کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 117
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بالنبات وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عطف على أنزل، كأنه استدل بنزول المطر و تكوين النبات به و بث الحيوانات في الأرض، أو على أحيا فإن الدواب ينمون بالخصب و يعيشون بالحياة. و البث النشر و التفريق. وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ في مهابها و أحوالها، و قرأ حمزة و الكسائي على الإفراد. وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا ينزل و لا يتقشع، مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر اللّه تعالى.
و قيل: مسخر الرياح تقلبه في الجو بمشيئة اللّه تعالى، و اشتقاقه من السحب لأن بعضه يجر بعضا. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتفكرون فيها و ينظرون إليها بعيون عقولهم، و
عنه صلّى اللّه عليه و سلّم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها»
أي لم يتفكّر فيها.
و اعلم أن دلالة هذه الآيات على وجود الإله و وحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا، و الكلام المجمل أنها: أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة، و أنحاء مختلفة، إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرك السموات، أو بعضها كالأرض و أن تتحرك بعكس حركاتها، و بحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين، و أن لا يكون لها أوج و حضيض أصلا، و على هذا الوجه لبساطتها و تساوي أجزائها، فلا بد لها من موجد قادر حكيم، يوجدها على ما تستدعيه حكمته و تقتضيه مشيئته، متعاليا عن معارضة غيره. إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه الآخر. فإن توافقت إرادتهما: فالفعل إن كان لهما، لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد، و إن كان لأحدهما، لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وجز الآخر المنافي لآلهيته. و إن اختلفت: لزم التمانع و التطارد، كما أشار إليه بقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا . و في الآية تنبيه على شرف علم الكلام و أهله، و حث على البحث و النظر فيه.
[سورة البقرة (2): آية 165]
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً من الأصنام. و قيل من الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم لقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا و لعل المراد أعم منهما و هو ما يشغله عن اللّه يُحِبُّونَهُمْ يعظمونهم و يطيعونهم كَحُبِّ اللَّهِ كتعظيمه و الميل إلى طاعته، أي يسوون بينه و بينهم في المحبة و الطاعة، و المحبة: ميل القلب من الحب، استعير لحبة القلب، ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها و رسخ فيها، و محبة العبد للّه تعالى إرادة طاعته و الاعتناء بتحصيل مراضيه، و محبة اللّه للعبد إرادة إكرامه و استعماله في الطاعة، و صونه عن المعاصي. وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنه لا تنقطع محبتهم للّه تعالى، بخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب، و لذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى اللّه تعالى عند الشدائد، و يعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره.
وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا و لو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذ الأنداد إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ إذ عاينوه يوم القيامة. و أجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه كقوله تعالى: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ .
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ساد مسد مفعولي يَرَى ، و جواب لَوْ محذوف. أي لو يعلمون أن القوة للّه جميعا إذا عاينوا العذاب لندموا أشد الندم. و قيل هو متعلق الجواب و المفعولان محذوفان، و التقدير: و لو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع، لعلموا أن القوة للّه كلها لا ينفع و لا يضر غيره. و قرأ ابن عامر و نافع و يعقوب: و «لو ترى» على أنه خطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، أي و لو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما، و ابن عامر: «إذ يرون» على البناء للمفعول، و يعقوب إن بالكسر و كذا وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ على الاستئناف، أو إضمار القول.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 118
[سورة البقرة (2): الآيات 166 الى 167]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا بدل من إِذْ يَرَوْنَ ، أي إذ تبرأ المتبوعون من الأتباع. و قرئ بالعكس، أي تبرأ الأتباع من الرؤساء وَ رَأَوُا الْعَذابَ أي رائين له، و الواو للحال، و قد مضمرة. و قيل؛ عطف على تبرأ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ يحتمل العطف على تبرأ، أو رأوا و الواو للحال، و الأوّل أظهر. و الْأَسْبابُ : الوصل التي كانت بينهم من الاتّباع و الاتفاق على الدين، و الأغراض الداعية إلى ذلك. و أصل السبب: الحبل الذي يرتقي به الشجر. و قرئ و تَقَطَّعَتْ على البناء للمفعول.
وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا لَوْ للتمني و لذلك أجيب بالفاء، أي ليت لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كَذلِكَ مثل ذلك الاراء الفظيع. يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ندامات، و هي ثالث مفاعيل يرى أن كان من رؤية القلب و إلّا فحال وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ أصله و ما يخرجون، فعدل به إلى هذه العبارة، للمبالغة في الخلود و الإقناط عن الخلاص و الرجوع إلى الدنيا.
[سورة البقرة (2): آية 168]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة و الملابس، و حلالا مفعول كلوا، أو صفة مصدر محذوف، أو حال مما في الأرض و من للتبعيض إذ لا يؤكل كل ما في الأرض طَيِّباً يستطيبه الشرع، أو الشهوة المستقيمة. إذ الحلال دل على الأول. وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال و تحللوا الحرام. و قرأ نافع و أبو عمرو و حمزة و البزي و أبو بكر حيث وقع بتسكين الطاء و هما لغتان في جمع خطوة، و هي ما بين قدمي الخاطي. و قرئ بضمتين و همزة جعلت ضمة الطاء كأنها عليها، و بفتحتين على أنه جمع خطوة و هي المرة من الخطو إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة و إن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، و لذلك سماه وليا في قوله تعالى:
[سورة البقرة (2): آية 169]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ بيان لعداوته، و وجوب التحرز عن متابعته. و استعير الأمر لتزيينه و بعثه لهم على الشر تسفيها لرأيهم و تحقيرا لشأنهم، و السوء و الفحشاء ما أنكره العقل و استقبحه الشرع، و العطف لاختلاف الوصفين فإنه سوء لاغتمام العاقل به، و فحشاء باستقباحه إياه. و قيل: السوء يعم القبائح، و الفحشاء ما يتجاوز الحد في القبح من الكبائر. و قيل: الأول ما لا حد فيه، و الثاني ما شرع فيه الحد وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ كاتخاذ الأنداد و تحليل المحرمات و تحريم الطيبات، و فيه دليل على المنع من اتباع الظن رأسا. و أما اتباع المجتهد لما أدى إليه ظن مستند إلى مدرك شرعي فوجوبه قطعي، و الظن في طريقه كما بيناه في الكتب الأصولية.
[سورة البقرة (2): آية 170]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 119
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ الضمير للناس، و عدل بالخطاب عنهم للنداء على ضلالهم، كأنه التفت إلى العقلاء و قال لهم: انظروا إلى هؤلاء الحمقي ماذا يجيبون. قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ما وجدناهم عليه نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن و سائر ما أنزل اللّه من الحجج و الآيات، فجنحوا إلى التقليد. و قيل في طائفة من اليهود دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الإسلام، فقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خير منا و أعلم. و على هذا فيعم ما أنزل اللّه التوراة لأنها أيضا تدعو إلى الإسلام. أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ الواو للحال، أو العطف. و الهمزة للرد و التعجيب. و جواب لَوْ محذوف أي لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين، و لا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم. و هو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر و الاجتهاد. و أما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء و المجتهدين في الأحكام، فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتباع لما أنزل اللّه.
[سورة البقرة (2): آية 171]
وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً على حذف مضاف تقديره: و مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق، أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق. و المعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم، و لا يتأملون فيما يقرر معهم، فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت و لا تعرف مغزاه، و تحس بالنداء و لا تفهم معناه. و قيل هو تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها، بالبهائم التي تسمع الصوت و لا تفهم ما تحته. أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام، بالناعق في نعقه و هو التصويت على البهائم، و هذا يغني الإضمار و لكن لا يساعده قوله إلا دعاء و نداء، لأن الأصنام لا تسمع إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ رفع على الذم. فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي بالفعل للإخلال بالنظر.
[سورة البقرة (2): آية 172]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لما وسع الأمر على الناس كافة و أباح لهم ما في الأرض سوى ما حرم عليهم، أمر المؤمنين منهم أن يتحروا طيبات ما رزقوا و يقوموا بحقوقها فقال:
وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ على ما رزقكم و أحل لكم. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، و تقرون أنه مولى النعم، فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر. فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه، و هو عدم عند عدمه. و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «يقول اللّه تعالى: إني و الإنس و الجن في نبأ عظيم، أخلق و يعبد غيري، و أرزق و يشكر غيري».
[سورة البقرة (2): آية 173]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أكلها، أو الانتفاع بها. و هي التي ماتت من غير ذكاة. و الحديث ألحق بها ما أبين من حي. و السمك و الجراد أخرجهما العرف عنها، أو استثناه الشرع. و الحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل، كالتصرف في المدبوغ. وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ إنما خص اللحم بالذكر، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان و سائر أجزائه كالتابع له. وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي رفع به
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 120
الصوت عند ذبحه للصنم. و الإهلال أصله رؤية الهلال، يقال: أهل الهلال و أهللته. لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤي سمي ذلك إهلالا، ثم قيل لرفع الصوت و إن كان لغيره. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ بالاستيثار على مضطر آخر. و قرأ عاصم و أبو عمرو حمزة بكسر النون. وَ لا عادٍ سد الرمق، أو الجوعة. و قيل؛ غير باغ على الوالي. و لا عاد بقطع الطريق. فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر و هو ظاهر مذهب الشافعي و قول أحمد رحمهما اللّه تعالى. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تناوله. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فعل رَحِيمٌ بالرخصة فيه. فإن قيل: إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر و كم من حرام لم يذكر. قلت: المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها.
[سورة البقرة (2): الآيات 174 الى 175]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا عوضا حقيرا. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إما في الحال، لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقوله:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة
بعيدة مهوى القرط طيبة النّشر
يعني الدية. أو في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار. و معنى في بطونهم: ملء بطونهم. يقال أكل في بطنه و أكل في بعض بطنه كقوله:
كلوا في بعض بطنكمو تعفوا وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عبارة عن غضبه عليهم، و تعريض بحرمانهم حال مقابليهم في الكرامة و الزلفى من اللّه. وَ لا يُزَكِّيهِمْ لا يثني عليهم. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى في الدنيا. وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ في الآخرة، بكتمان الحق للمطامع و الأغراض الدنيوية. فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النار من غيره مبالاة. و ما تامة مرفوعة بالابتداء، و تخصيصها كتخصيص قولهم:
شرّ أهرّ ذا ناب أو استفهامية و ما بعدها الخبر، أو موصولة و ما بعدها صلة و الخبر محذوف.
[سورة البقرة (2): آية 176]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ أي ذلك العذاب بسبب أن اللّه نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان. وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ اللام فيه إما للجنس، و اختلافهم إيمانهم ببعض كتب اللّه تعالى و كفرهم ببعض. أو للعهد، و الإشارة إما إلى التوراة، و اختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها، أو خلفوا خلال ما أنزل اللّه تعالى مكانه، أي حرفوا ما فيها. و إما إلى القرآن و اختلافهم فيه قولهم سحر، و تقوّل، و كلام علمه بشر، و أساطير الأولين. لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ لفي خلاف بعيد عن الحق.
[سورة البقرة (2): آية 177]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 121
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ الْبِرَّ كل فعل مرض، و الخطاب لأهل الكتاب فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت، و ادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد اللّه تعالى عليهم و قال؛ ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، و لكن البر ما بينه اللّه و اتبعه المؤمنون. و قيل عام لهم و للمسلمين، أي ليس البر مقصورا بأمر القبلة، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها، و قرأ حمزة و حفص البر بالنصب وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ أي و لكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن باللّه، أو لكن ذا البر من آمن، و يؤيده قراءة من قرأ و لكن «البار». و الأول أوفق و أحسن. و المراد بالكتاب الجنس، أو القرآن. و قرأ نافع و ابن عامر وَ لكِنَ بالتخفيف و رفع الْبِرَّ . وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي على حب المال،
قال عليه الصلاة و السلام لما سئل أي الصدقة أفضل قال «أن تؤتيه و أنت صحيح شحيح تأمل العيش، و تخشى الفقر»
. و قيل الضمير للّه، أو للمصدر.
و الجار و المجرور في موضع الحال. ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى يريد المحاويج منهم، و لم يقيد لعدم الالتباس.
و قدم ذوي القربى لأن إيتاءهم أفضل كما
قال عليه الصلاة و السلام «صدقتك على المسكين صدقة و على ذوي رحمك اثنتان، صدقة و صلة»
. وَ الْمَساكِينَ جمع المسكين و هو الذي أسكنته الخلة، و أصله دائم السكون كالمسكير للدائم السكر. وَ ابْنَ السَّبِيلِ المسافر، سمي به لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريق.
و قيل الضيف لأن السبيل يرعف به. وَ السَّائِلِينَ الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، و
قال عليه السلام «للسائل حق و إن جاء على فرسه»
. وَ فِي الرِّقابِ و في تخليصها بمعاونة المكاتبين، أو فك الأسارى، أو ابتياع الرقاب لعتقها. وَ أَقامَ الصَّلاةَ المفروضة. وَ آتَى الزَّكاةَ يحتمل أن يكون المقصود منه و من قوله:
وَ آتَى الْمالَ الزكاة المفروضة، و لكن الغرض من الأول بيان مصارفها، و من الثاني أداؤها و الحث عليها.
و يحتمل أن يكون المراد بالأول نوافل الصدقات أو حقوقا كانت في المال سوى الزكاة. و
في الحديث «نسخت الزكاة كل صدقة»
. وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا عطف على مَنْ آمَنَ . وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ نصبه على المدح و لم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال. و عن الأزهري: البأساء في الأموال كالفقر، و الضراء في الأنفس كالمرض. وَ حِينَ الْبَأْسِ وقت مجاهدة العدو. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الدين و اتباع الحق و طلب البر. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن الكفر و سائر الرذائل. و الآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها، دالة عليها صريحا أو ضمنا، فإنها بكثرتها و تشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء:
صحة الاعتقاد، و حسن المعاشرة، و تهذيب النفس. و قد أشير إلى الأول بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ إلى وَ النَّبِيِّينَ . و إلى الثاني بقوله: وَ آتَى الْمالَ إلى وَ فِي الرِّقابِ و إلى الثالث بقوله: وَ أَقامَ الصَّلاةَ إلى آخرها و لذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه و اعتقاده بالتقوى، اعتبارا بمعاشرته للخلق و معاملته مع الحق. و إليه أشار
بقوله عليه السلام «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان»
. [سورة البقرة (2): آية 178]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء، و كان لأحدهما طول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 122
و الذكر بالأنثى. فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنزلت، و أمرهم أن يتباوءوا. و لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد و الذكر بالأنثى، كما لا تدل على عكسه، فإن المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم و قد بيّنا ما كان الغرض و إنما منع مالك و الشافعي رضي اللّه تعالى عنهما. قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره، لما
روي عن علي رضي اللّه تعالى عنه : أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و نفاه سنة و لم يقده به
. و
روي عنه أنه قال : من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد و لا حر بعبد
و لأن أبا بكر و عمر رضي اللّه تعالى عنهما، كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير.
و للقياس على الأطراف، و من سلم دلالته فليس له دعوى نسخه بقوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن. و احتجت الحنفية به على أن مقتضى العمد القود وحده، و هو ضعيف إذ الواجب على التخيير يصدق عليه أنه وجب و كتب، و لذلك قيل التخيير بين الواجب و غيره ليس نسخا لوجوبه. و قرئ «كتب» على البناء للفاعل و «القصاص» بالنصب، و كذلك كل فعل جاء في القرآن. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي شيء من العفو، لأن عفا لازم. و فائدته الإشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إسقاط القصاص. و قيل عفا بمعنى ترك، و شيء مفعول به و هو ضعيف، إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه. و عفا يعدى بعن إلى الجاني و إلى الذنب، قال اللّه تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ و قال عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ . فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام و عليه ما في الآية كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة، أخيه، يعني ولي الدم. و ذكره بلفظ الإخوة الثابتة بينهما من الجنسية و الإسلام ليرق له و يعطف عليه. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. و المراد به وصية العافي بأن يطلب الدية بالمعروف فلا يعنف، و المعفو عنه بأن يؤديها بالإحسان: و هو أن لا يمطل و لا يبخس. و فيه دليل على أن الدية أحد مقتضى العمد، و إلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو. و للشافعي رضي اللّه تعالى عنه في المسألة قولان. ذلِكَ أي الحكم المذكور في العفو و الدية. تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ لما فيه من التسهيل و النفع، قيل كتب على اليهود القصاص وحده، و على النصارى العفو مطلقا. و خيرت هذه الأمة بينهما و بين الدية تيسيرا عليهم و تقديرا للحكم على حسب مراتبهم. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي قتل بعد العفو و أخذ الدية. فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. و قيل في الدنيا بأن يقتل لا محالة
لقوله عليه السلام «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية»
. [سورة البقرة (2): آية 179]
وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كلام في غاية الفصاحة و البلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده، و عرف القصاص و نكر الحياة، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما، و ذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل، فيكون سبب حياة نفسين. و لأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، و الجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم. فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم. و على الأول فيه إضمار و على الثاني تخصيص. و قيل: المراد بها الحياة الأخروية، فإن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة. وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ يحتمل أن يكونا خيرين لحياة و أن يكون أحدهما خبرا و الآخر صلة له، أو حالا من الضمير المستكن فيه. و قرئ في «القصص» أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة، أو في القرآن حياة للقلوب. يا أُولِي الْأَلْبابِ ذوي العقول الكاملة. ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح و حفظ النفوس. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ في المحافظة على القصاص و الحكم به و الإذعان له، أو عن القصاص فتكفوا عن القتل.
[سورة البقرة (2): آية 180]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 123
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي حضرت أسبابه و ظهرت أماراته. إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا.
و قيل مالا كثيرا، لما
روي عن على رضي اللّه تعالى عنه : أن مولى له أراد أن يوصي و له سبعمائة درهم، فمنعه و قال قال اللّه تعالى
إِنْ تَرَكَ خَيْراً و الخير هو المال الكثير. و
عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها : أن رجلا أراد أن يوصي فسألته كم مالك، فقال: ثلاثة آلاف فقالت: كم عيالك قال: أربعة قالت: إنما قال اللّه تعالى
إِنْ تَرَكَ خَيْراً و إن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك. الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ مرفوع بكتب، و تذكير فعلها للفصل، أو على تأويل أن يوصي، أو الإيصاء و لذلك ذكر الراجع في قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ .
و العامل في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدمه عليها. و قيل مبتدأ خبره لِلْوالِدَيْنِ ، و الجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كقوله:
من يفعل الحسنات اللّه يشكرها
و الشّرّ بالشّر عند اللّه مثلان
و ردّ بأنه إن صح فمن ضرورات الشعر. و كان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث و
بقوله عليه الصلاة و السلام «إن اللّه أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث»
. و فيه نظر: لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا، و الحديث من الآحاد، و تلقي الأمة له بالقبول لا يحلقه بالمتواتر. و لعله احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به اللّه من توريث الوالدين و الأقربين بقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ . أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به اللّه عليهم بِالْمَعْرُوفِ بالعدل فلا يفضل الغنى، و لا يتجاوز الثلث. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا.
[سورة البقرة (2): الآيات 181 الى 182]
فَمَنْ بَدَّلَهُ غيره من الأوصياء و الشهود. بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي وصل إليه و تحقق عنده، فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل، إلا على مبدليه لأنهم الذين خافوا و خالفوا الشرع.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيد للمبدل بغير حق.
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ أي توقع و علم، من قولهم أخاف أن ترسل السماء. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر مُوصٍ مشددا. جَنَفاً ميلا بالخطإ في الوصية. أَوْ إِثْماً تعمدا للحيف. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في هذا التبديل، لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد للمصلح، و ذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم و كون الفعل من جنس ما يؤثم.
[سورة البقرة (2): آية 183]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني الأنبياء و الأمم من لدن آدم عليه السلام، و فيه توكيد للحكم و ترغيب في الفعل و تطييب على النفس. و الصوم في اللغة: الإمساك عما تنازع إليه النفس، و في الشرع: الإمساك عن المفطرات بياض النهار، فإنها معظم ما تشتهيه النفس. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما
قال عليه الصلاة و السلام «فعليه بالصوم فإن الصوم له و جاء»