کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 132
أن الإفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه. وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من جاهليتكم في تغيير المناسك و نحوه. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر ذنب المستغفر و ينعم عليه.
[سورة البقرة (2): آية 200]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فإذا قضيتم العبادات الحجية و فرغتم منها. فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ فأكثروا ذكره و بالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة. و كانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد و الجبل فيذكرون مفاخر آبائهم و محاسن أيامهم. أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكرا على المجاز و المعنى: فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه و أبلغ. أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا. و إما منصوب بالعطف على آباءكم و ذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آباءكم. أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره: أو كونوا أشد ذكرا للّه منكم لآبائكم. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر اللّه تعالى إلا الدنيا و مكثر يطلب به خير الدارين، و المراد الحث على الإكثار و الإرشاد إليه. رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا اجعل إيتاءنا و منحتنا في الدنيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي نصيب و حظ لأن همه مقصور بالدنيا، أو من طلب خلاق.
[سورة البقرة (2): الآيات 201 الى 202]
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني الصحة و الكفاف و توفيق الخير. وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً يعني الثواب و الرحمة. وَ قِنا عَذابَ النَّارِ بالعفو و المغفرة، و
قول علي رضي اللّه تعالى عنه : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، و في الآخرة الحوراء
. و عذاب النار المرأة السوء و قول الحسن: الحسنة في الدنيا العلم و العبادة، و في الآخرة الجنة. و قنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات و الذنوب و المؤدية إلى النار أمثلة للمراد بها.
أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الثاني. و قيل إليهما. لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا أي من جنسه و هو جزاؤه، أو من أجله كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه فسمي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال. وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد على كثرتهم و كثرة أعمالهم في مقدار لمحة، أو يوشك أن يقيم القيامة و يحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات و اكتسبوا الحسنات.
[سورة البقرة (2): آية 203]
وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ كبروه في أدبار الصلاة و عند ذبح القرابين و رمي الجمار و غيرها في أيام التشريق. فَمَنْ تَعَجَّلَ فمن استعجل النفر. فِي يَوْمَيْنِ يوم القر و الذي بعده، أي فمن نفر في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار عندنا، و قبل طلوع الفجر عند أبي حنيفة. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله. وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ و من تأخر في النفر حتى رمى في اليوم الثالث بعد الزوال، و قال أبو حنيفة: يجوز تقديم رميه على الزوال. و معنى نفي الإثم بالتعجيل و التأخير التخيير بينهما و الرد على أهل الجاهلية فإن منهم من أثم المتعجل و منهم من أثم المتأخر. لِمَنِ اتَّقى أي الذي ذكر من التخيير، أو من الأحكام لمن اتقى لأنه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 133
الحاج على الحقيقة و المنتفع به، أو لأجله حتى لا يتضرر بترك ما يهمه منهما. وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مجامع أموركم ليعبأ بكم. وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء بعد الإحياء. و أصل الحشر الجمع و ضم المتفرق.
[سورة البقرة (2): آية 204]
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ يروقك و يعظم في نفسك، و التعجب: حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بالقول، أي ما يقوله في أمور الدنيا و أسباب المعاش، أو في معنى الدنيا فإنها مراد من ادعاء المحبة و إظهار الإيمان، أو يعجبك أي يعجبك قوله في الدنيا حلاوة و فصاحة و لا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة و الحبسة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام. وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ يحلف و يستشهد اللّه على أن ما في قلبه موافق لكلامه. وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ شديد العداوة و الجدال للمسلمين، و الخصام المخاصمة و يجوز أن يكون جمع خصم كصعب و صعاب بمعنى أشد الخصوم خصومة.
قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي و كان حسن المنظر حلو المنطق يوالي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و يدعي الإسلام.
و قيل في المنافقين كلهم.
[سورة البقرة (2): الآيات 205 الى 206]
وَ إِذا تَوَلَّى أدبر و انصرف عنك. و قيل: إذا غلب و صار واليا. سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيتهم و أحرق زروعهم و أهلك مواشيهم، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل و الإتلاف، أو بالظلم حتى يمنع اللّه بشؤمه القطر فيهلك الحرث و النسل. وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه.
وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ حملته الأنفة و حمية الجاهلية على الإثم الذي يؤمر باتقانه لجاجا، من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه و ألزمته إياه. فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ كفته جزاء و عذابا، و جَهَنَّمُ .
علم لدار العقاب و هو في الأصل مرادف للنار. و قيل معرب. وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ جواب قسم مقدر و المخصوص بالذم محذوف للعلم به، و المهاد الفراش. و قيل ما يوطأ للجنب.
[سورة البقرة (2): آية 207]
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ يبيعها أي يبذلها في الجهاد، أو يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر حتى يقتل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ طلبا لرضاه. قيل: إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي، أخذه المشركون و عذبوه ليرتد فقال: إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم و لا يضركم إن كنت عليكم فخلوني و ما أنا عليه و خذوا مالي فقبلوه منه و أتى المدينة. وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء و كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة و الشهداء.
[سورة البقرة (2): الآيات 208 الى 209]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السِّلْمِ بالكسر و الفتح الاستسلام و الطاعة، و لذلك يطلق في الصلح و الإسلام. فتحه ابن كثير و نافع و الكسائي و كسره الباقون. و كافة اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 134
من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب قال:
السّلم تأخذ منها ما رضيت به
و الحرب يكفيك من أنفاسها جرع
و المعنى استسلموا للّه و أطيعوه جملة ظاهرا و باطنا، و الخطاب للمنافقين، أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم و لا تخلطوا به غيره. و الخطاب لمؤمني أهل الكتاب، فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت و حرموا الإبل و ألبانها، أو في شرائع اللّه كلها بالإيمان بالأنبياء و الكتب جميعا و الخطاب لأهل الكتاب، أو في شعب الإسلام و أحكامه كلها فلا تخلوا بشيء و الخطاب للمسلمين. وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بالتفرق و التفريق. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ عن الدخول في السلم. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الآيات و الحجج الشاهدة على أنه الحق. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه الانتقام. حَكِيمٌ لا ينتقم إلا بحق.
[سورة البقرة (2): آية 210]
هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام في معنى النفي و لذلك جاء بعده. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي يأتيهم أمره أو بأسه كقوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فَجاءَها بَأْسُنا أو يأتيهم اللّه ببأسه فحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي ظُلَلٍ جمع ظلة كقلة و قلل و هي ما أظلك، و قرئ «ظلال» كقلال. مِنَ الْغَمامِ السحاب الأبيض و إنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير. وَ الْمَلائِكَةُ فإنهم الواسطة في إتيان أمره، أو الآتون على الحقيقة ببأسه. و قرئ بالجر عطفا على ظُلَلٍ أو الْغَمامِ .
وَ قُضِيَ الْأَمْرُ أتم أمر إهلاكهم و فرغ منه، وضع الماضي موضع المستقبل لدنوه و تيقن وقوعه. و قرئ و «قضاء الأمر» عطفا على الملائكة. وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و عاصم على البناء للمفعول على أنه من الراجع، و قرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع، و قرئ أيضا بالتذكير و بناء المفعول.
[سورة البقرة (2): آية 211]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أمر للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أو لكل أحد و المراد بهذا السؤال تقريعهم. كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ معجزة ظاهرة، أو آية في الكتب شاهدة على الحق و الصواب على أيدي الأنبياء، و كَمْ خبرية أو استفهامية مقررة و محلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر إلى المبتدأ. و آية مميزها. و من للفصل. وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ أي آيات اللّه فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم، يجعلها سبب الضلالة و ازدياد الرجس، أو بالتحريف و التأويل الزائغ. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ من بعد ما وصلت إليه و تمكن من معرفتها، و فيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها و لذلك قيل تقديرها فبدلوها وَ مَنْ يُبَدِّلْ .
فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة.
[سورة البقرة (2): آية 212]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 135
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا حسنت في أعينهم و أشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها و أعرضوا عن غيرها، و المزين في الحقيقة هو اللّه تعالى إذ ما من شيء إلا و هو فاعله، و يدل عليه قراءة «زيّن» على البناء للفاعل، و كل من الشيطان و القوة الحيوانية و ما خلقه اللّه فيها من الأمور البهية و الأشياء الشهية مزين بالعرض.
وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يريد فقراء المؤمنين كبلال و عمار و صهيب، أي يسترذلونهم و يستهزئون بهم على رفضهم الدنيا و إقبالهم على العقبى، و من للابتداء كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنهم في عليين و هم في أسفل السافلين، أو لأنهم في كرامة و هم في مذلة، أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، و إنما قال و الذين اتقوا بعد قوله من الذين آمنوا، ليدل على أنهم متقون و أن استعلاءهم للتقوى. وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ في الدارين. بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجا تارة و ابتلاء أخرى.
[سورة البقرة (2): آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متفقين على الحق فيما بين آدم و إدريس أو نوح أو بعد الطوفان، أو متفقين على الجهالة و الكفر في فترة إدريس أو نوح. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ أي فاختلفوا فبعث اللّه، و إنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه. و عن كعب (الذي علمته من عدد الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألفا و المرسل منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر و المذكور في القرآن باسم العلم ثمانية و عشرون). وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس و لا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم، و إنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم. بِالْحَقِ حال من الكتاب، أي ملتبسا بالحق شاهدا به. لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ أي اللّه، أو النبي المبعوث، أو كتابه. فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ في الحق الذي اختلفوا فيه، أو فيما التبس عليهم. وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ في الحق، أو الكتاب. إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ حسدا بينهم و ظلما لحرصهم على الدنيا. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف. مِنَ الْحَقِ بيان لما اختلفوا فيه. بِإِذْنِهِ بأمره أو بإرادته و لطفه. وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا يضل سالكه.
[سورة البقرة (2): آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ خاطب به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على الأنبياء بعد مجيء الآيات، تشجيعا لهم على الثبات مع مخالفتهم. و أَمْ منقطعة و معنى الهمزة فيها الإنكار وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ و لم يأتكم، و أصل لَمَّا لم زيدت عليها ما و فيها توقع و لذلك جعلت مقابل قد. مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ حالهم التي هي مثل في الشدة. مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ بيان له على الاستئناف. وَ زُلْزِلُوا و أزعجوا إزعاجا شديدا بما أصابهم من الشدائد. حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لتناهي الشدة و استطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر. و قرأ نافع يقول بالرفع على أنه حكاية حال ماضية كقولك مرض حتى لا يرجونه. مَتى نَصْرُ اللَّهِ استبطاء له لتأخره. أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ استئناف على إرادة القول أي
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 136
فقيل لهم ذلك إسعافا لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر، و فيه إشارة إلى أن الوصول إلى اللّه تعالى و الفوز بالكرامة عنده برفض الهوى و اللذات، و مكابدة الشدائد و الرياضات كما
قال عليه الصلاة و السلام «حفت الجنة بالمكاره، و حفت النار بالشهوات»
. [سورة البقرة (2): آية 215]
يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ
عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما (أن عمرو بن الجموح الأنصاري كان شيخا هما ذا مال عظيم، فقال يا رسول اللّه ماذا ننفق من أموالنا و أين نضعها فنزلت)
قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ سئل عن المنفق فأجيب ببيان المصرف لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره، و لأنه كان في سؤال عمرو و إن لم يكن مذكورا في الآية، و اقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير. وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ في معنى الشرط. فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ جوابه أي إن تفعلوا خيرا فإن اللّه يعلم كنهه و يوفي ثوابه، و ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به.
[سورة البقرة (2): آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ شاق عليكم مكروه طبعا، و هو مصدر نعت به للمبالغة، أو فعل بمعنى مفعول كالخبز. و قرئ بالفتح على أنه لغة فيه كالضعف و الضعف، أو بمعنى الإكراه على المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدته و عظم مشقته كقوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً . وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و هو جميع ما كلفوا به، فإن الطبع يكرهه و هو مناط صلاحهم و سبب فلاحهم. وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ و هو جميع ما نهوا عنه، فإن النفس تحبه و تهواه و هو يفضي بها إلى الردى، و إنما ذكر عَسى لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير لكم. وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، و فيه دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة و إن لم يعرف عينها.
[سورة البقرة (2): آية 217]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
روي (أنه عليه الصلاة و السلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة. قبل بدر بشهرين. ليترصّد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي و ثلاثة معه، فقتلوه و أسروا اثنين و استاقوا العير و فيها من تجارة الطائف، و كان ذلك غرة رجب و هم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف، و ينذعر فيه الناس إلى معايشهم. و شق ذلك على أصحاب السرية و قالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا، ورد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم العير و الأسارى)
. و
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما (لما نزلت أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الغنيمة و هي أول غنيمة في الإسلام)
و السائلون هم المشركون كتبوا إليه في ذلك تشنيعا و تعييرا و قيل أصحاب السرية. قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال من الشهر الحرام. و قرئ «عن قتال» بتكرير العامل. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي ذنب كبير، و الأكثر أنه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 137
منسوخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ خلافا لعطاء و هو نسخ الخاص بالعام و فيه خلاف، و الأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام مطلقا فإن قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا يعم. وَ صَدٌّ صرف و منع. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الإسلام، أو ما يوصل العبد إلى اللّه سبحانه و تعالى من الطاعات. وَ كُفْرٌ بِهِ أي باللّه. وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ على إرادة المضاف أي و صد المسجد الحرام كقول أبي دؤاد:
أ كلّ امرئ تحسبين امرأ
و نار توقد باللّيل نارا
و لا يحسن عطفه على سَبِيلِ اللَّهِ لأن عطف قوله: وَ كُفْرٌ بِهِ على وَ صَدٌّ مانع منه إذ لا يتقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة و لا على الهاء في بِهِ ، فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار. وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أهل المسجد الحرام و هم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنون. أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مما فعلته السرية خطأ و بناء على الظن، و هو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة من كبائر قريش. و أفعل مما يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكر و المؤنث. وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي ما ترتكبونه من الإخراج و الشرك أفظع مما ارتكبوه من قتل الحضرمي. وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم و إنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم، و حتى للتعليل كقولك أعبد اللّه حتى أدخل الجنة.
إِنِ اسْتَطاعُوا و هو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بقوته على قرنه: إن ظفرت بي فلا تبق علي، و إيذان بأنهم لا يردونهم. وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال كما هو مذهب الشافعي رحمه اللّه تعالى، و المراد بها الأعمال النافعة. و قرئ «حبطت» بالفتح و هي لغة فيه. فِي الدُّنْيا لبطلان ما تخيلوه و فوات ما للإسلام من الفوائد الدنيوية.
وَ الْآخِرَةِ بسقوط الثواب. وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ كسائر الكفرة.
[سورة البقرة (2): آية 218]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا نزلت أيضا في أصحاب السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر.
وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كرر الموصول لتعظيم الهجرة و الجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ثوابه، أثبت لهم الرجاء إشعارا بأن العمل غير موجب و لا قاطع في الدلالة سيما و العبرة بالخواتيم. وَ اللَّهُ غَفُورٌ لما فعلوا خطأ و قلة احتياط. رَحِيمٌ بإجزال الأجر و الثواب.
[سورة البقرة (2): آية 219]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ
روي (أنه نزل بمكة قوله تعالى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً فأخذ المسلمون يشربونها، ثم إن عمر و معاذا و نفرا من الصحابة قالوا: أفتنا يا رسول اللّه في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية فشربها قوم و تركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا و سكروا، فأم أحدهم فقرأ: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» فنزلت لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا و تناشدوا، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه، فشكا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال عمر رضي اللّه عنه: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر رضي اللّه عنه: انتهينا يا رب
. و الخمر في الأصل مصدر خمره إذا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 138
ستره، سمي بها عصير العنب و التمر إذا اشتد و غلا كأنه يخمر العقل، كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجزه، و هي حرام مطلقا و كذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. و قال أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى: نقيع الزبيب و التمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر. وَ الْمَيْسِرِ أيضا مصدر كالموعد، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره، و المعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى: قُلْ فِيهِما أي في تعاطيهما. إِثْمٌ كَبِيرٌ من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور، و ارتكاب المحظور. و قرأ حمزة و الكسائي «كثير» بالثاء. وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ من كسب المال و الطرب و الالتذاذ و مصادقة الفتيان، و في الخمر خصوصا تشجيع الجبان و توفير المروءة و تقوية الطبيعة. وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما. و لهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل، و الأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة. وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قيل سائله أيضا عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق و المصرف، ثم سأل عن كيفية الإنفاق. قُلِ الْعَفْوَ العفو نقيض الجهد و منه يقال للأرض السهلة، و هو أن ينفق ما تيسر له بذله و لا يبلغ منه الجهد.
قال:
خذي العفو منّي تستديمي مودّتي
و لا تنطقي في سورتي حين أغضب
و
روي أن رجلا أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال: خذها مني صدقة، فأعرض عليه الصلاة و السلام عنه حتى كرر عليه مرارا فقال: هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال: «يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به و يجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى»
. و قرأ أبو عمرو برفع الْعَفْوَ . كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد، أو ما ذكر من الأحكام، و الكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبيينا مثل هذا التبيين، و إنما وحد العلامة و المخاطب به جمع على تأويل القبيل و الجمع، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدلائل و الأحكام.
[سورة البقرة (2): آية 220]
فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ في أمور الدارين فتأخذوا بالأصلح و الأنفع فيهما، و تجتنبون عما يضركم و لا ينفعكم، أو يضركم أكثر مما ينفعكم. وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية اعتزلوا اليتامى و مخالطتهم و الاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنزلت قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي مداخلتهم لإصلاحهم، أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم. وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ حث على المخالطة، أي أنهم إخوانكم في الدين و من حق الأخ أن يخالط الأخ. و قيل المراد بالمخالطة المصاهرة. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وعيد و وعد لمن خالطهم لإفساد و إصلاح، أي يعلم أمره فيجازيه عليه. وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي و لو شاء اللّه إعناتكم لأعنتكم، أي كلفكم ما يشق عليكم، من العنت و هي المشقة و لم يجوز لكم مداخلتكم. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب يقدر على الإعنات. حَكِيمٌ يحكم ما تقتضيه الحكمة و تتسع له الطاقة.
[سورة البقرة (2): آية 221]