کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 155
الكتاب لما
روي (أن أنصاريا كان له ابنان تنصرا قبل المبعث، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما و قال: و اللّه لا أدعكما حتى تسلما فأبيا، فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: الأنصاري يا رسول اللّه أ يدخل بعقبي النار و أنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما)
. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ بالشيطان، أو الأصنام، أو كل ما عبد من دون اللّه، أو صد عن عبادة اللّه تعالى. فعلوت من الطغيان قلبت عينه و لامه. وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بالتوحيد و تصديق الرسل.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى طلب الإمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق، و هي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح و الرأي القويم. لَا انْفِصامَ لَها لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته. وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال عَلِيمٌ بالنيات، و لعله تهديد على النفاق.
[سورة البقرة (2): آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا محبهم، أو متولي أمورهم، و المراد بهم من أراد إيمانه و ثبت في علمه أنه يؤمن. يُخْرِجُهُمْ بهدايته و توفيقه. مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الجهل و اتباع الهوى و قبول الوساوس و الشبه المؤدية إلى الكفر. إِلَى النُّورِ إلى الهدى الموصل إلى الإيمان، و الجملة خبر بعد خبر، أو حال من المستكن في الخبر، أو من الموصول، أو منهما، أو استئناف مبين، أو مقرر للولاية. وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي الشياطين، أو المضلات من الهوى و الشيطان و غيرهما. يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ من النور الذي منحوه بالفطرة، إلى الكفر و فساد الاستعداد و الانهماك في الشهوات، أو من نور البينات إلى ظلمات الشكوك و الشبهات. و قيل: نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، و إسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى و إرادته به. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وعيد و تحذير، و لعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.
[سورة البقرة (2): آية 258]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ تعجيب من محاجة نمروذ و حماقته. أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك و حمله على المحاجة، أو حاج لأجله شكرا له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه اللّه الملك و هو حجة على من منع إيتاء اللّه الملك الكافر من المعتزلة.
إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف ل «حاجّ»، أو بدل من أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ على الوجه الثاني. رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ بخلق الحياة و الموت في الأجساد. و قرأ حمزة «رب» بحذف الياء. قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ بالعفو عن القتل و القتل. و قرأ نافع «أنا» بلا ألف. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أعرض إبراهيم عليه الصلاة و السلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه دفعا للمشاغبة، و هو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره، لا عن حجة إلى أخرى. و لعل نمروذ زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله اللّه فنقضه إبراهيم بذلك، و إنما حمله عليه بطر الملك و حماقته، أو اعتقاد الحلول. و قيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة و السلام الأصنام سجنه أياما ثم أخرجه ليحرقه، فقال له من ربك الذي تدعو إليه و حاجه فيه.
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فصار مبهوتا. و قرئ «فبهت» أي فغلب إبراهيم الكافر. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 156
الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية. و قيل لا يهديهم محجة الاحتجاج أو سبيل النجاة، أو طريق الجنة يوم القيامة.
[سورة البقرة (2): آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ تقديره أو أ رأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه، و تخصيصه بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير و الجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى، بخلاف مدعي الربوبية، و قيل الكاف مزيدة و تقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو الذي مر. و قيل إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل: ألم تر كالذي حاج، أو كالذي مر. و قيل: إنه من كلام إبراهيم ذكره جوابا لمعارضته و تقديره أو إن كنت تحيي فأحيي كإحياء اللّه تعالى الذي مر على قرية. و هو عزير بن شرحيا. أو الخضر، أو كافر بالبعث. و يؤيده نظمه مع نمروذ. و القرية بيت المقدس حين خربه بختنصر. و قيل القرية التي خرج منها الألوف. و قيل غيرهما و اشتقاقها من القرى و هو الجمع. وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية ساقطة حيطانها على سقوفها. قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء، و استعظاما لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمنا، و استبعادا إن كان كافرا. و أَنَّى في موضع نصب على الظرف بمعنى متى أو على الحال بمعنى كيف. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ فألبثه ميتا مائة عام، أو أماته اللّه فلبث ميتا مائة عام. ثُمَّ بَعَثَهُ بالإحياء. قالَ كَمْ لَبِثْتَ القائل هو اللّه و ساغ أن يكلمه و إن كان كافرا لأنه آمن بعد البعث أو شارف الإيمان. و قيل ملك أو نبي. قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ كقول الظان. و قيل: إنه مات ضحى و بعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوما ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض يوم على الإضراب. قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لم يتغير بمرور الزمان، و اشتقاقه من السنة. و الهاء أصلية إن قدرت لام السنة هاء و هاء سكت إن قدرت واوا. و قيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة كتقضي البازي، و إنما أفرد الضمير لأن الطعام و الشراب كالجنس الواحد. و قيل كان طعامه تينا و عنبا و شرابه عصيرا أو لبنا و كان الكل على حاله. و قرأ حمزة و الكسائي «لم يتسن» بغير الهاء في الوصل. وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرقت عظامه، أو انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء و علف كما حفظنا الطعام و الشراب من التغير، و الأول أدل على الحال و أوفق لما بعده. وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي و فعلنا ذلك لنجعلك آية.
روي أنه أتى قومه على حماره و قال أنا عزير فكذبوه، فقرأ التوراة من الحفظ و لم يحفظها أحد قبله فعرفوه بذلك، و قالوا هو ابن اللّه
. و قيل لما رجع إلى منزله كان شابا و أولاده شيوخا فإذا حدثهم بحديث قالوا حديث مائة سنة. وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ يعني عظام الحمار، أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم.
كَيْفَ نُنْشِزُها كيف نحييها، أو نرفع بعضها على بعض و نركبه عليه، و كيف منصوب بنشزها و الجملة حال من العظام أي: انظر إليها محياة. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و يعقوب «ننشرها» من أنشر اللّه الموتى، و قرئ «ننشرها» من نشر بمعنى أنشر. ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فاعل تبين مضمر يفسره ما بعده تقديره: فلما تبين له أن اللّه على كل شيء قدير. قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، أو يفسره ما قبله أي فلما تبين له ما أشكل عليه. و قرأ حمزة و الكسائي قالَ أَعْلَمُ على الأمر و الأمر مخاطبة، أو هو نفسه خاطبها به على طريق التبكيت.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 157
[سورة البقرة (2): آية 260]
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إنما سأل ذلك ليصير علمه عيانا، و قيل لما قال نمروذ أنا أحيى و أميت قال له: إن إحياء اللّه تعالى برد الروح إلى بدنها، فقال نمروذ: هل عاينته فلم يقدر أن يقول نعم. و انتقل إلى تقرير آخر، ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرة أخرى. قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب و الحياة، قال له ذلك و قد علم أنه أغرق الناس في الإيمان ليجيب بما أجاب به فيعلم السامعون غرضه. قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي بلى آمنت و لكن سألت ذلك لأزيد بصيرة و سكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي أو الاستدلال. قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل طاوسا و ديكا و غرابا و حمامة، و منهم من ذكر النسر بدل الحمامة و فيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات و الزخارف الذي هو صفة الطاوس، و الصولة المشهور بها الديك و خسة النفس و بعد الأمل المتصف بهما الغراب، و الترفع و المسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام. و إنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان و أجمع لخواص الحيوان و الطير مصدر سمي به أو جمع كصحب. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ فأملهن و اضممهن إليك لتتأملها و تعرف شياتها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء. و قرأ حمزة و يعقوب فَصُرْهُنَ بالكسر و هما لغتان قال:
و ما صيد الأعناق فيهم جبلة
و لكن أطراف الرّماح تصورها
و قال:
و فرع يصير الجيد و حف كأنه
على اللّيث قنوان الكروم الدّوالح
و قرئ «فصرهن» بضم الصاد و كسرها و هما لغتان، مشددة الراء من صره يصره و يصره إذا جمعه و فصرهن من التصرية و هي الجمع أيضا. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أي ثم جزئهن و فرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك. قيل كانت أربعة. و قيل سبعة. و قرأ أبو بكر «جزءوا» و «جزؤ» بضم الزاي حيث وقع. ثُمَّ ادْعُهُنَ قل لهن تعالين بإذن اللّه تعالى. يَأْتِينَكَ سَعْياً ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا.
روي أنه أمر بأن يذبحها و ينتف ريشها و يقطعها فيمسك رؤوسها، و يخلط سائر أجزائها و يوزعها على الجبال، ثم يناديهن. ففعل ذلك فجعل كل جزء يطير إلى آخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن
. و فيه إشارة إلى أن من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية، فعليه أن يقبل على القوى البدنية فيقتلها و يمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها، فيطاوعنه مسرعات متى دعاهن بدعاية العقل أو الشرع. و كفى لك شاهدا على فضل إبراهيم عليه الصلاة و السلام و يمن الضراعة في الدعاء و حسن الأدب في السؤال، إنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه، و أراه عزيرا بعد أن أماته مائة عام. وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجز عما يريده. حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله و يذره.
[سورة البقرة (2): آية 261]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أي مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة على حذف المضاف. أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ أسند الإنبات إلى الحبة لما كانت من الأسباب، كما يسند إلى الأرض و الماء، و المنبت على الحقيقة هو اللّه تعالى و المعنى: أنه يخرج منها ساق
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 158
يتشعب لكل منه سبع شعب، لكل منها سنبلة فيها مائة حبة. و هو تمثيل لا يقتضي وقوعه و قد يكون في الذرة و الدخن في البر في الأراضي المغلة. وَ اللَّهُ يُضاعِفُ تلك المضاعفة. لِمَنْ يَشاءُ بفضله و على حسب حال المنفق من إخلاصه و تعبه، و من أجل ذلك تفاوتت الأعمال في مقادير الثواب. وَ اللَّهُ واسِعٌ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة. عَلِيمٌ بنية المنفق و قدر إنفاقه.
[سورة البقرة (2): الآيات 262 الى 263]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً نزلت في عثمان رضي اللّه تعالى عنه فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها و أحلاسها. و عبد الرحمن بن عوف فإنه أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بأربعة آلاف درهم صدقة. و المن أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه. و الأذى أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه، و ثم للتفاوت بين الإنفاق و ترك المن و الأذى. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لعله لم يدخل الفاء فيه و قد تضمن ما أسند إليه معنى الشرط إيهاما بأنهم أهل لذلك و إن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ رد جميل. وَ مَغْفِرَةٌ و تجاوز عن السائل و الحاجة، أو نيل المغفرة من اللّه بالرد الجميل، أو عفو من السائل بأن يعذر و يغتفر رده. خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً خبر عنهما، و إنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة. وَ اللَّهُ غَنِيٌ عن إنفاق بمن و إيذاء. حَلِيمٌ عن معاجلة من يمن و يؤذي بالعقوبة.
[سورة البقرة (2): آية 264]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما. كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ كإبطال المنافق الذي يرائي بإنفاقه و لا يريد به رضا اللّه تعالى و لا ثواب الآخرة، أو مماثلين الذي ينفق رئاء الناس، و الكاف في محل النصب على المصدر أو الحال، و رِئاءَ نصب على المفعول له أو الحال بمعنى مرائيا أو المصدر أي إنفاق رِئاءَ . فَمَثَلُهُ أي فمثل المرائي في إنفاقه. كَمَثَلِ صَفْوانٍ كمثل حجر أملس. عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر عظيم القطر. فَتَرَكَهُ صَلْداً أملس نقيا من التراب. لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا لا ينتفعون بما فعلوا رئاء و لا يجدون له ثوابا، و الضمير للذي ينفق باعتبار المعنى لأن المراد به الجنس، أو الجمع كما في قوله:
إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى الخير و الرشاد، و فيه تعريض بأن الرئاء و المن و الأذى على الإنفاق من صفات الكفار و لا بد للمؤمن أن يتجنب عنها.
[سورة البقرة (2): آية 265]
وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ و تثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان، فإن
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 159
المال شقيق الروح، فمن بذل ماله لوجه اللّه ثبت بعض نفسه و من بذل ماله و روحه ثبتها كلها، أو تصديقا للإسلام و تحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم، و فيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل و حب المال. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أي و مثل نفقة هؤلاء في الزكاة، كمثل بستان بموضع مرتفع، فإن شجرة يكون أحسن منظرا و أزكى ثمرا. و قرأ ابن عامر و عاصم بِرَبْوَةٍ بالفتح و قرئ بالكسر و ثلاثتها لغات فيها. أَصابَها وابِلٌ مطر عظيم القطر. فَآتَتْ أُكُلَها ثمرتها. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو بالسكون للتخفيف. ضِعْفَيْنِ مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. و المراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ* و قيل: أربعة أمثاله و نصبه على الحال أي مضاعفا. فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ أي فيصيبها، أو فالذي يصيبها طل، أو فطل يكفيها لكرم منبتها و برودة هوائها لارتفاع مكانها. و هو المطر الصغير القطر، و المعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند اللّه لا تضيع بحال و إن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله، و يجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند اللّه تعالى بالجنة على الربوة و نفقاتهم الكثيرة و القليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل و الطل. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تحذير عن الرئاء و ترغيب في الإخلاص.
[سورة البقرة (2): آية 266]
أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ الهمزة فيه للإنكار. أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغليبا لهما لشرفهما و كثرة منافعهما، ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار، و يجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع. وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ أي كبر السن، فإن الفاقة و العالة في الشيخوخة أصعب، و الواو للحال أو للعطف حملا على المعنى، فكأنه قيل: أ يود أحدكم لو كانت له جنة و أصابه الكبر. وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ صغار لا قدرة لهم على الكسب. فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ عطف على أصابه، أو تكون باعتبار المعنى.
و الإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود، و المعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة و يضم إليها ما يحبطها كرياء و إيذاء في الحسرة و الأسف، فإذا كان يوم القيامة و اشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه، و أشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت، و ترقى بفكره إلى جناب الجبروت، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور و التفت إلى ما سوى الحق و جعل سعيه هباء منثورا. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها.
[سورة البقرة (2): آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ من حلاله أو جياده. وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي و من طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب و الثمرات و المعادن، فحذف المضاف لتقدم ذكره. وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ أي و لا تقصدوا الرديء منه أي من المال، أو مما أخرجنا لكم. و تخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر، و قرئ «و لا تؤمموا» «و لا تيمموا» بضم التاء. تُنْفِقُونَ حال مقدرة من فاعل تيمموا، و يجوز أن يتعلق به منه و يكون الضمير للخبيث و الجملة حالا منه. وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أي و حالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم لرداءته. إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ إلا أن تتسامحوا فيه، مجاز من أغمض بصره إذا غضه. و قرئ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 160
«تغمضوا» أي تحملوا على الإغماض، أو توجدوا مغمضين. و عن ابن عباس رضي اللّه عنه: كانوا يتصدقون بحشف التمر و شراره فنهوا عنه. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عن إنفاقكم، و إنما يأمركم به لانتفاعكم. حَمِيدٌ بقبوله و إثابته.
[سورة البقرة (2): آية 268]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ في الإنفاق، و الوعد في الأصل شائع في الخير و الشر. و قرئ الْفَقْرَ بالضم و السكون و بضمتين و فتحتين. وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ و يغريكم على البخل، و العرب تسمي البخيل فاحشا.
و قيل المعاصي وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ أي يعدكم في الإنفاق مغفرة لذنوبكم. وَ فَضْلًا خلفا أفضل مما أنفقتم في الدنيا، أو في الآخرة. وَ اللَّهُ واسِعٌ أي واسع الفضل لمن أنفق. عَلِيمٌ بإنفاقه.
[سورة البقرة (2): آية 269]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ تحقيق العلم و إتقان العلم. مَنْ يَشاءُ مفعول أول أخر للاهتمام بالمفعول الثاني وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بناؤه للمفعول لأنه المقصود. و قرأ يعقوب بالكسر أي و من يؤته اللّه الحكمة. فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً أي: أيّ خير كثير؟ إذ حيز له خير الدارين. وَ ما يَذَّكَّرُ و ما يتعظ بما قص من الآيات، أو ما يتفكر، فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع اللّه في قلبه من العلوم بالقوة. إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم و الركون إلى متابعة الهوى.
[سورة البقرة (2): الآيات 270 الى 272]
وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة، سرا أو علانية، في حق أو باطل. أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ بشرط أو بغير شرط، في طاعة أو معصية. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فيجازيكم عليه. وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين ينفقون في المعاصي و ينذرون فيها، أو يمنعون الصدقات و لا يوفون بالنذر. مِنْ أَنْصارٍ من ينصرهم من اللّه و يمنعهم من عقابه.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ فنعم شيئا إبداؤها. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بفتح النون و كسر العين على الأصل. و قرأ أبو بكر و أبو عمرو و قالون بكسر النون و سكون العين، و روي عنهم بكسر النون و إخفاء حركة العين و هو أقيس. وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ أي تعطوها مع الإخفاء. فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فالإخفاء خير لكم، و هذا في التطوع و لمن لم يعرف بالمال فإن إبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة عنه.
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما (صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا، و صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة و عشرين ضعفا). وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قرأ ابن عامر و عاصم في رواية حفص بالياء أي و اللّه يكفر أو الإخفاء. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و عاصم في رواية ابن عياش و يعقوب بالنون مرفوعا على أنه جملة فعلية مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي: و نحن نكفر. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي به مجزوما على محل الفاء و ما بعده. و قرئ بالتاء مرفوعا و مجزوما و الفعل للصدقات. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ترغيب في الإسرار.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 161
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، و إنما عليك الإرشاد و الحث على المحاسن، و النهي عن المقابح كالمن و الأذى و إنفاق الخبيث. وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ صريح بأن الهداية من اللّه تعالى و بمشيئته، و إنها تخص بقوم دون قوم. وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ من نفقة معروفة. فَلِأَنْفُسِكُمْ فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا عليه و لا تنفقوا الخبيث. وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ حال، و كأنه قال و ما تنفقون من خير فلأنفسكم غير منفقين إلا لابتغاء وجه اللّه و طلب ثوابه. أو عطف على ما قبله أي و ليست نفقتكم إلا لابتغاء وجهه فما بالكم تمنون بها و تنفقون الخبيث. و قيل: نفي في معنى النهي. وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ثوابه أضعافا مضاعفة، فهو تأكيد للشرطية السابقة، أو ما يخلف للمنفق استجابة
لقوله عليه الصلاة و السلام «اللهم اجعل لمنفق خلفا، و لممسك تلفا»
روي : أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار و رضاع في اليهود، و كانوا ينفقون عليهم، فكرهوا لما أسلموا أن ينفعوهم فنزلت
. و هذا في غير الواجب أما الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكفار. وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون ثواب نفقاتكم.
[سورة البقرة (2): آية 273]
لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو صدقاتكم للفقراء.
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أحصرهم الجهاد. لا يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم به. ضَرْباً فِي الْأَرْضِ ذهابا فيها للكسب. و قيل هم أهل الصفة كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم و العبادة، و كانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بحالهم، و قرأ ابن عامر و عاصم و حمزة بفتح السين. أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ من أجل تعففهم عن السؤال، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ من الضعف و رثاثة الحال، و الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أو لكل أحد. لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً إلحاحا، و هو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه، من قولهم لحفني من فضل لحافه، أي أعطاني من فضل ما عنده، و المعنى أنهم لا يسألون و إن سألوا عن ضرورة لم يلحوا. و قيل: هو نفي للأمرين كقوله:
على لا حب يهتدي بمناره و نصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال، أو على الحال. وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ترغيب في الإنفاق و خصوصا على هؤلاء.
[سورة البقرة (2): آية 274]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي يعمون الأوقات و الأحوال بالخير. نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه، تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل و عشرة بالنهار، و عشرة بالسر و عشرة بالعلانية. و
قيل في أمير المؤمنين علي رضي اللّه تعالى عنه: لم يملك إلا أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلا و درهم نهارا، و درهم سرا و درهم علانية.
و قيل: في ربط الخيل في سبيل اللّه و الإنفاق عليها. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ خبر الذين ينفقون، و الفاء للسببية. و قيل للعطف و الخبر محذوف أي و منهم الذين و لذلك جوز الوقف على و علانية.
[سورة البقرة (2): آية 275]