کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 49
الروحاء ندموا و هموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فندب أصحابه للخروج في طلبه و قال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج عليه الصلاة و السلام مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد. و هي على ثمانية أميال من المدينة. و كان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، و ألقى اللّه الرعب في قلوب المشركين فذهبوا) فنزلت
. [سورة آلعمران (3): آية 173]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني الركب الذين استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي، و أطلق عليه الناس لأنه من جنسهم كما يقال فلان يركب الخيل و ماله إلا فرس واحد لأنه انضم إليه ناس من المدينة و أذاعوا كلامه. إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ يعني أبا سفيان و أصحابه
روي : أنه نادى عند انصرافه من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة و السلام: إن شاء اللّه تعالى، فلما كان القابل خرج في أهل مكة حتى نزل بمر الظهران فأنزل اللّه الرعب في قلبه و بدا له أن يرجع، فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين
. و
قيل : لقي نعيم بن مسعود و قد قدم معتمرا فسأله ذلك و التزم له عشرا من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أ فترون أن تخرجوا و قد جمعوا لكم ففتروا، فقال عليه السلام: و الذي نفسي بيده لأخرجن و لو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكبا و هم يقولون حسبنا اللّه
. فَزادَهُمْ إِيماناً الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده، و البارز للمقول لهم و المعنى: إنهم لم يلتفتوا إليه و لم يضعفوا بل ثبت به يقينهم باللّه و ازداد إيمانهم و أظهروا حمية الإسلام و أخلصوا النية عنده، و هو دليل على أن الإيمان يزيد و ينقص و يعضده
قول ابن عمر رضي اللّه عنهما (قلنا يا رسول اللّه الإيمان يزيد و ينقص، قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة و ينقص حتى يدخل صاحبه النار)
و هذا ظاهر إن جعل الطاعة من جملة الإيمان و كذا إن لم تجعل فإن اليقين يزداد بالإلف و كثرة التأمل و تناصر الحجج. وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ محسبنا و كافينا، من أحسبه إذا كفاه و يدل على أنه بمعنى المحسب إنه لا يستفيد بالإضافة تعريفا في قولك هذا رجل حسبك. وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ و نعم الموكول إليه هو.
[سورة آلعمران (3): الآيات 174 الى 175]
فَانْقَلَبُوا فرجعوا من بدر. بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عافية و ثبات على الإيمان و زيادة فيه. وَ فَضْلٍ و ربح في التجارة فإنهم لما أتوا بدرا و أوفوا بها سوقا فاتجروا و ربحوا. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ من جراحة و كيد عدو.
وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم و خروجهم. وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضل عليهم بالتثبيت و زيادة الإيمان و التوفيق للمبادرة إلى الجهاد، و التصلب في الدين و إظهار الجراءة على العدو، و بالحفظ عن كل ما يسوءهم، و إصابة النفع مع ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من اللّه و فضل. و فيه تحسير للمتخلف و تخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يريد به المثبط نعيما أو أبا سفيان، و الشيطان خبر ذلِكُمُ و ما بعده بيان لشيطنته أو صفته و ما بعده خبر، و يجوز أن تكون الإشارة إلى قوله على تقدير مضاف أي إنما ذلكم قول الشيطان يعني إبليس عليه اللعنة. يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ القاعدين عن الخروج مع الرسول، أو يخوفكم أولياؤه الذين هم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 50
أبو سفيان و أصحابه. فَلا تَخافُوهُمْ الضمير للناس الثاني على الأول و إلى الأولياء على الثاني. وَ خافُونِ في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف اللّه تعالى على خوف الناس.
[سورة آلعمران (3): الآيات 176 الى 177]
وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعا حرصا عليه، و هم المنافقون من المتخلفين، أو قوم ارتدوا عن الإسلام. و المعنى لا يحزنك خوف أن يضروك و يعينوا عليك لقوله: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي لن يضروا أولياء اللّه شيئا بمسارعتهم في الكفر، و إنما يضرون بها أنفسهم. و شيئا يحتمل المفعول و المصدر و قرأ نافع يَحْزُنْكَ بضم الياء و كسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله في الأنبياء لا يحزنهم الفزع الأكبر، فإنه فتح الياء و ضم الزاي فيه و الباقون كذلك في الكل. يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ نصيبا من الثواب في الآخرة، و هو يدل على تمادي طغيانهم و موتهم على الكفر، و في ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية حتى أراد أرحم الراحمين أن لا يكون لهم حظ من رحمته، و إن مسارعتهم في الكفر لأنه تعالى لم يرد أن يكون لهم حظ في الآخرة. وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ مع الحرمان عن الثواب.
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تكرير للتأكيد، أو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين، أو ارتد من العرب.
[سورة آلعمران (3): آية 178]
وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ خطاب للرسول عليه السلام، أو لكل من يحسب. و الذين مفعول و أَنَّما نُمْلِي لهم بدل منه، و إنما اقتصر على مفعول واحد لأن التعويل على البدل و هو ينوب عن المفعولين كقوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ . أو المفعول الثاني على تقدير مضاف مثل: و لا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم، أو و لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم، و ما مصدرية و كان حقها أن تفصل في الخط و لكنها وقعت متصلة في الإمام فاتبع.
و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و عاصم و الكسائي و يعقوب بالياء على إن الذين فاعل و إن مع ما في حيزه مفعول و فتح سينه في جميع القرآن ابن عامر و حمزة و عاصم. و الإملاء الإمهال و إطالة العمر. و قيل تخليتهم و شأنهم، من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً استئناف بما هو العلة للحكم قبلها، و ما كافة و اللام لام الإرادة. و عند المعتزلة لام العاقبة. و قرئ «إنما» بالفتح هنا و بكسر الأولى و لا يحسبن بالياء على معنى وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة و الدخول في الإيمان، و أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ اعتراض. معناه أن إملاءنا خير لهم إن انتبهوا و تداركوا فيه ما فرط منهم.
وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على هذا يجوز أن يكون حالا من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين.
[سورة آلعمران (3): آية 179]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 51
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الخطاب لعامة المخلصين و المنافقين في عصره، و المعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها و لا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم، كبذل الأموال و الأنفس في سبيل اللّه، ليختبر النبي به بواطنكم و يستدل به على عقائدكم.
و قرأ حمزة و الكسائي حَتَّى يَمِيزَ ، هنا و في «الأنفال» بضم الياء و فتح الميم و كسر الياء و تشديدها و الباقون بفتح الياء و كسر الميم و سكون الياء. وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ و ما كان اللّه ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر و إيمان، و لكن اللّه يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه و يخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ بصفة الإخلاص، أو بأن تعلموه وحده مطلعا على الغيب و تعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم اللّه و لا يقولون إلا ما أوحي إليهم
روي (أن الكفرة قالوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا و من يكفر) فنزلت
. عن السدي أنه عليه السلام قال : «عرضت عليّ أمتي و أعلمت من يؤمن بي و من يكفر»
. فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به و من يكفر و نحن معه و لا يعرفنا فنزلت. وَ إِنْ تُؤْمِنُوا حق الإيمان. وَ تَتَّقُوا النفاق.
فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره.
[سورة آلعمران (3): آية 180]
وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ القراءات فيه على ما سبق. و من قرأ بالتاء قدر مضافا ليتطابق مفعولاه أي و لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم، و كذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أو من يحسب و إن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفا لدلالة يبخلون عليه أي و لا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم. بَلْ هُوَ أي البخل. شَرٌّ لَهُمْ لاستجلاب العقاب عليهم. سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لذلك، و المعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق، و
عنه عليه الصلاة و السلام «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعله اللّه شجاعا في عنقه يوم القيامة»
. وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و له ما فيهما مما يتوارث، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله و لا ينفقونه في سبيله، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه و لا ينفقونه في سبيله بهلاكهم و تبقى عليهم الحسرة و العقوبة.
وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ من المنع و الإعطاء. خَبِيرٌ فمجازيهم. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي بالتاء على الالتفات و هو أبلغ في الوعيد.
[سورة آلعمران (3): الآيات 181 الى 182]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ قالته اليهود لما سمعوا مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً* . و
روي (أنه عليه الصلاة و السلام كتب مع أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة، و أن يقرضوا اللّه قرضا حسنا فقال فنحاص بن عازوراء: إن اللّه فقير حتى سأل القرض، فلطمه أبو بكر رضي اللّه عنه على وجهه و قال: لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و جحد ما قاله) فنزلت
. و المعنى أنه لم يخف عليه و أنه أعد لهم العقاب
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 52
عليه. سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ أي سنكتبه في صحائف الكتبة، أو سنحفظه في علمنا لا نهمله لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر باللّه عز و جل و استهزاء بالقرآن و الرسول، و لذلك نظمه مع قتل الأنبياء، و فيه تنبيه على أنه ليس أول جريمة ارتكبوها و أن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول.
و قرأ حمزة سيكتب بالياء و ضمها و فتح التاء و قتلهم بالرفع و يقول بالياء. وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي و ننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق، و فيه مبالغات في الوعيد. و الذّوق إدراك الطعوم، و على الاتساع يستعمل لإدراك سائر المحسوسات و الحالات، و ذكره هاهنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل و التهالك على المال، و غالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم و معظم بخله به للخوف من فقدانه و لذلك كثر ذكر الأكل مع المال.
ذلِكَ إشارة إلى العذاب. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من قتل الأنبياء و قولهم هذا و سائر معاصيهم. عبر بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالها بهن. وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف على ما قدمت و سببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن و معاقبة المسيء.
[سورة آلعمران (3): آية 183]
الَّذِينَ قالُوا هم كعب بن الأشرف و مالك و حيي و فنحاص و وهب بن يهوذا. إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أمرنا في التوراة و أوصانا. أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل و هو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله، أي تحيله إلى طبعها بالإحراق. و هذا من مفترياتهم و أباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو و سائر المعجزات شرع في ذلك. قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تكذيب و إلزام بأن رسلا جاءوهم قبله كزكريا و يحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق و بما اقترحوه فقتلوهم، فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به و كان توقفهم و امتناعهم عن الإيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر و اجترءوا على قتله.
[سورة آلعمران (3): آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من تكذيب قومه و اليهود، و الزبر جمع زبور و هو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حبسته، و الكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع و الأحكام و لذلك جاء الكتاب و الحكمة متعاطفين في عامة القرآن. و قيل الزبر المواعظ و الزواجر، من زبرته إذا زجرته. و قرأ ابن عامر وَ بِالزُّبُرِ و هشام و بالكتاب بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات.
[سورة آلعمران (3): آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وعد و وعيد للمصدق و المكذب. و قرئ «ذائقة الموت» بالنصب مع التنوين و عدمه كقوله: «و لا ذاكر اللّه إلّا قليلا» وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ تعطون جزاء أعمالكم خيرا كان أو شرا تاما وافيا. يَوْمَ الْقِيامَةِ يوم قيامكم من القبور، و لفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور و يؤيده
قوله عليه الصلاة و السلام : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»
. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ بعد
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 53
عنها، و الزحزحة في الأصل تكرير الزح و هو الجذب بعجلة. وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ بالنجاة و نيل المراد، و الفوز الظفر بالبغية. و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «من أحب أن يزحزح عن النار و يدخل الجنة فلتدركه منيته و هو يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و يأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه»
. وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي لذاتها و زخارفها. إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ شبهها بالمتاع الذي يدلس به على المستام و يغر حتى يشتريه، و هذا لمن آثرها على الآخرة. فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ و الغرور مصدر أو جمع غار.
[سورة آلعمران (3): آية 186]
لَتُبْلَوُنَ أي و اللّه لتختبرن. فِي أَمْوالِكُمْ بتكليف الإنفاق و ما يصيبها من الآفات. وَ أَنْفُسِكُمْ بالجهاد و القتل و الأسر و الجراح، و ما يرد عليها من المخاوف و الأمراض و المتاعب. وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً من هجاء الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و الطعن في الدين و إغراء الكفرة على المسلمين. أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر و الاحتمال، و يستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها. وَ إِنْ تَصْبِرُوا على ذلك. وَ تَتَّقُوا مخالفة أمر اللّه. فَإِنَّ ذلِكَ يعني الصبر و التقوى.
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم اللّه عليه أي أمر به و بالغ فيه.
و العزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه.
[سورة آلعمران (3): آية 187]
وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ أي اذكر وقت أخذه. مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يريد به العلماء. لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ حكاية لمخاطبتهم. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و عاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب، و اللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله: أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ و الضمير للكتاب. فَنَبَذُوهُ أي الميثاق. وَراءَ ظُهُورِهِمْ فلم يراعوه و لم يلتفتوا إليه. و النبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد و عدم الالتفات، و نقيضه جعله نصب عينيه و إلقاؤه بين عينيه. وَ اشْتَرَوْا بِهِ . و أخذوا بدله. ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا و أعراضها.
فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ يختارون لأنفسهم، و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «من كتم علمه عن أهله ألجم بلجام من نار»
. و
عن علي رضي اللّه تعالى عنه (ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا)
. [سورة آلعمران (3): آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و من ضم الباء جعل الخطاب له و للمؤمنين، و المفعول الأول الَّذِينَ يَفْرَحُونَ و الثاني بِمَفازَةٍ ، و قوله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد و المعنى: لا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس و كتمان الحق و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق و إظهار الحق و الإخبار بالصدق، بمفازة بمنجاة من العذاب أي فائزين بالنجاة منه، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالياء و فتح الباء في الأول و ضمها في الثاني على أن الذين فاعل و مفعولا يحسبن محذوفان يدل عليهما مفعولا مؤكدة، فكأنه قيل؛ و لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا يحسبن أنفسهم بمفازة، أو المفعول الأول محذوف و قوله فلا تحسبنهم تأكيد للفعل و فاعله و مفعوله الأول. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بكفرهم و تدليسهم.
روي أنه عليه الصلاة و السلام (سأل اليهود عن شيء مما في
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 54
التوراة فأخبروه بخلاف ما كان فيها و أروه أنهم قد صدقوه و فرحوا بما فعلوا) فنزلت
. و قيل: نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف و استحمدوا به. و قيل: نزلت في المنافقين فإنهم يفرحون بمنافقتهم و يستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة.
[سورة آلعمران (3): الآيات 189 الى 190]
وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو يملك أمرهم. وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على عقابهم.
و قيل هو رد لقولهم إن اللّه فقير إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ لدلائل واضحة على وجود الصانع و وحدته و كمال علمه و قدرته لذوي العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس و الوهم كما سبق في سورة البقرة، و لعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، و هذه معترضة لجملة أنواعه فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل و النهار، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها. و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «ويل لمن قرأها و لم يتفكر فيها»
. [سورة آلعمران (3): آية 191]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ أي يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين و قاعدين و مضطجعين، و
عنه عليه الصلاة و السلام «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر اللّه»
. و قيل معناه يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم
لقوله عليه الصلاة و السلام لعمران بن حصين : «صل قائما فطن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء»
. فهو حجة للشافعي رضي اللّه عنه في أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقاديم بدنه. وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ استدلالا و اعتبارا، و هو أفضل العبادات كما
قال عليه الصلاة و السلام «لا عبادة كالتفكر»
. لأنه المخصوص بالقلب و المقصود من الخلق، و
عنه عليه الصلاة و السلام : «بينما رجل مستلق على فراشة إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء و النجوم فقال: أشهد أن لك ربا و خالقا: اللهم اغفر لي فنظر اللّه إليه فغفر له»
. و هذا دليل واضح على شرف علم الأصول و فضل أهله. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على إرادة القول أي يتفكرون قائلين ذلك، و هذا إشارة إلى المتفكر فيه، أي الخلق على أنه أريد به المخلوق من السموات و الأرض، أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق، و المعنى ما خلقته عبثا ضائعا من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان و سببا لمعاشه و دليلا يدله على معرفتك و يحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية و السعادة السرمدية في جوارك. سُبْحانَكَ تنزيها لك من العبث و خلق الباطل و هو اعتراض. فَقِنا عَذابَ النَّارِ للإخلال بالنظر فيه، و القيام بما يقتضيه. و فائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السموات و الأرض حملهم على الاستعاذة.
[سورة آلعمران (3): آية 192]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ غاية الإخزاء، و هو نظير قولهم: من أدرك مرعى الضمان فقد أدرك، و المراد به تهويل المستعاذ منه تنبيها على شدة خوفهم و طلبهم الوقاية منه، و فيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع. وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أراد بهم المدخلين، و وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 55
أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار و انقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها، و لا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصر دفع بقهر.
[سورة آلعمران (3): آية 193]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أوقع الفعل على المسمع و حذف المسموع لدلالة وصفه عليه، و فيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع و في تنكير المنادي و إطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه، و المراد به الرسول عليه الصلاة و السلام و قيل القرآن، و النداء و الدعاء و نحوهما يعدى بإلى و اللام لتضمنها معنى الانتهاء و الاختصاص. أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي بأن آمنوا فامتثلنا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا كبائرنا فإنها ذات تبعة. وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا صغائرنا فإنها مستقبحة، و لكن مكفرة عن مجتنب الكبائر. وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ مخصوصين بصحبتهم معدودين في زمرتهم، و فيه تنبيه على أنهم محبون لقاء اللّه، و من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه. و الأبرار جمع بر أو بار كأرباب و أصحاب.
[سورة آلعمران (3): آية 194]
رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب. لما أظهر امتثاله لما أمر به سأل ما وعد عليه لا خوفا من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء عاقبة، أو قصور في الامتثال أو تعبدا و استكانة. و يجوز أن يعلق على بمحذوف تقديره: ما وعدتنا منزلا على رسلك، أو محمولا عليهم. و قيل معناه على ألسنة رسلك. وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن تعصمنا عما يقتضيه. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ بإثابة المؤمن و إجابة الداعي و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: الميعاد البعث بعد الموت.
و تكرير ربنا للمبالغة في الابتهال و الدلالة على استقلال المطالب و علو شأنها. و
في الآثار (من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه اللّه مما يخاف)
. [سورة آلعمران (3): آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إلى طلبتهم، و هو أخص من أجاب و يعدي بنفسه و باللام. أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أي بأني لا أضيع. و قرئ بالكسر على إرادة القول. مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان عامل. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ لأن الذكر من الأنثى و الأنثى من الذكر، أو لأنهما من أصل واحد، أو لفرط الاتصال و الاتحاد، أو للاجتماع و الاتفاق في الدين. و هي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال.
روي (أن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت: يا رسول اللّه إني أسمع اللّه يذكر الرجال في الهجرة و لا يذكر النساء)