کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 81
[سورة النساء (4): الآيات 61 الى 62]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ و قرئ «تعالوا» بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا ثم ضم اللام لواو الضمير. رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً هو مصدر أو اسم للمصدر الذي هو الصد، و الفرق بينه و بين السد أنه غير محسوس و السد محسوس و يصدون في موضع الحال.
فَكَيْفَ يكون حالهم. إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ كقتل عمر المنافق أو النقمة من اللّه تعالى. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من التحاكم إلى غيرك و عدم الرضى بحكمك. ثُمَّ جاؤُكَ حين يصابون للاعتذار، عطف على أصابتهم. و قيل على يصدون و ما بينهما اعتراض. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ حال. إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً ما أردنا بذلك إلا الفصل بالوجه الأحسن و التوفيق بين الخصمين، و لم نرد مخالفتك. و قيل جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه و قالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا و يوفق بينه و بين خصمه.
[سورة النساء (4): آية 63]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق فلا يغني عنهم الكتمان و الحلف الكاذب من العقاب.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم أو عن قبول معذرتهم. وَ عِظْهُمْ بلسانك و كفهم عما هم عليه. وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي في معنى أنفسهم أو خاليا بهم فطن النصح في السر أنجع. قَوْلًا بَلِيغاً يبلغ منهم و يؤثر فيهم، أمره بالتجافي عن ذنوبهم و النصح لهم و المبالغة فيه بالترغيب و الترهيب، و ذلك مقتضى شفقة الأنبياء عليهم السلام، و تعليق الظرف ببليغا على معنى بليغا في أنفسهم مؤثرا فيها ضعيف لأن معمول الصفة لا يتقدم على الموصوف، و القول البليغ في الأصل هو الذي يطابق مدلوله المقصود به.
[سورة النساء (4): آية 64]
وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ بسبب إذنه في طاعته و أمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه، و كأنه احتج بذلك على أن الذي لم يرض بحكمه و إن أظهر الإسلام كان كافرا مستوجب القتل، و تقريره أن إرسال الرسول لما لم يكن إلا ليطاع كان من لم يطعه و لم يرض بحكمه لم يقبل رسالته و من كان كذلك كان كافرا مستوجب القتل. وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت. جاؤُكَ تائبين من ذلك و هو خبر أن و إذ متعلق به. فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ بالتوبة و الإخلاص. وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ و اعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعا، و إنما عدل الخطاب تفخيما لشأنه و تنبيها على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب و إن عظم جرمه و يشفع له، و من منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب. لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالرحمة، و إن فسر وجد بصادف كان توابا حالا و رحيما بدلا منه أو حالا من الضمير فيه.
[سورة النساء (4): آية 65]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 82
فَلا وَ رَبِّكَ أي فوربك، و لا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله: لا يُؤْمِنُونَ لأنها تزاد أيضا في الإثبات كقوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ . حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ فيما اختلف بينهم و اختلط و منه الشجر لتداخل أغصانه. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ضيقا مما حكمت به، أو من حكمك أو شكا من أجله، فإن الشاك في ضيق من أمره. وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً و ينقادوا لك انقيادا بظاهرهم و باطنهم.
[سورة النساء (4): آية 66]
وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ تعرضوا بها للقتل في الجهاد، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل و أن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا. أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل، و قرأ أبو عمرو و يعقوب أَنِ اقْتُلُوا بكسر النون على أصل التحريك، أَوِ اخْرُجُوا بضم الواو للاتباع و التشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى: وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ و قرأ حمزة و عاصم بكسرهما على الأصل و الباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل. ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ إلا أناس قليل و هم المخلصون. لما بين أن إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم، نبه على قصور أكثرهم و وهن إسلامهم، و الضمير للمكتوب و دل عليه كتبنا، أو لأحد مصدري الفعلين. و قرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا. وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من متابعة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم مطاوعته طوعا و رغبة. لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في عاجلهم و آجلهم. وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم و نفي الشك أو تثبيتا لثواب أعمالهم و نصبه على التمييز. و الآية أيضا مما نزلت في شأن المنافق و اليهودي. و قيل إنها و التي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيرا في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل،
فقال عليه الصلاة و السلام: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال حاطب: لأن كان ابن عمتك. فقال عليه الصلاة و السلام اسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر و استوف حقك، ثم أرسله إلى جارك».
[سورة النساء (4): الآيات 67 الى 68]
وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً جواب لسؤال مقدر كأنه قيل؛ و ما يكون لهم بعد التثبيت فقال و إذا لو تثبتوا لآتيناهم لأن إِذاً جواب و جزاء.
وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يصلون بسلوكه جناب القدس و يفتح عليهم أبواب الغيب،
قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم».
[سورة النساء (4): الآيات 69 الى 70]
وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مزيد ترغيب في الطاعة بالوعد عليها مرافقة أكرم الخلائق و أعظمهم قدرا. مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ بيان للذين أو حال منه، أو من ضميره قسمهم أربعة بحسب منازلهم في العلم و العمل، و حث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم، و هم:
الأنبياء الفائزون بكمال العلم و العمل المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل. ثم الصديقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج و الآيات و أخرى بمعارج التصفية و الرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطلعوا على الأشياء و أخبروا عنها على ما هي عليها. ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة و الجد
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 83
في إظهار الحق حتى بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة اللّه تعالى. ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته و أموالهم في مرضاته. و لك أن تقول المنعم عليهم هم العارفون باللّه و هؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان أو واقفين في مقام الاستدلال و البرهان. و الأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبا و هم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أو لا فيكونون كمن يرى الشيء بعيدا و هم الصديقون، و الآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة و هم العلماء الراسخون في العلم الذين هم شهداء اللّه في أرضه، و إما أن يكون بأمارات و إقناعات تطمئن إليها نفوسهم و هم الصالحون. وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً في معنى التعجب، و رَفِيقاً نصب على التمييز أو الحال و لم يجمع لأنه يقال للواحد و الجمع كالصديق، أو لأنه أريد و حسن كل واحد منهم رفيقا.
روي أن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أتاه يوما و قد تغير وجهه و نحل جسمه، فسأله عن حاله فقال: ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك و استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني عرفت أنك ترتفع مع النبيين و إن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، و إن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا) فنزلت.
ذلِكَ مبتدأ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر و مزيد الهداية و مرافقة المنعم عليهم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم و مزيتهم. الْفَضْلُ صفته. مِنَ اللَّهِ خبره أو الفضل خبره و من اللّه حال و العامل فيه معنى الإشارة. وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بجزاء من أطاعه، أو بمقادير الفضل و استحقاق أهله.
[سورة النساء (4): الآيات 71 الى 72]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ تيقظوا و استعدوا للأعداء، و الحذر و الحذر كالأثر و الأثر. و قيل ما يحذر به كالحزم و السلاح. فَانْفِرُوا فاخرجوا إلى الجهاد. ثُباتٍ جماعات متفرقة، جمع ثبة من ثبيت على فلان تثبية إذا ذكرت متفرق محاسنه و يجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه. أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين كوكبة واحدة، و الآية و إن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات.
وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ الخطاب لعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المؤمنين منهم و المنافقين و المبطئون منافقوهم تثاقلوا و تخلفوا عن الجهاد، من بطأ بمعنى أبطأ و هو لازم أو ثبطوا غيرهم كما ثبط ابن أبي ناسا يوم أحد، من بطأ منقولا من بطؤ كثقل من ثقل و اللام الأولى للابتداء دخلت اسم إن للفصل بالخبر، و الثانية جواب قسم محذوف و القسم بجوابه صلة من و الراجع إليه ما استكن في ليبطئن و التقدير: و إن منكم لمن أقسم باللّه ليبطئن. فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ كقتل و هزيمة. قالَ أي المبطئ. قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا فيصيبني ما أصابهم.
[سورة النساء (4): آية 73]
وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كفتح و غنيمة. لَيَقُولَنَ أكده تنبيها على فرط تحسره، و قرئ بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى مِنَ . كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين الفعل و مفعوله و هو. يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً للتنبيه على ضعف عقيدتهم، و أن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم و بينه، و إنما يريد أن يكون معكم لمجرد المال، أو حال من الضمير في ليقولن أو داخل في المقول أي يقول المبطئ لمن يبطئه من المنافقين، و ضعفة المسلمين تضريبا و حسدا، كأن لم يكن بينكم و بين محمد صلّى اللّه عليه و سلّم مودة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 84
حيث لم يستعن بكم فتفوزوا بما فاز يا ليتني كنت معهم. و قيل: إنه متصل بالجملة الأولى و هو ضعيف، إذ لا يفصل أبعاض الجملة بما لا يتعلق بها لفظا و معنى و كأن مخففة من الثقيلة و اسمها ضمير الشأن و هو محذوف. و قرأ ابن كثير و حفص عن عاصم و رويس عن يعقوب تكن بالتاء لتأنيث لفظ المودة، و المنادى في يا ليتني محذوف أي: يا قوم و قيل يا أطلق للتنبيه على الاتساع فأفوز نصب على جواب التمني و قرئ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على كنت.
[سورة النساء (4): آية 74]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي الذين يبيعونها بها، و المعنى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة، أو الذين يشترونها و يختارونها على الآخرة و هم المبطئون، و المعنى حثهم على ترك ما حكي عنهم. وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب، ترغيبا في القتال و تكذيبا لقولهم قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً و إنما قال فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ تنبيها على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين، بالظفر و الغلبة و أن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحق و إعزاز الدين.
[سورة النساء (4): آية 75]
وَ ما لَكُمْ مبتدأ و خبر. لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حال و العامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل.
وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على اسم اللّه تعالى أي و في سبيل المستضعفين، و هو تخليصهم من الأسر و صونهم عن العدو، أو على سبيل بحذف المضاف أي و في خلاص المستضعفين، و يجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل اللّه تعالى يعم أبواب الخير، و تخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفار أعظمها و أخصها. مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ بيان للمستضعفين و هم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين، أو ضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتحنين، و إنما ذكر الولدان مبالغة في الحث و تنبيها على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، و أن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة و استدفاع البلية.
و قيل المراد به العبيد و الإماء و هو جمع وليد. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً فاستجاب اللّه دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة و جعل لمن بقي منهم خير ولي و ناصر بفتح مكة على نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم، فتولاهم و نصرهم ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم و نصرهم حتى صاروا أعز أهلها، و القرية مكة و الظالم صفتها، و تذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر و يؤنث على حسب ما عمل فيه.
[سورة النساء (4): آية 76]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيما يصلون به إلى اللّه سبحانه و تعالى. وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فيما يبلغ بهم إلى الشيطان. فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ لما ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه أن يقاتلوا أولياء الشيطان ثم شجعهم بقوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي إن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 85
كيد اللّه سبحانه و تعالى للكافرين، ضعيف لا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه، فإن اعتمادهم على أضعف شيء و أوهنه.
[سورة النساء (4): آية 77]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أي عن القتال. وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و اشتغلوا بما أمرتم به. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ يخشون الكفار أن يقتلوهم كما يخشون اللّه أن ينزل عليهم بأسه، و إذا للمفاجأة جواب لما و فريق مبتدأ منهم صفته و يخشون خبره و كخشية اللّه من إضافة المصدر إلى المفعول، وقع موقع المصدر أو الحال من فاعل يخشون على معنى، يخشون الناس مثل أهل خشية اللّه منه. أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً عطف عليه إن جعلته حالا و إن جعلته مصدرا فلا، لأن أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل هو معطوف على اسم اللّه تعالى أي: و كخشية اللّه تعالى أو كخشية أشد خشية منه، على الفرض اللهم إلا أن تجعل الخشية ذات خشية كقولهم: جد جده على معنى يخشون الناس خشية مثل خشية اللّه تعالى، أو خشية أشد خشية من خشية اللّه. وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ استزادة في مدة الكف عن القتال حذرا عن الموت، و يحتمل أنهم ما تفوهوا به و لكن قالوا في أنفسهم فحكى اللّه تعالى عنهم. قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ سريع التقضي وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي و لا تنقصون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه، أو من آجالكم المقدرة.
و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي و لا يظلمون لتقدم الغيبة.
[سورة النساء (4): آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله:
من يفعل الحسنات اللّه يشكرها أو على أنه كلام مبتدأ، و أينما متصل ب لا تُظْلَمُونَ . وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ في قصور أو حصون مرتفعة، و البروج في الأصل بيوت على أطراف القصور، من تبرجت المرأة إذا ظهرت. و قرئ مشيدة بكسر الياء وصفا لها بوصف فاعلها كقولهم: قصيدة شاعرة، و مشيدة من شاد القصر إذا رفعه. وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ كما تقع الحسنة و السيئة على الطاعة و المعصية يقعان على النعمة و البلية، و هما المراد في الآية أي: و إن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى اللّه سبحانه و تعالى، و إن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك و قالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود: منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها و غلت أسعارها. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي يبسط و يقبض حسب إرادته. فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يوعظون به، و هو القرآن فإنهم لو فهموه و تدبروا معانيه لعلموا أن الكل من عند اللّه سبحانه و تعالى، أو حديثا ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثا من صروف الزمان فيفتكرون فيه فيعملون أن القابض و الباسط هو اللّه سبحانه و تعالى.
[سورة النساء (4): آية 79]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 86
ما أَصابَكَ يا إنسان. مِنْ حَسَنَةٍ من نعمة. فَمِنَ اللَّهِ أي تفضلا منه، فإن كل ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود، فكيف يقتضي غيره، و لذلك
قال عليه الصلاة و السلام: «ما يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللّه تعالى. قيل و لا أنت قال: و لا أنا».
وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ من بلية. فَمِنْ نَفْسِكَ لأنها السبب فيها لاستجلابها بالمعاصي، و هو لا ينافي قوله سبحانه و تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإن الكل منه إيجادا و إيصالا غير أن الحسنة إحسان و امتنان و السيئة مجازاة و انتقام كما قالت عائشة رضي اللّه تعالى عنها «ما من مسلم يصيبه وصب و لا نصب حتى الشوكة يشاكها و حتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب و ما يعفو اللّه أكثر». و الآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا و للمعتزلة. وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا حال قصد بها التأكيد إن علق الجار بالفعل و التعميم إن علق بها أي رسولا للناس جميعا كقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ و يجوز نصبه على المصدر كقوله: و لا خارجا من فيّ زور كلام. وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على رسالتك بنصب المعجزات.
[سورة النساء (4): الآيات 80 الى 81]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه عليه الصلاة و السلام في الحقيقة مبلغ، و الأمر هو اللّه سبحانه و تعالى.
روي (أنه عليه الصلاة و السلام قال: «من أحبني فقد أحب اللّه و من أطاعني فقد أطاع اللّه». فقال:
المنافقون لقد قارف الشرك و هو ينهى عنه، ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا) فنزلت.
وَ مَنْ تَوَلَّى عن طاعته. فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظ عليهم أعمالهم و تحاسبهم عليها، إنما عليك البلاغ و علينا الحساب و هو حال من الكاف.
وَ يَقُولُونَ إذا أمرتهم بأمر. طاعَةٌ أي أمرنا أو منا طاعة، و أصلها النصب على المصدر و رفعها للدلالة على الثبات. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ خرجوا. بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي زورت خلاف ما قلت لها، أو ما قالت لك من القبول و ضمان الطاعة، و التبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل، أو من بيت الشعر، أو البيت المبني لأنه يسوي و يدبر. و قرأ أبو عمرو و حمزة بَيَّتَ طائِفَةٌ بالإدغام لقربهما في المخرج. وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يثبته في صحائفهم للمجازاة، أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم. وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في الأمور كلها سيما في شأنهم. وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكفيك مضرتهم و ينتقم لك منهم.
[سورة النساء (4): آية 82]
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتأملون في معانيه و يتبصرون ما فيه، و أصل التدبر النظر في أدبار الشيء. وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أي و لو كان من كلام البشر كما تزعم الكفار. لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً من تناقض المعنى و تفاوت النظم، و كان بعضه فصيحا و بعضه ركيكا، و بعضه يصعب معارضته و بعضه يسهل، و مطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض، و موافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض، على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية. و لعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم و المصالح.
[سورة النساء (4): آية 83]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 87
وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ مما يوجب الأمن أو الخوف. أَذاعُوا بِهِ أفشوه كما كان يفعله قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أو أخبرهم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بما أوحي إليه من وعد بالظفر، أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم حزمهم فكانت إذاعتهم مفسدة. و الباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدث. وَ لَوْ رَدُّوهُ أي و لو ردوا ذلك الخبر. إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ إلى رأيه و رأي كبار أصحابه البصراء بالأمور، أو الأمراء. لَعَلِمَهُ لعلم ما أخبروا به على أي وجه يذكر. الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يستخرجون تدابيره بتجاربهم و أنظارهم. و قيل كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فتعود وبالا على المسلمين، و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم و تعرفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول و أولي الأمر أي: يستخرجون علمه من جهتهم، و أصل الاستنباط إخراج النبط: و هو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر. وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بإرسال الرسول و إنزال الكتاب. لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ و الكفر و الضلال. إِلَّا قَلِيلًا أي إلا قليلا منكم تفضل اللّه عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق و الصواب، و عصمه عن متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل، و ورقة بن نوفل. أو إلا اتباعا قليلا على الندور.
[سورة النساء (4): آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أن تثبطوا و تركوك وحدك. لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم و تقاعدهم، فتقدم إلى الجهاد و إن لم يساعدك أحد فإن اللّه ناصرك لا الجنود.
روي (أنه عليه الصلاة و السلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت. فخرج عليه الصلاة و السلام و ما معه إلا سبعون لم يلو على أحد).
و قرئ «لا تكلف» بالجزم، و «لا نكلف» بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك، لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك لقوله: وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني قريشا، و قد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا. وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش. وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا منهم، و هو تقريع و تهديد لمن لم يتبعه.
[سورة النساء (4): آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً راعى بها حق مسلم و دفع بها عنه ضرا أو جلب إليه نفعا ابتغاء لوجه اللّه تعالى، و منها الدعاء لمسلم
قال عليه الصلاة و السلام: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له و قال له الملك و لك مثل ذلك».
يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها و هو ثواب الشفاعة و التسبب إلى الخير الواقع بها. وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يريد بها محرما. يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها نصيب من وزرها مساو لها في القدر. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً مقتدرا من أقات على الشيء إذا قدر قال:
و ذي ضغن كففت الضغن عنه
و كنت على مساءته مقيتا
أو شهيدا حافظا، و اشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن و يحفظه.
[سورة النساء (4): آية 86]