کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 5
الجزء الثاني
(3) سورة آل عمران
مدنية و آيها مائتان
[سورة آلعمران (3): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إنما فتح الميم في المشهور و كان حقها أن يوقف عليها لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت، لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج، فإن الميم في حكم الوقف كقولهم واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال لا لالتقاء الساكنين، فإنه غير محذور في باب الوقف، و لذلك لم تحرك الميم في لام. و قرئ بكسرها على توهم التحريك لالتقاء الساكنين. و قرأ أبو بكر بسكونها و الابتداء بما بعدها على الأصل. الْحَيُّ الْقَيُّومُ*
روي أنه عليه الصلاة و السلام قال : «إن اسم اللّه الأعظم في ثلاث سور في البقرة اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم، و في آل عمران اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم، و في طه و عنت الوجوه للحي القيوم»
. [سورة آلعمران (3): الآيات 3 الى 4]
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ القرآن نجوما. بِالْحَقِ بالعدل، أو بالصدق في أخباره، أو بالحجج المحققة أنه من عند اللّه و هو في موضع الحال. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب. وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ جملة على موسى و عيسى. و اشتقاقهما من الورى و النجل، و وزنهما بتفعلة و افعيل تعسف لأنهما أعجميان، و يؤيد ذلك أنه قرئ «الإنجيل» بفتح الهمزة و هو ليس من أبنية العربية، و قرأ أبو عمرو و ابن ذكوان و الكسائي التَّوْراةَ بالإمالة في جميع القرآن، و نافع و حمزة بين اللفظين إلّا قالون فإنه قرأ بالفتح كقراءة الباقين.
مِنْ قَبْلُ من قبل تنزيل القرآن. هُدىً لِلنَّاسِ على العموم إن قلنا إنا متعبدون بشرع من قبلنا، و إلا فالمراد به قومهما. وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ يريد به جنس الكتب الإلهية، فإنّها فارقة بين الحق و الباطل. ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها، كأنه قال: و أنزل سائر ما يفرق به بين الحق و الباطل، أو الزبور أو القرآن. و كرر ذكره بما هو نعت له مدحا و تعظيما، و إظهارا لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه و حيا منزلا و يتميز بأنه معجز يفرق بين المحق و المبطل، أو المعجزات إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ من كتبه المنزلة و غيرها. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم. وَ اللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يمنع من التعذيب. ذُو انْتِقامٍ لا يقدر على مثله منتقم، و النقمة عقوبة المجرم و الفعل منه نقم بالفتح و الكسر، و هو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد و الإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيما للأمر، و زجرا عن الإعراض عنه.
[سورة آلعمران (3): الآيات 5 الى 6]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 6
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ أي شيء كائن في العالم كليا كان أو جزئيا، إيمانا أو كفرا. فعبّر عنه بالسماء و الأرض إذ الحس لا يتجاوزهما، و إنما قدم الأرض ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، و لأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها. و هو كالدليل على كونه حيا و قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أي من الصور المختلفة، كالدليل على القيومية، و الاستدلال على أنه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين و تصويره. و قرئ «تصوركم» أي صوركم لنفسه و عبادته. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه و لا يقدر على مثل ما يفعله. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إشارة إلى كمال قدرته و تناهي حكمته. قيل: هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان ربا، فإن وفد نجران لما حاجوا فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نزلت السورة، من أولها إلى نيف و ثمانين آية تقريرا لما احتج به عليهم و أجاب عن شبههم.
[سورة آلعمران (3): آية 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أحكمت عبارتها بأن حفظت من الإجمال و الاحتمال. هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أصله يرد إليها غيرها و القياس أمهات فأفرد على تأويل كل واحدة، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ محتملات لا يتضح مقصودها. لإجمال أو مخالفة ظاهر. إلا بالفحص و النظر ليظهر فيها فضل العلماء، و يزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها و تحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها، فينالوا بها. و بإتعاب القرائح في استخراج معانيها، و التوفيق بينها و بين المحكمات. معالي الدرجات. و أما قوله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ فمعناه أنها حفظت من فساد المعنى و ركاكة اللفظ، و قوله: كِتاباً مُتَشابِهاً فمعناه أنه يشبه بعضه بعضا في صحة المعنى و جزالة اللفظ، وَ أُخَرُ جمع أخرى و إنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الآخر و لا يلزم منه معرفته، لأن معناه أن القياس أن يعرف و لم يعرف لا أنه في معنى المعرف أو عن أُخَرُ من فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ عدول عن الحق كالمبتدعة. فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك و التلبيس و مناقضة المحكم بالمتشابه. وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ و طلب أن يؤولوه على ما يشتهونه، و يحتمل أن يكون الداعي إلى الاتباع مجموع الطلبتين، أو كل واحدة منهما على التعاقب. و الأول يناسب المعاند و الثاني يلائم الجاهل. وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الذي يجب أن يحمل عليه. إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي الذين ثبتوا و تمكنوا فيه، و من وقف على إِلَّا اللَّهُ فسر المتشابه بما استأثر اللّه بعلمه: كمدة بقاء الدنيا، و وقت قيام الساعة، و خواص الأعداد كعدد الزبانية، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد و لم يدل على ما هو المراد. يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ استئناف موضح لحال الراسخين، أو حال منهم أو خبر إن جعلته مبتدأ. كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي كل من المتشابه و المحكم من عنده، وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ مدح للراسخين بجودة الذهن و حسن النظر، و إشارة إلى ما استعدوا به للاهتداء إلى تأويله، و هو تجرد العقل عن غواشي الحس، و اتصال الآية بما قبلها من حيث إنها في تصوير الروح بالعلم و تربيته، و ما قبلها في تصوير الجسد و تسويته، أو أنها جواب عن تشبث النصارى بنحو قوله تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ .
كما أنه جواب عن قوله لا أب له غير اللّه، فتعين أن يكون هو أباه بأنه تعالى مصور الأجنة كيف يشاء فيصور من نطفة أب و من غيرها، و بأنه صوره في الرحم و المصور لا يكون أب المصور.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 7
[سورة آلعمران (3): الآيات 8 الى 9]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا من مقال الراسخين. و قيل: استئناف و المعنى لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه،
قال عليه الصلاة و السلام «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه على الحق و إن شاء أزاغه عنه»
. و قيل: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا. بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى الحق و الإيمان بالقسمين. من الحكم و المتشابه، و بعد نصب على الظرف، و إذ في موضع الجر بإضافته إليه. و قيل إنه بمعنى إن. وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً تزلفنا إليك و نفوز بها عندك، أو توفيقا للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ لكل سؤل، و فيه دليل على أن الهدى و الضلال من اللّه و أنه متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء.
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لحساب يوم أو لجزائه. لا رَيْبَ فِيهِ في وقوع اليوم و ما فيه من الحشر و الجزاء، نبهوا به على أن معظم غرضهم من الطلبتين ما يتعلق بالآخرة فإنها المقصد و المآل. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ فإن الإلهية تنافيه و للإشعار به و تعظيم الموعود لوّن الخطاب، و استدل به الوعيدية. و أجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو لدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا.
[سورة آلعمران (3): الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عام في الكفرة. و قيل: المراد به وفد نجران، أو اليهود، أو مشركوا العرب. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من رحمته، أو طاعته على معنى البدلية، أو من عذابه وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ حطبها. و قرئ بالضم بمعنى أهل وقودها.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ متصل بما قبله أي لن تغن عن أولئك، أو توقد بهم كما توقد بأولئك، أو استئناف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر و العذاب، و هو مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فنقل إلى معنى الشأن. وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على آلِ فِرْعَوْنَ . و قيل استئناف. كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ حال بإضمار قد، أو استئناف بتفسير حالهم، أو خبر إن ابتدأت بالذين من قبلهم. وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ تهويل للمؤاخذة و زيادة تخويف الكفرة.
[سورة آلعمران (3): آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ أي قل لمشركي مكة ستغلبون يعني يوم بدر، و قيل لليهود فإنه عليه الصلاة و السلام جمعهم بعد بدر في سوق بني قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش، فقالوا لا يغرنك أنك أصبت أغمارا لا علم لهم بالحرب لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، فنزلت. و قد صدق اللّه وعده لهم بقتل قريظة و إجلاء بني النضير و فتح خيبر، و ضرب الجزية على من عداهم و هو من دلائل النبوة. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء فيهما على أن الأمر بأن يحكي لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه.
وَ بِئْسَ الْمِهادُ تمام ما يقال لهم، أو استئناف و تقدير بئس المهاد جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم.
[سورة آلعمران (3): آية 13]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 8
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ الخطاب لقريش أو لليهود، و قيل للمؤمنين. فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا يوم بدر. فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين، و كان قريبا من ألف، أو مثلي عدد المسلمين و كانوا ثلاثمائة و بضعة عشر، و ذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم و توجهوا إليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مددا من اللّه تعالى للمؤمنين، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين و كانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم و يتيقنوا بالنصر الذي وعدهم اللّه به في قوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ . و يؤيده قراءة نافع و يعقوب بالتاء و قرئ بهما على البناء للمفعول أي يريهم اللّه، أو يريكم ذلك بقدرته، و فئة بالجر على البدل من فئتين و النصب على الاختصاص، أو الحال من فاعل التقتا. رَأْيَ الْعَيْنِ رؤية ظاهرة معاينة. وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ نصره كما أيد أهل بدر. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التقليل و التكثير، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح، و كون الواقعة آية أيضا يحتملها و يحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم. لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي لعظة لذوي البصائر. و قيل لمن أبصرهم.
[سورة آلعمران (3): آية 14]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي المشتهيات سماها شهوات مبالغة و إيماء على أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى: أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ و المزين هو اللّه تعالى لأنه الخالق للأفعال و الدواعي، و لعله زينه إبتلاء، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه اللّه تعالى، أو لأنه من أسباب التعيش و بقاء النوع. و قيل الشيطان فإن الآية في معرض الذم. و فرق الجبائي بين المباح و المحرم.
مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ بيان للشهوات، و القنطار المال الكثير. و قيل مائة ألف دينار. و قيل ملء مسك ثور. و اختلف في أنه فعلال أو فنعال، و المقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة. و المسومة المعلمة من السومة و هي العلامة، أو المرعية من أسام الدابة و سومها، أو المطهمة. و الأنعام الإبل و البقر و الغنم ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إشارة إلى ما ذكر.
وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع، و هو تحريض على استبدال ما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية.
[سورة آلعمران (3): الآيات 15 الى 16]
قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ يريد به تقرير أن ثواب اللّه تعالى خير من مستلذات الدنيا. لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها استئناف لبيان ما هو خير، و يجوز أن يتعلق اللام بخير و يرتفع جنات على هو جنات، و يؤيده قراءة من جرها بدلا من بِخَيْرٍ . وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستقذر من النساء. وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ قرأ عاصم في رواية أبي بكر في جميع القرآن بضم الراء ما خلا الحرف الثاني في المائدة و هو قوله تعالى: رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ بكسر الراء و هما لغتان. وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي بأعمالهم فيثيب المحسن و يعاقب المسيء، أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعد لهم جنات، و قد نبه بهذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا و أعلاها رضوان اللّه تعالى لقوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ و أوسطها الجنة و نعيمها.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 9
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ صفة للمتقين، أو للعباد، أو مدح منصوب أو مرفوع. و في ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة أو الاستعداد لها.
[سورة آلعمران (3): آية 17]
الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب، فإن معاملته مع اللّه تعالى إما توسل و إما طلب، و التوسل إما بالنفس و هو منعها عن الرذائل و حبسها على الفضائل و الصبر يشملهما، و إما بالبدن، و هو إما قولي و هو الصدق و إما فعلي و هو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة، و إما بالمال و هو الإنفاق في سبل الخير، و أما الطلب فبالاستغفار لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها و توسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منها و كمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها، و تخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة، لأن العبادة حينئذ أشق و النفس أصفى و الروع أجمع للمجتهدين. قيل إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون و يدعون.
[سورة آلعمران (3): آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بين وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها و إنزال الآيات الناطقة بها.
وَ الْمَلائِكَةُ بالإقرار. وَ أُولُوا الْعِلْمِ بالإيمان بها و الاحتجاج عليها، شبه ذلك في البيان و الكشف بشهادة الشاهد. قائِماً بِالْقِسْطِ مقيما للعدل في قسمه و حكمه و انتصابه على الحال من اللّه، و إنما جاز إفراده بها و لم يجز جاء زيد و عمرو راكبا لعدم اللبس كقوله تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً . أو من هو و العامل فيها معنى الجملة أي تفرد قائما، أو أحقه لأنها حال مؤكدة، أو على المدح، أو الصفة للمنفي و فيه ضعف للفصل و هو مندرج في المشهود به إذا جعلته صفة، أو حالا من الضمير. و قرئ «القائم بالقسط» على البدل عن هو أو الخبر لمحذوف. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرره للتأكيد و مزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد و الحكم به بعد إقامة الحجة و ليبني عليه قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيعلم أنه الموصوف بهما، و قدم العزيز لتقديم العلم بقدرته على العلم بحكمته، و رفعهما على البدل من الضمير أو الصفة لفاعل شهد.
و
قد روي في فضلها أنه عليه الصلاة و السلام قال «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول اللّه تعالى: «إن لعبدي هذا عندي عهدا و أنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة»
. و هي دليل على فضل علم أصول الدين و شرف أهله.
[سورة آلعمران (3): آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي لا دين مرضي عند اللّه سوى الإسلام، و هو التوحيد و التدرع بالشرع الذي جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و قرأ الكسائي بالفتح على أنه بدل من أنه بدل الكل أن فسر الإسلام بالإيمان، أو بما يتضمنه و بدل اشتمال إن فسر بالشريعة. و قرئ أنه بالكسر و أن بالفتح على وقوع الفعل على الثاني، و اعتراض ما بينهما أو إجراء شهد مجرى قال تارة و علم أخرى لتضمنه معناهما.
وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى، أو من أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام فقال قوم إنه حق و قال قوم إنه مخصوص بالعرب و نفاه آخرون مطلقا، أو في التوحيد فثلثت النصارى وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ . و قيل هم قوم موسى اختلفوا بعده. و قيل هم النصارى اختلفوا في أمر عيسى عليه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 10
السلام. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي بعد ما علموا حقيقة الأمر و تمكنوا من العلم بها بالآيات و الحجج.
بَغْياً بَيْنَهُمْ حسدا بينهم و طلبا للرئاسة، لا لشبهة و خفاء في الأمر. وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وعيد لمن كفر منهم.
[سورة آلعمران (3): آية 20]
فَإِنْ حَاجُّوكَ في الدين، أو جادلوك فيه بعد ما أقمت الحجج. فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أخلصت نفسي و جملتي له لا أشرك فيها غيره، و هو الدين القويم الذي قامت به الحجج و دعت إليه الآيات و الرسل، و إنما عبر بالوجه عن النفس لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة و مظهر القوى و الحواس وَ مَنِ اتَّبَعَنِ عطف على التاء في أسلمت و حسن للفصل، أو مفعول معه. وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب. أَ أَسْلَمْتُمْ كما أسلمت لما وضحت لكم الحجة، أم أنتم بعد على كفركم و نظيره و قوله:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ و فيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا فقد نفعوا أنفسهم بأن أخرجوها من الضلال. وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي فلم يضروك إذ ما عليك إلا أن تبلغ و قد بلغت.
وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وعد و وعيد.
[سورة آلعمران (3): الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ هم أهل الكتاب الذين في عصره عليه السلام. قتل أولهم الأنبياء و متابعيهم و هم رضوا به و قصدوا قتل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين و لكن اللّه عصمهم، و قد سبق مثله في سورة البقرة. و قرأ حمزة «و يقاتلون الذين». و قد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر إن كليت و لعل و لذلك قيل الخبر.
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ كقولك زيد فافهم رجل صالح، و الفرق أنه لا يغير معنى الابتداء بخلافهما. وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفع عنهم العذاب.
[سورة آلعمران (3): آية 23]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي التوراة أو جنس الكتب السماوية، و من للتبعيض أو للبيان. و تنكير النصيب يحتمل التعظيم و التحقير. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الداعي محمد عليه الصلاة و السلام و كتاب اللّه القرآن، أو التوراة لما
روي (أنه عليه الصلاة و السلام دخل مدراسهم فقال له نعيم بن عمرو و الحارث بن زيد على أي دين أنت. فقال: على دين إبراهيم. فقالا إن إبراهيم كان يهوديا فقال:
هلموا إلى التوراة فإنها بيننا و بينكم. فأبيا فنزلت)