد ديننا و يتبعنا في قبلتنا. و المشركين بأنه يدعي ملة إبراهيم و يخالف قبلته إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ استثناء من الناس، أي لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم فإنهم يقولون: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه و حبا لبلده، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه و يوشك أن يرجع إلى دينهم. و سمى هذه حجة كقوله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لأنهم يسوقونها
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 114
مساقها. و قيل الحجة بمعنى الاحتجاج. و قيل الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأسا كقوله:
و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
بهنّ فلول من قراع الكتائب
للعلم بأن الظالم لا حجة له، و قرئ: «ألا الذين ظلموا منهم». على أنه استئناف بحرف التنبيه. فَلا تَخْشَوْهُمْ فلا تخافوهم، فإن مطاعنهم لا تضركم. وَ اخْشَوْنِي فلا تخالفوا ما أمرتكم به. وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ علة محذوف أي و أمرتكم لإتمامي النعمة عليكم و إرادتي اهتدائكم، أو عطف على علة مقدرة مثل: و اخشوني لأحفظكم منهم و لأتم نعمتي عليكم، أو لئلا يكون و
في الحديث «تمام النعمة دخول الجنة»
. و
عن علي رضي اللّه تعالى عنه «تمام النعمة الموت على الإسلام».
[سورة البقرة (2): الآيات 151 الى 152]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ متصل بما قبله، أي و لأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة، أو في الآخرة كما أتممتها بإرسال رسول منكم، أو بما بعده كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني. يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ يحملكم على ما تصيرون به أزكياء، قدمه باعتبار القصد و أخره في دعوة إبراهيم عليه السلام باعتبار الفعل وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بالفكر و النظر، إذ لا طريق إلى معرفته سوى الوحي، و كرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر.
فَاذْكُرُونِي بالطاعة. أَذْكُرْكُمْ بالثواب. وَ اشْكُرُوا لِي ما أنعمت به عليكم. وَ لا تَكْفُرُونِ يجحد النعم و عصيان الأمر.
[سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 154]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ عن المعاصي و حظوظ النفس، وَ الصَّلاةِ التي هي أم العبادات و معراج المؤمنين، و مناجاة رب العالمين. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر و إجابة الدعوة. وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ أي هم أموات بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم أحياء. وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ ما حالهم، و هو تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد و لا من جنس ما يحس به من الحيوانات، و أنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي، و عن الحسن (إن الشهداء أحياء عند ربهم تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح و الفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا و عشيا فيصل إليهم الألم و الوجع). و الآية نزلت في شهداء بدر، و كانوا أربعة عشر، و فيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت داركة، و عليه جمهور الصحابة و التابعين، و به نطقت الآيات و السنن، و على هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من اللّه تعالى، و مزيد البهجة و الكرامة.
[سورة البقرة (2): آية 155]
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ و لنصيبنكم إصابة من يختبر لأحوالكم، هل تصبرون على البلاء و تستسلمون للقضاء؟