کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 64
و العدد منهم في الربع و الثمن. وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ أي الميت. يُورَثُ أي يورث منه من ورث صفة رجل.
كَلالَةً خبر كان أو يورث خبره، و كلالة حال من الضمير فيه و هو من لم يخلف ولدا و لا والدا. أو مفعول له و المراد بها قرابة ليست من جهة الوالد و الولد. و يجوز أن يكون الرجل الوارث و يورث من أورث، و كلالة من ليس له بوالد و لا ولد. و قرئ يُورَثُ على البناء للفاعل فالرجل الميت و كلالة تحتمل المعاني الثلاثة و على الأول خبر أو حال، و على الثاني مفعول له، و على الثالث مفعول به، و هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال قال الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة
و لا من حفا حتى ألاقي محمّدا
فاستعيرت لقرابة ليست بالبعضية، لأنها كالة بالإضافة إليها، ثم وصف بها المورث و الوارث بمعنى ذي كلالة كقولك فلان من قرابتي. أَوِ امْرَأَةٌ عطف على رجل. وَ لَهُ أي و للرجل، و اكتفي بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه. أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أي من الأم، و يدل عليه قراءة أبي و سعد بن مالك «و له أخ أو أخت من الأم»، و أنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين و للأخوة الكل، و هو لا يليق بأولاد الأم و أن ما قدر هاهنا فرض الأم فيناسب أن يكون لأولادها. فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ سوى بين الذكر و الأنثى في القسمة لأن الإدلاء بمحض الأنوثة، و مفهوم الآية أنهم لا يرثون ذلك مع الأم و الجدة كما لا يرثون مع البنت و بنت الابن فخص فيه بالإجماع. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ أي غير مضار لورثته بالزيادة على الثلث، أو قصد المضارة بالوصية دون القربة و الإقرار بدين لا يلزمه، و هو حال من فاعل يوصى المذكور في هذه القراءة و المدلول عليه بقوله يوصى على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير و ابن عامر و ابن عياش عن عاصم. وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد أو منصوب بغير مضار على المفعول به، و يؤيده أنه قرئ «غير مضار وصية» بالإضافة أي لا يضار وصية من اللّه، و هو الثلث فما دونه بالزيادة، أو وصية منه بالأولاد بالإسراف في الوصية و الإقرار الكاذب. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمضار و غيره. حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبته.
[سورة النساء (4): الآيات 13 الى 14]
تِلْكَ إشارة إلى الأحكام التي قدمت في أمر اليتامى و الوصايا و المواريث. حُدُودُ اللَّهِ شرائعه التي هي كالحدود المحدودة التي لا يجوز مجاوزتها. وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .
وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ توحيد الضمير في يدخله، و جمع خالِدِينَ للفظ و المعنى. و قرأ نافع و ابن عامر ندخله بالنون و خالِدِينَ حال مقدرة كقولك:
مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، و كذلك خالدا و ليستا صفتين لجنات و نارا و إلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له.
[سورة النساء (4): آية 15]
وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ أي يفعلنها، يقال: أتى الفاحشة و جاءها و غشيها و رهقها إذا فعلها،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 65
و الفاحشة الزنا لزيادة قبحها و شناعتها. فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فاطلبوا ممن قذفهن أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهن. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فاحبسوهن في البيوت و اجعلوها سجنا عليهن.
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يستوفي أرواحهن الموت، أو يتوفاهن ملائكة الموت. قيل: كان ذلك عقوبتهن في أوائل الإسلام فنسخ بالحد، و يحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهن بعد أن يجلدن كيلا يجري عليهن ما جرى بسبب الخروج و التعرض للرجال، لم يذكر الحد استغناء بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا كتعيين الحد المخلص عن الحبس، أو النكاح المغني عن السفاح.
[سورة النساء (4): آية 16]
وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الزانية و الزاني. و قرأ ابن كثير وَ الَّذانِ بتشديد النون و تمكين مد الألف، و الباقون بالتخفيف من غير تمكين. فَآذُوهُما بالتوبيخ و التقريع، و قيل بالتعيير و الجلد. فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما فاقطعوا عنهما الإيذاء، أو أعرضوا عنهما بالإغماض و الستر. إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً علة الأمر بالإعراض و ترك المذمة. قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا و كان عقوبة الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد. و قيل الأولى في السحاقات و هذه في اللواطين، و الزانية و الزاني في الزناة.
[سورة النساء (4): آية 17]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي إن قبول التوبة كالمحتوم على اللّه بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته.
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ متلبسين بها سفها فإن ارتكاب الذنب سفه و تجاهل، و لذلك قيل من عصى اللّه فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من زمان قريب، أي قبل حضور الموت لقوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ و
قوله عليه الصلاة و السلام : «إن اللّه يقبل توبة عبده ما لم يغرغر»
و سماه قريبا لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ . أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبة فيطبع عليها فيتعذر عليهم الرجوع، و مِنْ للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب الذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت، أو يزين السوء. فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وعد بالوفاء بما وعد به و كتب على نفسه بقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة حَكِيماً و الحكيم لا يعاقب التائب.
[سورة النساء (4): آية 18]
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ سوى بين من سوف يتوب إلى حضور الموت من الفسقة و الكفار، و بين من مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، و كأنه قال و توبة هؤلاء و عدم توبة هؤلاء سواء. و قيل المراد بالذين يعملون السوء عصاة المؤمنين، و بالذين يعملون السيئات المنافقون لتضاعف كفرهم و سوء أعمالهم، و بالذين يموتون الكفار. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً تأكيد لعدم قبول توبتهم، و بيان أن العذاب أعده لهم لا يعجزه عذابهم متى شاء، و الاعتداد التهيئة من العتاد و هو العدة، و قيل أصله أعددنا فأبدلت الدال الأولى تاء.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 66
[سورة النساء (4): آية 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً كان الرجل إذا مات و له عصبة ألقى ثوبه على امرأته و قال: أنا أحق بها ثم إن شاء تزوجها بصداقها الأول، و إن شاء زوجها غيره و أخذ صداقها، و إن شاء عضلها لتفتدي بما ورثت من زوجها، فنهوا عن ذلك. و قيل: لا يحل لكم أن تأخذوهن على سبيل الإرث فتتزوجوهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه. و قرأ حمزة و الكسائي كرها بالضم في مواضعه و هما لغتان.
و قيل بالضم المشقة و بالفتح ما يكره عليه. وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ عطف على أَنْ تَرِثُوا ، و لا لتأكيد النفي أي و لا تمنعوهن من التزويج، و أصل العضل التضييق يقال عضلت الدجاجة ببيضها.
و قيل الخطاب مع الأزواج كانوا يحبسون النساء من غير حاجة و رغبة حتى يرثوا منهن أو يختلعن بمهورهن.
و قيل تم الكلام بقوله كرها ثم خاطب الأزواج و نهاهم عن العضل. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كالنشوز و سوء العشرة و عدم التعفف، و الاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له تقديره و لا تعضلوهن للافتداء إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو و لا تعضلوهن لعلة إلا أن يأتين بفاحشة. و قرأ ابن كثير و أبو بكر مُبَيِّنَةٍ هنا و في الأحزاب و الطلاق بفتح الياء و الباقون بكسرها فيهن. وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بالإنصاف في الفعل و الإجمال في القول. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً أي فلا تفارقوهن لكراهة النفس فإنها قد تكره ما هو أصلح دينا و أكثر خيرا، و قد تحب ما هو بخلافه. و ليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين و أدنى إلى الخير، و عسى في الأصل علة فأقيم مقامه. و المعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن فعسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم.
[سورة النساء (4): الآيات 20 الى 21]
وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ تطليق امرأة و تزوج أخرى. وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَ أي إحدى الزوجات، جمع الضمير لأنه أراد بالزوج الجنس. قِنْطاراً مالا كثيرا. فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي من قنطار. أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً استفهام إنكار و توبيخ، أي تأخذونه باهتين و آثمين، و يحتمل النصب على العلة كما في قولك: قعدت عن الحرب جبنا، لأن الأخذ بسبب بهتانهم و اقترافهم المآثم. قيل كان الرجل منهم إذا أراد امرأة جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة، فنهوا عن ذلك و البهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، و قد يستعمل في الفعل الباطل و لذلك فسر هاهنا بالظلم.
وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ إنكار لاسترداد المهر و الحال أنه وصل إليها بالملامسة و دخل بها و تقرر المهر. وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً عهدا وثيقا، و هو حق الصحبة و الممازحة، أو ما أوثق اللّه عليهم في شأنهن بقوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أو ما
أشار إليه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله :
«أخذتموهن بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهن بكلمة اللّه»
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 67
[سورة النساء (4): آية 22]
وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ و لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم، و إنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة، و قيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر. مِنَ النِّساءِ بيان ما نكح على الوجهين. إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء من المعنى اللازم للنهي و كأنه قيل: و تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، أو من اللفظ للمبالغة في التحريم و التعميم كقوله:
و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
و المعنى و لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوهن. و قيل الاستثناء منقطع و معناه لكن ما قد سلف، فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند اللّه ما رخص فيه لأمة من الأمم، ممقوتا عند ذوي المروءات و لذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي وَ ساءَ سَبِيلًا سبيل من يراه و يفعله.
[سورة النساء (4): آية 23]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن، و لأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ و لأن ما قبله و ما بعده في النكاح، و أمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك و إن علت، و بناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها و إن سفلت، و أخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة. و كذلك الباقيات و العمة كل أنثى ولدها من ولد ذكرا ولدك و الخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريبا أو بعيدا، و بنات الأخ و بنات الأخت تتناول القربى و البعدى. وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ نزّل اللّه الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما و المرضعة أختا، و أمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة و والد الطفل الذي در عليه اللبن
قال عليه الصلاة و السلام : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»
. و استثناء أخت ابن الرجل و أم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب. وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ذكر أولا محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة، لأن لها لحمة كلحمة النسب، ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج، و الربائب جمع ربيبة. و الربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر، فعيل بمعنى مفعول و إنما لحقه التاء لأنه صار اسما و من نسائكم متعلق بربائبكم، و اللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ و الحكم بالإجماع قضية للنظم، و لا يجوز تعليقها بالأمهات أيضا لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية، و إذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بيانا لنسائكم و الكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله:
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 68
إذا حاولت في أسد فجورا
فإنّي لست منك و لست مني
على معنى أن أمهات النساء و بناتهن متصلات بهن، لكن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فرق بينهما
فقال في رجل تزوج امرأة و طلقها قبل أن يدخل بها «إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها و لا يحل له أن يتزوج أمها»
. و إليه ذهب عامة العلماء، غير أنه روي عن علي رضي اللّه تعالى عنه تقييد التحريم فيهما. و لا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لأن عاملهما مختلف، و فائدة قوله فِي حُجُورِكُمْ تقوية العلة و تكميلها، و المعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن و هن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها و بين أولادكم و صارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة، و إليه ذهب جمهور العلماء. و
قد روي عن علي رضي اللّه تعالى عنه أنه جعله شرطا، و الأمهات و الربائب يتناولان القريبة و البعيدة،
و قوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر و هي كناية عن الجماع، و يؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة، أو ملك يمين. و عند أبي حنيفة لمس المنكوحة و نحوه كالدخول. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ تصريح بعد إشعار دفعا للقياس.
وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ زوجاتهم، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج. الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في موضع الرفع عطفا على المحرمات، و الظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي محرمة في ملك اليمين، و لذلك
قال عثمان و علي رضي اللّه تعالى عنهما: حرمتهما آية و أحلتهما آية، يعنيان هذه الآية
. و قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فرجح علي كرم اللّه وجهه التحريم، و عثمان رضي اللّه عنه التحليل.
و قول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غير ذلك و
لقوله عليه الصلاة و السلام «ما اجتمع الحلال و الحرام إلا غلب الحرام»
. إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء من لازم المعنى، أو منقطع معناه لكن ما قد سلف مغفور لقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً .
[سورة النساء (4): آية 24]
وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ذوات الأزواج، أحصنهن التزويج أو الأزواج. و قرأ الكسائي بكسر الصاد في جميع القرآن لأنهن أحصن فروجهن. إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد ما ملكت أيمانكم من اللاتي سبين و لهن أزواج كفار فهن حلال للسابين، و النكاح مرتفع بالسبي
لقول أبي سعيد رضي اللّه تعالى عنه: أصبنا سبايا يوم أوطاس و لهن أزواج كفار، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فنزلت الآية فاستحللناهن.
و إياه عنى الفرزدق بقوله:
و ذات حليل أنكحتها رماحنا
حلال لمن يبني بها لم تطلّق
و قال أبو حنيفة لو سبي الزوجان لم يرتفع النكاح و لم تحل للسابي. و إطلاق الآية و الحديث حجة عليه. كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكد، أي كتب اللّه عليكم تحريم هؤلاء كتابا. و قرئ «كتب» اللّه بالجمع و الرفع أي هذه فرائض اللّه عليكم «و كتب اللّه» بلفظ الفعل. وَ أُحِلَّ لَكُمْ عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب اللّه و قرأ حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفا على حُرِّمَتْ . ما وَراءَ ذلِكُمْ ما سوى المحرمات الثمان المذكورة. و خص عنه بالسنة ما في معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاع، و الجمع بين المرأة و عمتها و خالتها. أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ مفعول له و المعنى أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا النساء بأموالكم بالصرف في مهورهن، أو أثمانهن في حال كونكم محصنين غير مسافحين، و يجوز أن لا يقدر مفعول تبتغوا و كأنه قيل إرادة أن يصرفوا أموالكم محصنين غير
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 69
مسافحين أو بدل مما وراء ذلك بدل الاشتمال. و احتج به الحنفية على أن المهر لا بد و أن يكون مالا. و لا حجة فيه. و الإحصان العفة فإنها تحصين للنفس عن اللوم و العقاب، و السفاح الزنا من السفح و هو صب المني فإنه الغرض منه. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ فمن تمتعتم به من المنكوحات، أو فما استمعتم به منهن من جماع أو عقد عليهن. فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ مهورهن فإن المهر في مقابلة الاستمتاع. فَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا أو مصدر مؤكد. وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق. و قيل: نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت لما
روي أنه عليه الصلاة و السلام أباحها ثم أصبح يقول: «يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا إن اللّه حرم ذلك إلى يوم القيامة»
. و هي النكاح المؤقت بوقت معلوم سمي بها إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة، أو تمتيعها بما تعطي. و جوزها ابن عباس رضي اللّه عنهما ثم رجع عنه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح. حَكِيماً فيما شرع من الأحكام.
[سورة النساء (4): آية 25]
وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا غنى و اعتلاء و أصله الفضل و الزيادة. أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ في موضع النصب بطولا. أو بفعل مقدر صفة له أي و من لم يستطع منكم أن يعتلي نكاح المحصنات، أو من لم يستطع منكم غنى يبلغ به نكاح المحصنات يعني الحرائر لقوله: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ يعني الإماء المؤمنات، فظاهر الآية حجة للشافعي رضي اللّه تعالى عنه في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرة، و منع نكاح الأمة الكتابية مطلقا. و أول أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى طول المحصنات بأن يملك فراشهن، على أن النكاح هو الوطء و حمل قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ على الأفضل. كما حمل عليه في قوله: الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ و من أصحابنا من حمله أيضا على التقييد و جوز نكاح الأمة لمن قدر على الحرة الكتابية دون المؤمنة حذرا عن مخالطة الكفار و موالاتهم، و المحذور في نكاح الأمة رق الولد، و ما فيه من المهانة و نقصان حق الزوج. وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فاكتفوا بظاهر الإيمان فإنه العالم بالسرائر و يتفاضل ما بينكم في الإيمان، فرب أمة تفضل الحرة فيه، و من حقكم أن تعتبروا فضل الإيمان لا فضل النسب، و المراد تأنيسهم بنكاح الإماء و منعهم عن الاستنكاف منه و يؤيده. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أنتم و أرقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم و دينكم الإسلام. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ يريد أربابهن و اعتبار إذنهم مطلقا لا إشعار له، على أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهم حتى يحتج به الحنفية. وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن! فحذف ذلك لتقدم ذكره، أو إلى مواليهن فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد لأنه عوض حقه فيجب أن يؤدي إليه، و قال مالك رضي اللّه عنه: المهر للأمة ذهابا إلى الظاهر بِالْمَعْرُوفِ بغير مطل و إضرار و نقصان. مُحْصَناتٍ عفائف. غَيْرَ مُسافِحاتٍ غير مجاهرات بالسفاح. وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أخلاء في السر فَإِذا أُحْصِنَ بالتزويج. قرأ أبو بكر و حمزة بفتح الهمزة و الصاد و الباقون بضم الهمزة و كسر الصاد. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ زنى. فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ يعني الحرائر. مِنَ الْعَذابِ من الحد لقوله تعالى: وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و هو يدل على أن
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 70
حد العبد نصف حد الحر، و أنه لا يرجم لأن الرجم لا ينتصف. ذلِكَ أي نكاح الإماء. لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ لمن خاف الوقوع في الزنى، و هو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، مستعار لكل مشقة و ضرر و لا ضرر أعظم من مواقعه الإثم بأفحش القبائح. و قيل: المراد به الحد و هذا شرط آخر لنكاح الإماء.
وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي و صبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم.
قال عليه الصلاة و السلام «الحرائر صلاح البيت و الإماء هلاكه»
. وَ اللَّهُ غَفُورٌ لمن لم يصبر. رَحِيمٌ بأن رخص له.
[سورة النساء (4): آية 26]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما تعبدكم به من الحلال و الحرام، أو ما خفي عنكم من مصالحكم و محاسن أعمالكم، و ليبين مفعول يريد و اللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة كما في قول قيس بن سعد:
أردت لكيما يعلم النّاس أنّه
سراويل قيس و الوفود شهود
و قيل المفعول محذوف، و ليبين مفعول له أي يريد الحق لأجله. وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مناهج من تقدمكم من أهل الرشد لتسلكوا طرقهم. وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ و يغفر لكم ذنوبكم، أو يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي و يحثكم على التوبة، أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بها حَكِيمٌ في وضعها.
[سورة النساء (4): الآيات 27 الى 28]
وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرره للتأكيد و المبالغة. وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها، و أما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له في الحقيقة لا لها.
و قيل: المجوس. و قيل: اليهود فإنهم يحلون الأخوات من الأب و بنات الأخ و بنات الأخت. أَنْ تَمِيلُوا عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات و استحلال المحرمات. مَيْلًا عَظِيماً بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندور غير مستحل لها.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة، و رخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمة. وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً لا يصبر عن الشهوات و لا يتحمل مشاق الطاعات.
و عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس و غربت هذه الثلاث: و إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، و إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، و إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ و مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ، و ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ .
[سورة النساء (4): آية 29]