کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 146
وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ التعريض و التلويح إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة و لا مجازا، كقول السائل جئتك لأسلم عليك، و الكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه و روادفه، كقولك الطويل النجاد للطويل، و كثير الرماد للمضياف. و الخطبة بالضم و الكسر اسم الحالة، غير أن المضمومة خصت بالموعظة و المكسورة بطلب المرأة، و المراد بالنساء المعتدات للوفاة، و تعريض خطبتها أن يقول لها إنك جميلة أو نافقة و من غرضي أن أتزوج و نحو ذلك. أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أو أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحا و لا تعريضا. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ و لا تصبرون على السكوت عنهن و عن الرغبة فيهن و فيه نوع توبيخ. وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا استدراك على محذوف دل عليه ستذكرونهن أي فاذكروهن و لكن لا تواعدوهن نكاحا أو جماعا، عبر بالسر عن الوطء لأنه مما يسر ثم عن العقد لأنه سبب فيه. و قيل معناه لا تواعدوهن في السر على أن المعنى بالمواعدة في السر المواعدة بما يستهجن. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً و هو أن تعرضوا و لا تصرحوا و المستثنى منه محذوف أي: لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة، أو إلا مواعدة بقول معروف. و قيل إنه استثناء منقطع من سرا و هو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض، و هو غير موعود. و فيه دليل حرمة تصريح خطبة المعتدة و جواز تعريضها إن كانت معتدة وفاة. و اختلف في معتدة الفراق البائن و الأظهر جوازه. وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد، أي و لا تعزموا عقد عقدة النكاح. و قيل معناه و لا تقطعوا عقدة النكاح فإن أصل العزم القطع. حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ حتى ينتهي ما كتب من العدة. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز. فَاحْذَرُوهُ و لا تعزموا. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن عزم و لم يفعل خشية من اللّه سبحانه و تعالى. حَلِيمٌ لا يعاجلكم بالعقوبة.
[سورة البقرة (2): آية 236]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة من مهر. و قيل من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس. و قيل: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يكثر النهي عن الطرق فظن أن فيه حرجا فنفى إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ أي تجامعوهن.
و قرأ حمزة و الكسائي «تماسوهن» بضم التاء و مد الميم في جميع القرآن. أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً إلا أن تفرضوا، أو حتى تفرضوا أو و تفرضوا. و الفرض تسمية المهر، و فريضة نصب على المفعول به، فعيلة بمعنى مفعول. و التاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، و يحتمل المصدر. و المعنى أنه لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة و لكن يسم لها مهرا، إذ لو كانت ممسوسة فعليه المسمى، أو مهر المثل. و لو كانت غير ممسوسة و لكن سمي لها فلها نصف المسمى، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى، و مفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين. وَ مَتِّعُوهُنَ عطف على مقدر أي فطلقوهن و متعوهن، و الحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق، و تقديرها مفوض إلى رأي الحاكم و يؤيده قوله:
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ أي على كل من الذي له سعة، و المقتر الضيق الحال ما يطيقه و يليق به، و يدل عليه
قوله عليه السلام لأنصاري طلق امرأته المفوضة قبل أن يمسها «متعها بقلنسوتك»
. و قال أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه: هي درع و ملحفة و خمار حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل، و مفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوضة التي لم يمسها الزوج، و ألحق بها الشافعي رحمه اللّه تعالى في أحد قوليه الممسوسة المفوضة و غيرها قياسا، و هو مقدم على المفهوم. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص و ابن ذكوان بفتح الدال مَتاعاً تمتيعا. بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي يستحسنه الشرع و المروءة. حَقًّا صفة لمتاعا، أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا. عَلَى الْمُحْسِنِينَ الذي يحسنون إلى
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 147
أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال، أو إلى المطلقات بالتمتيع و سماهم محسنين قبل الفعل للمشارفة ترغيبا و تحريضا.
[سورة البقرة (2): آية 237]
وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً لما ذكر حكم المفوضة أتبعه حكم قسيمها. فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فلهن، أو فالواجب نصف ما فرضتم لهن، و هو دليل على أن الجناح المنفي ثم تبعه المهر و أن لا متعة مع التشطير لأنه قسيمها إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي المطلقات فلا يأخذن شيئا، و الصيغة تحتمل التذكير و التأنيث، و الفرق أن الواو في الأول ضمير و النون علامة الرفع و في الثاني لام الفعل و النون ضمير و الفعل مبني و لذلك لم يؤثر فيه أن هاهنا و نصب المعطوف عليه. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أي الزوج المالك لعقده و حله عما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها كاملا، و هو مشعر بأن الطلاق قبل المسيس مخير للزوج غير مشطر بنفسه، و إليه ذهب بعض أصحابنا و الحنفية. و قيل الولي الذي يلي عقد نكاحهن و ذلك إذا كانت المرأة صغيرة، و هو قول قديم للشافعي رحمه اللّه تعالى. وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى يؤيد الوجه الأول و عفو الزوج على وجه التخيير ظاهر و على الوجه الآخر عبارة عن الزيادة على الحق، و تسميتها عفوا إما على المشاكلة و إما لأنهم يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج، فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فإذا لم يسترده فقد عفا عنه. و عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة و طلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق و قال أنا أحق بالعفو. وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي و لا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يضيع تفضلكم و إحسانكم.
[سورة البقرة (2): آية 238]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238)
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ بالأداء لوقتها و المداومة عليها، و لعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد و الأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها. وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى أي الوسطى بينها، أو الفضلى منها خصوصا و هي صلاة العصر
لقوله عليه الصلاة و السلام يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه بيوتهم نارا»
. و فضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها، و اجتماع الملائكة. و قيل صلاة الظهر لأنها في وسط النهار و كانت أشق الصلوات عليهم فكانت أفضل
لقوله عليه الصلاة و السلام «أفضل العبادات أحمزها»
. و قيل صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار و الليل و الواقعة في الحد المشترك بينهما و لأنها مشهودة. و قيل المغرب لأنها المتوسطة بالعدد و وتر النهار. و قيل العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي الليل. و
عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها: أنه عليه الصلاة و السلام كان يقرأ : «و الصلاة الوسطى صلاة العصر»
، فتكون صلاة من الأربع خصت بالذكر مع العصر لانفرادهما بالفضل. و قرئ بالنصب على الاختصاص و المدح. وَ قُومُوا لِلَّهِ في الصلاة. قانِتِينَ ذاكرين له في القيام، و القنوت الذكر فيه. و قيل خاشعين، و قال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح.
[سورة البقرة (2): آية 239]
فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو أو غيره. فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فصلوا راجلين أو راكبين و رجالا جمع راجل أو
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 148
رجل بمعناه كقائم و قيام، و فيه دليل على وجوب الصلاة حال المسايفة و إليه ذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه، و قال أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى لا يصلى حال المشي و المسايفة ما لم يكن الوقوف. فَإِذا أَمِنْتُمْ و زال خوفكم. فَاذْكُرُوا اللَّهَ صلوا صلاة الأمن أو اشكروه على الأمن كَما عَلَّمَكُمْ ذكرا مثل ما علمكم من الشرائع و كيفية الصلاة حالتي الخوف و الأمن. أو شكرا يوازيه و ما مصدرية أو موصولة. ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مفعول علمكم.
[سورة البقرة (2): آية 240]
وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأها بالنصب أبو عمرو و ابن عامر و حمزة و حفص عن عاصم على تقدير و الذين يتوفون منكم يوصون وصية، أو ليوصوا وصية، أو كتب اللّه عليهم وصية، أو ألزم الذين يتوفون وصية. و يؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول مكانه.
و قرأ الباقون بالرفع على تقدير و وصية الذين يتوفون، أو و حكمهم وصية، أو و الذين يتوفون أهل وصية، أو كتب عليهم وصية، أو عليهم وصية و قرئ «متاع» بدلها. مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ نصب بيوصون إن أضمرت و إلا فبالوصية و بمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع. غَيْرَ إِخْراجٍ بدل منه، أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات، و المعنى: أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالسكنى و النفقة، و كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و هو و إن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول، و سقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن، و السكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه اللّه. فَإِنْ خَرَجْنَ عن منزل الأزواج. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأئمة. فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ كالتطيب و ترك الإحداد. مِنْ مَعْرُوفٍ مما لم ينكره الشرع، و هذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج و الحداد عليه و إنما كانت مخيرة بين الملازمة و أخذ النفقة و بين الخروج و تركها. وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ينتقم ممن خالفه منهم.
حَكِيمٌ يراعي مصالحهم.
[سورة البقرة (2): الآيات 241 الى 242]
وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أثبت المتعة للمطلقات جميعا بعد ما أوجبها لواحدة منهن، و إفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم و لذلك أوجبها ابن جبير لكل مطلقة، و أول غيره بما يعم التمتيع الواجب و المستحب. و قال قوم المراد بالمتاع نفقة العدة، و يجوز أن تكون اللام للعهد و التكرير للتأكيد أو لتكرر القضية كَذلِكَ إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق و العدة. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل و الأحكام ما يحتاجون إليه معاشا و معادا.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لعلكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها.
[سورة البقرة (2): آية 243]
أَ لَمْ تَرَ تعجيب و تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب و أرباب التواريخ، و قد يخاطب به من لم ير و من لم يسمع فإنه صار مثلا في التعجيب. إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يريد أهل داوردان قرية قبل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 149
واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين، فأماتهم اللّه ثم أحياهم ليعتبروا و يتيقنوا أن لا مفر من قضاء اللّه تعالى و قدره. أو قوما من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم اللّه ثمانية أيام ثم أحياهم. وَ هُمْ أُلُوفٌ أي ألوف كثيرة. قيل عشرة. و قيل ثلاثون. و قيل سبعون و قيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد و قعود و الواو للحال. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول له. فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله: كُنْ فَيَكُونُ* و المعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة، بأمر اللّه تعالى و مشيئته. و قيل ناداهم به ملك و إنما أسند إلى اللّه تعالى تخويفا و تهويلا. ثُمَّ أَحْياهُمْ قيل مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان و قد عريت عظامهم و تفرقت أوصالهم، فتعجب من ذلك فأوحى اللّه تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن اللّه تعالى، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم و بحمدك لا إله إلا أنت. و فائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد و التعرض للشهادة، و حثهم على التوكل و الاستسلام للقضاء. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أحياهم ليعتبروا و يفوزوا و قص عليهم حالهم ليستبصروا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي لا يشكرونه كما ينبغي، و يجوز أن يراد بالشكر الاعتبار و الاستبصار.
[سورة البقرة (2): الآيات 244 الى 245]
وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لما بين أن الفرار من الموت غير مخلص منه و أن المقدر لا محالة واقع، أمرهم بالقتال إذ لو جاء أجلهم في سبيل اللّه و إلا فالنصر و الثواب. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله المتخلف و السابق. عَلِيمٌ بما يضمرانه و هو من وراء الجزاء.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ مَنْ استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء، و ذَا خبره، و الَّذِي صفة ذا أو بدله، و إقراض اللّه سبحانه و تعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه. قَرْضاً حَسَناً إقراضا حسنا مقرونا بالإخلاص و طيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا. و قيل: القرض الحسن بالمجاهدة و الإنفاق في سبيل اللّه فَيُضاعِفَهُ لَهُ فيضاعف جزاءه، أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة، و قرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى، فإن مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ في معنى أ يقرض اللّه أحد. و قرأ ابن كثير «فيضعفه» بالرفع و التشديد و ابن عامر و يعقوب بالنصب. أَضْعافاً كَثِيرَةً كثرة لا يقدرها إلا اللّه سبحانه و تعالى. و قيل الواحد بسبعمائة، و «أضعافا» جمع ضعف و نصبه على الحال من الضمير المنصوب، أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر و جمعه للتنويع. وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ يقتر على بعض و يوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم. و قرأ نافع و الكسائي و البزي و أبو بكر بالصاد و مثله في الأعراف في قوله تعالى: وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما قدمتم.
[سورة البقرة (2): آية 246]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْمَلَإِ جماعة يجتمعون للتشاور، و لا واحد له كالقوم و من للتبعيض. مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد وفاته و من للابتداء. إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو يوشع، أو شمعون، أو
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 150
شمويل عليهم السلام. ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أقم لنا أميرا ننهض معه للقتال يدبر أمره و نصدر فيه عن رأيه، و جزم نقاتل على الجواب. و قرئ بالرفع على أنه حال أي ابعثه لنا مقدرين القتال، و يقاتل بالياء مجزوما و مرفوعا على الجواب و الوصف لملكا. قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا فصل بين عسى و خبره بالشرط، و المعنى أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم، فأدخل هل على فعل التوقع مستفهما عما هو المتوقع عنده تقريرا و تثبيتا. و قرأ نافع عَسَيْتُمْ بكسر السين. قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا أي أي غرض لنا في ترك القتال و قد عرض لنا ما يوجبه و يحث عليه من الإخراج عن الأوطان و الإفراد عن الأولاد، و ذلك أن جالوت و من معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر و فلسطين، فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم و سبوا أولادهم و أسروا من أبناء الملوك أربعمائة و أربعين. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثمائة و ثلاثة عشر بعدد أهل بدر وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد.
[سورة البقرة (2): آية 247]
وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً طالوت علم عبري كداود و جعله فعلوتا من الطول تعسف يدفعه منع صرفه، روي أن نبيهم صلّى اللّه عليه و سلّم لما دعا اللّه أن يملكهم أتى بعضا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا من أين يكون له ذلك و يستأهل. وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ و الحال أنا أحق بالملك منه وراثة و مكنة و إنه فقير لا مال له يعتضد به، و إنما قالوا ذلك لأن طالوت كان فقيرا راعيا أو سقاء أو دباغا من أولاد بنيامين و لم تكن فيهم النبوة و الملك، و إنما كانت النبوة في أولاد لاوى بن يعقوب و الملك في أولاد يهوذا و كان فيهم من السبطين خلق. قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ لما استبعدوا تملكه لفقره و سقوط نسبه رد عليهم ذلك. أولا بأن العمدة فيه اصطفاه اللّه سبحانه و تعالى و قد اختاره عليكم و هو أعلم بالمصالح منكم، و ثانيا بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، و جسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب، و أقوى على مقاومة العدو و مكابدة الحروب، لا ما ذكرتم. و قد زاده اللّه فيهما و كان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه، و ثالثا بأن اللّه تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء، و رابعا أنه واسع الفضل يوسع على الفقير و يغنيه عليم بمن يليق بالملك من النسيب و غيره.
[سورة البقرة (2): آية 248]
وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ لما طلبوا منه حجة على أنه سبحانه و تعالى اصطفى طالوت و ملكه عليهم. إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الصندوق فعلوت من التوب، و هو الرجوع فإنه لا يزال يرجع إلى ما يخرج منه، و ليس بفاعول لقلة نحو سلس و قلق، و من قرأه بالهاء فلعله أبدله منه كما أبدل من تاء التأنيث لاشتراكهما في الهمس و الزيادة، و يريد به صندوق التوراة و كان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ الضمير للإتيان أي في إتيانه سكون لكم و طمأنينة، أو للتابوت أي مودع فيه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 151
ما تسكنون إليه و هو التوراة. و كان موسى عليه الصلاة و السلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل و لا يفرون. و قيل صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس و ذنب كرأس الهرة و ذنبها و جناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو و هم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا و سكنوا و نزل النصر. و قيل صورة الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة و السلام. و قيل التابوت هو القلب و السكينة ما فيه من العلم و الإخلاص و إتيانه مصير قلبه مقرا للعلم و الوقار بعد أن لم يكن. وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ رضاض الألواح و عصا موسى و ثيابه و عمامة هارون، و آلهما أبناؤهما أو أنفسهما. و الآل مقحم لتفخيم شأنهما، أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما. تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قيل رفعه اللّه بعد موسى فنزلت به الملائكة و هم ينظرون إليه و قيل كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه، و كان في أرض جالوت إلى أن ملك اللّه طالوت فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي عليه السلام و أن يكون ابتداء خطاب من اللّه سبحانه و تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة، و أصله فصل نفسه عنه و لكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم.
روي : أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، و كان الوقت قيظا فسلكوا مفازة و سألوه أن يجري اللّه لهم نهرا
. قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي فليس من أشياعي، أو ليس بمتحد معي. وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا قال الشاعر:
و إن شئت لم أطعم نقاخا و لا بردا و إنما علم ذلك بالوحي إن كان نبيا كما قيل، أو بإخبار النبي عليه الصلاة و السلام. إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من قوله فمن شرب منه، و إنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم و الصائبون على الخبر في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا و المعنى الرخصة في القليل دون الكثير، و قرأ ابن عامر و الكوفيون غُرْفَةً بضم الغين. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط، و تعميم الأول ليتصل الاستثناء، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم. و قرئ بالرفع حملا على المعنى فإن قوله فَشَرِبُوا مِنْهُ في معنى فلم يطيعوه و القليل كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا. و قيل ثلاثة آلاف. و قيل: ألفا. روي أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه و إداوته، و من لم يقتصر غلب عليه و اسودت شفته و لم يقدر أن يمضي و هكذا الدنيا لقاصد الآخرة. فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي القليل الذين لم يخالفوه. قالُوا أي بعضهم لبعض. لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ لكثرتهم و قوتهم. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء اللّه و توقعوا ثوابه، أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون اللّه تعالى. و قيل: هم القليل الذين ثبتوا معه، و الضمير في قالُوا للكثير المنخذلين عنه اعتذارا في التخلف و تخذيلا للقليل، و كأنهم تقاولوا به و النهر بينهما. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 152
اللَّهِ بحكمه و تيسيره، و كَمْ تحتمل الخبر و الاستفهام، و مَنْ مبينة أو مزيدة. و الفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته، أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة. وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ . بالنصر و الإثابة.
[سورة البقرة (2): الآيات 250 الى 251]
وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ أي ظهروا لهم و دنوا منهم. قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ التجؤوا إلى اللّه سبحانه و تعالى بالدعاء، و فيه ترتيب بليغ إذ سألوا أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه، ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالبا.
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم. وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ قيل: كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه، و كان داود سابعهم و كان صغيرا يرعى الغنم، فأوحى اللّه إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء و قد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار و قالت له: إنك بنا تقتل جالوت، فحملها في مخلاته و رماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته. وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي ملك بني إسرائيل و لم يجتمعوا قبل داود على ملك. وَ الْحِكْمَةَ أي النبوة. وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كالسرد و كلام الدواب و الطير. وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ و لولا أنه سبحانه و تعالى يدفع بعض الناس ببعض و ينصر المسلمين على الكفار و يكف بهم فسادهم، لغلبوا و أفسدوا في الأرض، أو لفسدت الأرض بشؤمهم. و قرأ نافع هنا و في الحج «دفاع اللّه».
[سورة البقرة (2): آية 252]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إشارة إلى ما قص من حديث الألوف و تمليك طالوت و إتيان التابوت و انهزام الجبابرة و قتل داود جالوت نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب و أرباب التواريخ.
وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لما أخبرت بها من غير تعرف و استماع.
[سورة البقرة (2): آية 253]