کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 149
واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين، فأماتهم اللّه ثم أحياهم ليعتبروا و يتيقنوا أن لا مفر من قضاء اللّه تعالى و قدره. أو قوما من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم اللّه ثمانية أيام ثم أحياهم. وَ هُمْ أُلُوفٌ أي ألوف كثيرة. قيل عشرة. و قيل ثلاثون. و قيل سبعون و قيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد و قعود و الواو للحال. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول له. فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله: كُنْ فَيَكُونُ* و المعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة، بأمر اللّه تعالى و مشيئته. و قيل ناداهم به ملك و إنما أسند إلى اللّه تعالى تخويفا و تهويلا. ثُمَّ أَحْياهُمْ قيل مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان و قد عريت عظامهم و تفرقت أوصالهم، فتعجب من ذلك فأوحى اللّه تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن اللّه تعالى، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم و بحمدك لا إله إلا أنت. و فائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد و التعرض للشهادة، و حثهم على التوكل و الاستسلام للقضاء. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أحياهم ليعتبروا و يفوزوا و قص عليهم حالهم ليستبصروا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي لا يشكرونه كما ينبغي، و يجوز أن يراد بالشكر الاعتبار و الاستبصار.
[سورة البقرة (2): الآيات 244 الى 245]
وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لما بين أن الفرار من الموت غير مخلص منه و أن المقدر لا محالة واقع، أمرهم بالقتال إذ لو جاء أجلهم في سبيل اللّه و إلا فالنصر و الثواب. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله المتخلف و السابق. عَلِيمٌ بما يضمرانه و هو من وراء الجزاء.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ مَنْ استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء، و ذَا خبره، و الَّذِي صفة ذا أو بدله، و إقراض اللّه سبحانه و تعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه. قَرْضاً حَسَناً إقراضا حسنا مقرونا بالإخلاص و طيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا. و قيل: القرض الحسن بالمجاهدة و الإنفاق في سبيل اللّه فَيُضاعِفَهُ لَهُ فيضاعف جزاءه، أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة، و قرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى، فإن مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ في معنى أ يقرض اللّه أحد. و قرأ ابن كثير «فيضعفه» بالرفع و التشديد و ابن عامر و يعقوب بالنصب. أَضْعافاً كَثِيرَةً كثرة لا يقدرها إلا اللّه سبحانه و تعالى. و قيل الواحد بسبعمائة، و «أضعافا» جمع ضعف و نصبه على الحال من الضمير المنصوب، أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر و جمعه للتنويع. وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ يقتر على بعض و يوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم. و قرأ نافع و الكسائي و البزي و أبو بكر بالصاد و مثله في الأعراف في قوله تعالى: وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما قدمتم.
[سورة البقرة (2): آية 246]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْمَلَإِ جماعة يجتمعون للتشاور، و لا واحد له كالقوم و من للتبعيض. مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد وفاته و من للابتداء. إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو يوشع، أو شمعون، أو
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 150
شمويل عليهم السلام. ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أقم لنا أميرا ننهض معه للقتال يدبر أمره و نصدر فيه عن رأيه، و جزم نقاتل على الجواب. و قرئ بالرفع على أنه حال أي ابعثه لنا مقدرين القتال، و يقاتل بالياء مجزوما و مرفوعا على الجواب و الوصف لملكا. قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا فصل بين عسى و خبره بالشرط، و المعنى أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم، فأدخل هل على فعل التوقع مستفهما عما هو المتوقع عنده تقريرا و تثبيتا. و قرأ نافع عَسَيْتُمْ بكسر السين. قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا أي أي غرض لنا في ترك القتال و قد عرض لنا ما يوجبه و يحث عليه من الإخراج عن الأوطان و الإفراد عن الأولاد، و ذلك أن جالوت و من معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر و فلسطين، فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم و سبوا أولادهم و أسروا من أبناء الملوك أربعمائة و أربعين. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثمائة و ثلاثة عشر بعدد أهل بدر وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد.
[سورة البقرة (2): آية 247]
وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً طالوت علم عبري كداود و جعله فعلوتا من الطول تعسف يدفعه منع صرفه، روي أن نبيهم صلّى اللّه عليه و سلّم لما دعا اللّه أن يملكهم أتى بعضا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا من أين يكون له ذلك و يستأهل. وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ و الحال أنا أحق بالملك منه وراثة و مكنة و إنه فقير لا مال له يعتضد به، و إنما قالوا ذلك لأن طالوت كان فقيرا راعيا أو سقاء أو دباغا من أولاد بنيامين و لم تكن فيهم النبوة و الملك، و إنما كانت النبوة في أولاد لاوى بن يعقوب و الملك في أولاد يهوذا و كان فيهم من السبطين خلق. قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ لما استبعدوا تملكه لفقره و سقوط نسبه رد عليهم ذلك. أولا بأن العمدة فيه اصطفاه اللّه سبحانه و تعالى و قد اختاره عليكم و هو أعلم بالمصالح منكم، و ثانيا بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، و جسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب، و أقوى على مقاومة العدو و مكابدة الحروب، لا ما ذكرتم. و قد زاده اللّه فيهما و كان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه، و ثالثا بأن اللّه تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء، و رابعا أنه واسع الفضل يوسع على الفقير و يغنيه عليم بمن يليق بالملك من النسيب و غيره.
[سورة البقرة (2): آية 248]
وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ لما طلبوا منه حجة على أنه سبحانه و تعالى اصطفى طالوت و ملكه عليهم. إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الصندوق فعلوت من التوب، و هو الرجوع فإنه لا يزال يرجع إلى ما يخرج منه، و ليس بفاعول لقلة نحو سلس و قلق، و من قرأه بالهاء فلعله أبدله منه كما أبدل من تاء التأنيث لاشتراكهما في الهمس و الزيادة، و يريد به صندوق التوراة و كان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ الضمير للإتيان أي في إتيانه سكون لكم و طمأنينة، أو للتابوت أي مودع فيه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 151
ما تسكنون إليه و هو التوراة. و كان موسى عليه الصلاة و السلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل و لا يفرون. و قيل صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس و ذنب كرأس الهرة و ذنبها و جناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو و هم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا و سكنوا و نزل النصر. و قيل صورة الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة و السلام. و قيل التابوت هو القلب و السكينة ما فيه من العلم و الإخلاص و إتيانه مصير قلبه مقرا للعلم و الوقار بعد أن لم يكن. وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ رضاض الألواح و عصا موسى و ثيابه و عمامة هارون، و آلهما أبناؤهما أو أنفسهما. و الآل مقحم لتفخيم شأنهما، أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما. تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قيل رفعه اللّه بعد موسى فنزلت به الملائكة و هم ينظرون إليه و قيل كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه، و كان في أرض جالوت إلى أن ملك اللّه طالوت فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي عليه السلام و أن يكون ابتداء خطاب من اللّه سبحانه و تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة، و أصله فصل نفسه عنه و لكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم.
روي : أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، و كان الوقت قيظا فسلكوا مفازة و سألوه أن يجري اللّه لهم نهرا
. قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي فليس من أشياعي، أو ليس بمتحد معي. وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا قال الشاعر:
و إن شئت لم أطعم نقاخا و لا بردا و إنما علم ذلك بالوحي إن كان نبيا كما قيل، أو بإخبار النبي عليه الصلاة و السلام. إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من قوله فمن شرب منه، و إنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم و الصائبون على الخبر في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا و المعنى الرخصة في القليل دون الكثير، و قرأ ابن عامر و الكوفيون غُرْفَةً بضم الغين. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط، و تعميم الأول ليتصل الاستثناء، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم. و قرئ بالرفع حملا على المعنى فإن قوله فَشَرِبُوا مِنْهُ في معنى فلم يطيعوه و القليل كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا. و قيل ثلاثة آلاف. و قيل: ألفا. روي أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه و إداوته، و من لم يقتصر غلب عليه و اسودت شفته و لم يقدر أن يمضي و هكذا الدنيا لقاصد الآخرة. فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي القليل الذين لم يخالفوه. قالُوا أي بعضهم لبعض. لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ لكثرتهم و قوتهم. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء اللّه و توقعوا ثوابه، أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون اللّه تعالى. و قيل: هم القليل الذين ثبتوا معه، و الضمير في قالُوا للكثير المنخذلين عنه اعتذارا في التخلف و تخذيلا للقليل، و كأنهم تقاولوا به و النهر بينهما. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 152
اللَّهِ بحكمه و تيسيره، و كَمْ تحتمل الخبر و الاستفهام، و مَنْ مبينة أو مزيدة. و الفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته، أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة. وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ . بالنصر و الإثابة.
[سورة البقرة (2): الآيات 250 الى 251]
وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ أي ظهروا لهم و دنوا منهم. قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ التجؤوا إلى اللّه سبحانه و تعالى بالدعاء، و فيه ترتيب بليغ إذ سألوا أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه، ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالبا.
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم. وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ قيل: كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه، و كان داود سابعهم و كان صغيرا يرعى الغنم، فأوحى اللّه إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء و قد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار و قالت له: إنك بنا تقتل جالوت، فحملها في مخلاته و رماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته. وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي ملك بني إسرائيل و لم يجتمعوا قبل داود على ملك. وَ الْحِكْمَةَ أي النبوة. وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كالسرد و كلام الدواب و الطير. وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ و لولا أنه سبحانه و تعالى يدفع بعض الناس ببعض و ينصر المسلمين على الكفار و يكف بهم فسادهم، لغلبوا و أفسدوا في الأرض، أو لفسدت الأرض بشؤمهم. و قرأ نافع هنا و في الحج «دفاع اللّه».
[سورة البقرة (2): آية 252]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إشارة إلى ما قص من حديث الألوف و تمليك طالوت و إتيان التابوت و انهزام الجبابرة و قتل داود جالوت نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب و أرباب التواريخ.
وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لما أخبرت بها من غير تعرف و استماع.
[سورة البقرة (2): آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة، أو المعلومة للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أو جماعة الرسل و اللام للاستغراق. فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ تفضيل له، و هو موسى عليه الصلاة و السلام. و قيل: موسى و محمد عليهما الصلاة و السلام، كلم اللّه موسى ليلة الحيرة و في الطور، و محمدا عليه الصلاة و السلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى و بينهما بون بعيد، و قرئ «كلم اللّه» و «كالم اللّه» بالنصب، فإنه كلم اللّه كما أن اللّه كلمه و لذلك قيل كليم اللّه بمعنى مكالمه. وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ بأن فضله على غيره من وجوه متعددة، أو بمراتب متباعدة. و هو محمد
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 153
صلّى اللّه عليه و سلّم فإنه خصه بالدعوة العامة و الحجج المتكاثرة و المعجزات المستمرة، و الآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، و الفضائل العلمية و العملية الفائتة للحصر. و الإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين. و قيل: إبراهيم عليه السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب. و قيل: إدريس عليه السلام لقوله تعالى: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا . و قيل: أولو العزم من الرسل. وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ خصه بالتعيين لإفراط اليهود و النصارى في تحقيره و تعظيمه، و جعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة و معجزات عظيمة لم يستجمعها غيره. وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أي هدى الناس جميعا. مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد الرسل. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي المعجزات الواضحة لاختلافهم في الدين، و تضليل بعضهم بعضا. وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضلا. وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ لإعراضه عنه بخذلانه. وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا كرره للتأكيد. وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فيوفق من يشاء فضلا، و يخذل من يشاء عدلا. و الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام متفاوتة الأقدام، و أنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، و لكن بقاطع لأن اعتبار الظن فيما يتعلق بالعمل و أن الحوادث بيد اللّه سبحانه و تعالى تابعة لمشيئته خيرا كان أو شرا إيمانا أو كفرا.
[سورة البقرة (2): آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ما أوجبت عليكم إنفاقه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم، و الخلاص من عذابه إذ لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب و لا خلة حتى يعينكم عليه أخلاؤكم أو يسامحوكم به و لا شفاعة إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم، و إنما رفعت ثلاثتها مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب: هل فيه بيع؟ أو خلة؟ أو شفاعة؟ و قد فتحها ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب على الأصل. وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يريد و التاركون للزكاة هم ظالمون الذين ظلموا أنفسهم، أو وضعوا المال في غيره موضعه و صرفوه على غير وجهه، فوضع الكافرون موضعه تغليظا لهم و تهديدا كقوله: و مَنْ كَفَرَ مكان و من لم يحج و إيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار لقوله تعالى: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ .
[سورة البقرة (2): آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ و خبر و المعنى أنه المستحق للعبادة لا غيره. و للنحاة خلاف في أنه هل يضمر للأخير مثل في الوجود أو يصح أن يوجد. الْحَيُ الذي يصح أن يعلم و يقدر و كل ما يصح له فهو واجب لا يزول لامتناعه عن القوة و الإمكان. الْقَيُّومُ الدائم القيام بتدبير الخلق و حفظه فيعول من قام بالأمر إذا حفظه، و قرئ «القيام» و «القيم». لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ السنة فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع:
و سنان أقصده النّعاس فرنّقت
في عينه سنة و ليس بنائم
و النوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا، و تقديم السنة عليه و قياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود، و الجملة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 154
نفي للتشبيه و تأكيد لكونه حيا قيوما، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان مؤف الحياة قاصرا في الحفظ و التدبير، و لذلك ترك العاطف فيه و في الجمل التي بعده. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ تقرير لقيوميته و احتجاج به على تفرده في الألوهية، و المراد بما فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو أبلغ من قوله: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَ ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بيان لكبرياء شأنه سبحانه و تعالى، و أنه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة و استكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة أي مخاصمة. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ما قبلهم و ما بعدهم، أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل و مستدبر الماضي، أو أمور الدنيا و أمور الآخرة، أو عكسه، أو ما يحسونه و ما يعقلونه، أو ما يدركونه و ما لا يدركونه، و الضمير لما في السموات و الأرض، لأن فيهما العقلاء، أو لما دل عليه من ذا من الملائكة و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ من معلوماته. إِلَّا بِما شاءَ أن يعلموه، و عطفه على ما قبله لأن مجموعهما يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته سبحانه و تعالى. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ تصوير لعظمته و تمثيل مجرد كقوله تعالى: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ و لا كرسي في الحقيقة، و لا قاعد. و قيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه، مأخوذ من كرسي العالم و الملك. و قيل جسم بين يدي العرش و لذلك سمي كرسيا محيط بالسموات السبع،
لقوله عليه الصلاة و السلام «ما السموات السبع و الأرضون السبع من الكرسي، إلا كحلقة في فلاة، و فضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة»
و لعله الفلك المشهور بفلك البروج، و هو في الأصل اسم لما يقعد عليه و لا يفضل عن مقعد القاعد، و كأنه منسوب إلى الكرسي و هو الملبد. وَ لا يَؤُدُهُ أي و لا يثقله، مأخوذ من الأود و هو الاعوجاج. حِفْظُهُما أي حفظه السموات و الأرض، فحذف الفاعل و أضاف المصدر إلى المفعول. وَ هُوَ الْعَلِيُ المتعالي عن الأنداد و الأشباه.
الْعَظِيمُ المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه.
و هذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية، فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية، متصف بالحياة، واجب الوجود لذاته موجد لغيره، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره، منزه عن التحيز و الحلول، مبرأ عن التغير و الفتور، لا يناسب الأشباح و لا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك و الملكوت، و مبدع الأصول و الفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له عالم الأشياء كلها، جليها و خفيها، كليها و جزئيها، واسع الملك و القدرة، كل ما يصح أن يملك و يقدر عليه، لا يؤده شاق، و لا يشغله شأن، متعال عما يدركه، و هو عظيم لا يحيط به فهم، و لذلك
قال عليه الصلاة و السلام «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي، من قرأها بعث اللّه ملكا يكتب من حسناته، و يمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة»
. و
قال «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، و لا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، و من قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه اللّه على نفسه و جاره و جار جاره و الأبيات حوله».
[سورة البقرة (2): آية 256]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ إذ الإكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه، و لكن قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة، و دلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية و الكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، و العاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة و النجاة، و لم يحتج إلى الإكراه و الإلجاء. و قبل إخبار في معنى النهي، أي لا تكرهوا في الدين، و هو إما عام منسوخ بقوله؛ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ* ، أو خاص بأهل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 155
الكتاب لما
روي (أن أنصاريا كان له ابنان تنصرا قبل المبعث، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما و قال: و اللّه لا أدعكما حتى تسلما فأبيا، فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: الأنصاري يا رسول اللّه أ يدخل بعقبي النار و أنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما)
. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ بالشيطان، أو الأصنام، أو كل ما عبد من دون اللّه، أو صد عن عبادة اللّه تعالى. فعلوت من الطغيان قلبت عينه و لامه. وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بالتوحيد و تصديق الرسل.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى طلب الإمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق، و هي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح و الرأي القويم. لَا انْفِصامَ لَها لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته. وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال عَلِيمٌ بالنيات، و لعله تهديد على النفاق.
[سورة البقرة (2): آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا محبهم، أو متولي أمورهم، و المراد بهم من أراد إيمانه و ثبت في علمه أنه يؤمن. يُخْرِجُهُمْ بهدايته و توفيقه. مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الجهل و اتباع الهوى و قبول الوساوس و الشبه المؤدية إلى الكفر. إِلَى النُّورِ إلى الهدى الموصل إلى الإيمان، و الجملة خبر بعد خبر، أو حال من المستكن في الخبر، أو من الموصول، أو منهما، أو استئناف مبين، أو مقرر للولاية. وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي الشياطين، أو المضلات من الهوى و الشيطان و غيرهما. يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ من النور الذي منحوه بالفطرة، إلى الكفر و فساد الاستعداد و الانهماك في الشهوات، أو من نور البينات إلى ظلمات الشكوك و الشبهات. و قيل: نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، و إسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى و إرادته به. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وعيد و تحذير، و لعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.
[سورة البقرة (2): آية 258]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ تعجيب من محاجة نمروذ و حماقته. أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك و حمله على المحاجة، أو حاج لأجله شكرا له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه اللّه الملك و هو حجة على من منع إيتاء اللّه الملك الكافر من المعتزلة.
إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف ل «حاجّ»، أو بدل من أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ على الوجه الثاني. رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ بخلق الحياة و الموت في الأجساد. و قرأ حمزة «رب» بحذف الياء. قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ بالعفو عن القتل و القتل. و قرأ نافع «أنا» بلا ألف. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أعرض إبراهيم عليه الصلاة و السلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه دفعا للمشاغبة، و هو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره، لا عن حجة إلى أخرى. و لعل نمروذ زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله اللّه فنقضه إبراهيم بذلك، و إنما حمله عليه بطر الملك و حماقته، أو اعتقاد الحلول. و قيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة و السلام الأصنام سجنه أياما ثم أخرجه ليحرقه، فقال له من ربك الذي تدعو إليه و حاجه فيه.