کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 84
حيث لم يستعن بكم فتفوزوا بما فاز يا ليتني كنت معهم. و قيل: إنه متصل بالجملة الأولى و هو ضعيف، إذ لا يفصل أبعاض الجملة بما لا يتعلق بها لفظا و معنى و كأن مخففة من الثقيلة و اسمها ضمير الشأن و هو محذوف. و قرأ ابن كثير و حفص عن عاصم و رويس عن يعقوب تكن بالتاء لتأنيث لفظ المودة، و المنادى في يا ليتني محذوف أي: يا قوم و قيل يا أطلق للتنبيه على الاتساع فأفوز نصب على جواب التمني و قرئ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على كنت.
[سورة النساء (4): آية 74]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي الذين يبيعونها بها، و المعنى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة، أو الذين يشترونها و يختارونها على الآخرة و هم المبطئون، و المعنى حثهم على ترك ما حكي عنهم. وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب، ترغيبا في القتال و تكذيبا لقولهم قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً و إنما قال فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ تنبيها على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين، بالظفر و الغلبة و أن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحق و إعزاز الدين.
[سورة النساء (4): آية 75]
وَ ما لَكُمْ مبتدأ و خبر. لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حال و العامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل.
وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على اسم اللّه تعالى أي و في سبيل المستضعفين، و هو تخليصهم من الأسر و صونهم عن العدو، أو على سبيل بحذف المضاف أي و في خلاص المستضعفين، و يجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل اللّه تعالى يعم أبواب الخير، و تخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفار أعظمها و أخصها. مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ بيان للمستضعفين و هم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين، أو ضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتحنين، و إنما ذكر الولدان مبالغة في الحث و تنبيها على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، و أن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة و استدفاع البلية.
و قيل المراد به العبيد و الإماء و هو جمع وليد. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً فاستجاب اللّه دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة و جعل لمن بقي منهم خير ولي و ناصر بفتح مكة على نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم، فتولاهم و نصرهم ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم و نصرهم حتى صاروا أعز أهلها، و القرية مكة و الظالم صفتها، و تذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر و يؤنث على حسب ما عمل فيه.
[سورة النساء (4): آية 76]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيما يصلون به إلى اللّه سبحانه و تعالى. وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فيما يبلغ بهم إلى الشيطان. فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ لما ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه أن يقاتلوا أولياء الشيطان ثم شجعهم بقوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي إن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 85
كيد اللّه سبحانه و تعالى للكافرين، ضعيف لا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه، فإن اعتمادهم على أضعف شيء و أوهنه.
[سورة النساء (4): آية 77]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أي عن القتال. وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و اشتغلوا بما أمرتم به. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ يخشون الكفار أن يقتلوهم كما يخشون اللّه أن ينزل عليهم بأسه، و إذا للمفاجأة جواب لما و فريق مبتدأ منهم صفته و يخشون خبره و كخشية اللّه من إضافة المصدر إلى المفعول، وقع موقع المصدر أو الحال من فاعل يخشون على معنى، يخشون الناس مثل أهل خشية اللّه منه. أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً عطف عليه إن جعلته حالا و إن جعلته مصدرا فلا، لأن أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل هو معطوف على اسم اللّه تعالى أي: و كخشية اللّه تعالى أو كخشية أشد خشية منه، على الفرض اللهم إلا أن تجعل الخشية ذات خشية كقولهم: جد جده على معنى يخشون الناس خشية مثل خشية اللّه تعالى، أو خشية أشد خشية من خشية اللّه. وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ استزادة في مدة الكف عن القتال حذرا عن الموت، و يحتمل أنهم ما تفوهوا به و لكن قالوا في أنفسهم فحكى اللّه تعالى عنهم. قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ سريع التقضي وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي و لا تنقصون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه، أو من آجالكم المقدرة.
و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي و لا يظلمون لتقدم الغيبة.
[سورة النساء (4): آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله:
من يفعل الحسنات اللّه يشكرها أو على أنه كلام مبتدأ، و أينما متصل ب لا تُظْلَمُونَ . وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ في قصور أو حصون مرتفعة، و البروج في الأصل بيوت على أطراف القصور، من تبرجت المرأة إذا ظهرت. و قرئ مشيدة بكسر الياء وصفا لها بوصف فاعلها كقولهم: قصيدة شاعرة، و مشيدة من شاد القصر إذا رفعه. وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ كما تقع الحسنة و السيئة على الطاعة و المعصية يقعان على النعمة و البلية، و هما المراد في الآية أي: و إن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى اللّه سبحانه و تعالى، و إن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك و قالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود: منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها و غلت أسعارها. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي يبسط و يقبض حسب إرادته. فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يوعظون به، و هو القرآن فإنهم لو فهموه و تدبروا معانيه لعلموا أن الكل من عند اللّه سبحانه و تعالى، أو حديثا ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثا من صروف الزمان فيفتكرون فيه فيعملون أن القابض و الباسط هو اللّه سبحانه و تعالى.
[سورة النساء (4): آية 79]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 86
ما أَصابَكَ يا إنسان. مِنْ حَسَنَةٍ من نعمة. فَمِنَ اللَّهِ أي تفضلا منه، فإن كل ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود، فكيف يقتضي غيره، و لذلك
قال عليه الصلاة و السلام: «ما يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللّه تعالى. قيل و لا أنت قال: و لا أنا».
وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ من بلية. فَمِنْ نَفْسِكَ لأنها السبب فيها لاستجلابها بالمعاصي، و هو لا ينافي قوله سبحانه و تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإن الكل منه إيجادا و إيصالا غير أن الحسنة إحسان و امتنان و السيئة مجازاة و انتقام كما قالت عائشة رضي اللّه تعالى عنها «ما من مسلم يصيبه وصب و لا نصب حتى الشوكة يشاكها و حتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب و ما يعفو اللّه أكثر». و الآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا و للمعتزلة. وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا حال قصد بها التأكيد إن علق الجار بالفعل و التعميم إن علق بها أي رسولا للناس جميعا كقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ و يجوز نصبه على المصدر كقوله: و لا خارجا من فيّ زور كلام. وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على رسالتك بنصب المعجزات.
[سورة النساء (4): الآيات 80 الى 81]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه عليه الصلاة و السلام في الحقيقة مبلغ، و الأمر هو اللّه سبحانه و تعالى.
روي (أنه عليه الصلاة و السلام قال: «من أحبني فقد أحب اللّه و من أطاعني فقد أطاع اللّه». فقال:
المنافقون لقد قارف الشرك و هو ينهى عنه، ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا) فنزلت.
وَ مَنْ تَوَلَّى عن طاعته. فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظ عليهم أعمالهم و تحاسبهم عليها، إنما عليك البلاغ و علينا الحساب و هو حال من الكاف.
وَ يَقُولُونَ إذا أمرتهم بأمر. طاعَةٌ أي أمرنا أو منا طاعة، و أصلها النصب على المصدر و رفعها للدلالة على الثبات. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ خرجوا. بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي زورت خلاف ما قلت لها، أو ما قالت لك من القبول و ضمان الطاعة، و التبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل، أو من بيت الشعر، أو البيت المبني لأنه يسوي و يدبر. و قرأ أبو عمرو و حمزة بَيَّتَ طائِفَةٌ بالإدغام لقربهما في المخرج. وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يثبته في صحائفهم للمجازاة، أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم. وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في الأمور كلها سيما في شأنهم. وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكفيك مضرتهم و ينتقم لك منهم.
[سورة النساء (4): آية 82]
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتأملون في معانيه و يتبصرون ما فيه، و أصل التدبر النظر في أدبار الشيء. وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أي و لو كان من كلام البشر كما تزعم الكفار. لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً من تناقض المعنى و تفاوت النظم، و كان بعضه فصيحا و بعضه ركيكا، و بعضه يصعب معارضته و بعضه يسهل، و مطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض، و موافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض، على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية. و لعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم و المصالح.
[سورة النساء (4): آية 83]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 87
وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ مما يوجب الأمن أو الخوف. أَذاعُوا بِهِ أفشوه كما كان يفعله قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أو أخبرهم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بما أوحي إليه من وعد بالظفر، أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم حزمهم فكانت إذاعتهم مفسدة. و الباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدث. وَ لَوْ رَدُّوهُ أي و لو ردوا ذلك الخبر. إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ إلى رأيه و رأي كبار أصحابه البصراء بالأمور، أو الأمراء. لَعَلِمَهُ لعلم ما أخبروا به على أي وجه يذكر. الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يستخرجون تدابيره بتجاربهم و أنظارهم. و قيل كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فتعود وبالا على المسلمين، و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم و تعرفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول و أولي الأمر أي: يستخرجون علمه من جهتهم، و أصل الاستنباط إخراج النبط: و هو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر. وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بإرسال الرسول و إنزال الكتاب. لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ و الكفر و الضلال. إِلَّا قَلِيلًا أي إلا قليلا منكم تفضل اللّه عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق و الصواب، و عصمه عن متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل، و ورقة بن نوفل. أو إلا اتباعا قليلا على الندور.
[سورة النساء (4): آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أن تثبطوا و تركوك وحدك. لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم و تقاعدهم، فتقدم إلى الجهاد و إن لم يساعدك أحد فإن اللّه ناصرك لا الجنود.
روي (أنه عليه الصلاة و السلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت. فخرج عليه الصلاة و السلام و ما معه إلا سبعون لم يلو على أحد).
و قرئ «لا تكلف» بالجزم، و «لا نكلف» بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك، لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك لقوله: وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني قريشا، و قد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا. وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش. وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا منهم، و هو تقريع و تهديد لمن لم يتبعه.
[سورة النساء (4): آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً راعى بها حق مسلم و دفع بها عنه ضرا أو جلب إليه نفعا ابتغاء لوجه اللّه تعالى، و منها الدعاء لمسلم
قال عليه الصلاة و السلام: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له و قال له الملك و لك مثل ذلك».
يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها و هو ثواب الشفاعة و التسبب إلى الخير الواقع بها. وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يريد بها محرما. يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها نصيب من وزرها مساو لها في القدر. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً مقتدرا من أقات على الشيء إذا قدر قال:
و ذي ضغن كففت الضغن عنه
و كنت على مساءته مقيتا
أو شهيدا حافظا، و اشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن و يحفظه.
[سورة النساء (4): آية 86]
وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها الجمهور على أنه في السلام، و يدل على وجوب الجواب إما بأحسن منه و هو أن يزيد عليه و رحمة اللّه، فإن قاله المسلم زاد و بركاته و هي النهاية و إما برد مثله
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 88
لما
روي (أن رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: السلام عليك. فقال: و عليك السلام و رحمة اللّه. و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه فقال: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته. و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته.
فقال: و عليك. فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال اللّه تعالى و تلا الآية. فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله.
و ذلك لاستجماعه أقسام المطالب السلامة عن المضار و حصول المنافع و ثباتها و منه قيل، أو للترديد بين أن يحيى المسلم ببعض التحية و بين أن يحيى بتمامها، و هذا الوجوب على الكفاية و حيث السلام مشروع فلا يرد في الخطبة، و قراءة القرآن، و في الحمام، و عند قضاء الحاجة و نحوها. و التحية في الأصل مصدر حياك اللّه على الإخبار من الحياة، ثم استعمل للحكم و الدعاء بذلك، ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام. و قيل المراد بالتحية العطية و واجب الثواب أو الرد على المتهب، و هو قول قديم للشافعي رضي اللّه تعالى عنه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً يحاسبكم على التحية و غيرها.
[سورة النساء (4): آية 87]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ و خبر، أو اللَّهُ مبتدأ و الخبر لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي اللّه، و اللّه ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة، أو مفضين إليه أو في يوم القيامة، و لا إله إلّا هو، اعتراض. و القيام و القيامة كالطلاب و الطلابة و هي قيام الناس من القبور أو للحساب. لا رَيْبَ فِيهِ في اليوم أو في الجمع فهو حال من اليوم، أو صفة للمصدر وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إنكار أن يكون أحد أكثر صدقا منه، فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجه لأنه نقص و هو على اللّه محال.
[سورة النساء (4): آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين. فِئَتَيْنِ أي فرقتين و لم تتفقوا على كفرهم، و ذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم. و قيل نزلت في المتخلفين يوم أحد، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة و الاشتياق إلى الوطن، أو قوم أظهروا الإسلام و قعدوا عن الهجرة. و فِئَتَيْنِ حال عاملها لكم كقولك: ما لك قائما. و فِي الْمُنافِقِينَ حال من فِئَتَيْنِ أي متفرقتين فيهم، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم، و معنى الافتراق مستفاد من فِئَتَيْنِ . وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ردهم إلى حكم الكفرة، أو نكسهم بأن صيرهم للنار. و أصل الركس رد الشيء مقلوبا. أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أن تجعلوه من المهتدين. وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الهدى.
[سورة النساء (4): آية 89]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا تمنوا أن تكفروا ككفرهم. فَتَكُونُونَ سَواءً فتكونون معهم سواء في الضلال، و هو عطف على تكفرون و لو نصب على جواب التمني لجاز. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا توالوهم حتى يؤمنوا و تتحققوا إيمانهم بهجرة هي للّه و رسوله لا لأغراض الدنيا، و سبيل اللّه ما أمر بسلوكه. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان الظاهر بالهجرة أو عن إظهار الإيمان. فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 89
وَجَدْتُمُوهُمْ كسائر الكفرة. وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً أي جانبوهم رأسا و لا تقبلوا منهم ولاية و لا نصرة.
[سورة النساء (4): آية 90]
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ استثناء من قوله فخذوهم و اقتلوهم أي: إلا الذين يتصلون و ينتهون إلى قوم عاهدوكم، و يفارقون محاربتكم. و القوم هم خزاعة. و قيل: هم الأسلميون فإنه عليه الصلاة و السلام و ادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه و لا يعين عليه، و من لجأ إليه فله من الجوار مثل ماله. و قيل بنو بكر بن زيد مناة. أَوْ جاؤُكُمْ عطف على الصلة، أي أو الذين جاءوكم كافين عن قتالكم و قتال قومهم، استثنى من المأمور بأخذهم و قتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين، أو أتى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و كف عن قتال الفريقين، أو على صفة قوم و كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم كافين عن القتال لكم و عليكم. و الأول أظهر لقوله فإن اعتزلوكم. و قرئ بغير العاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار قد و يدل عليه أنه قرئ «حصرة صدورهم» و حصرات صدورهم، أو بيان لجاءوكم و قيل صفة محذوف أي جاءوكم قوما حصرت صدورهم، و هم بنو مدلج جاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم غير مقاتلين و الحصر الضيق و الانقباض. أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي عن أن أو لأن أو كراهة أن يقاتلوكم. وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بأن قوى قلوبهم و بسط صدورهم و أزال الرعب عنهم. فَلَقاتَلُوكُمْ و لم يكفوا عنكم. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ فإن لم يتعرضوا لكم. وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ الاستسلام و الانقياد. فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم و قتلهم.
[سورة النساء (4): آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هم أسد و غطفان، و قيل بنو عبد الدار أتوا المدينة و أظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا. كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ دعوا إلى الكفر و إلى قتال المسلمين. أُرْكِسُوا فِيها عادوا إليها و قلبوا فيها أقبح قلب. فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ و ينبذوا إليكم العهد. وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم. فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض. وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل و السبي لظهور عداوتهم و وضوح كفرهم و غدرهم، أو تسلطا ظاهرا حيث أذنّا لكم في قتلهم.
[سورة النساء (4): آية 92]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 90
وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ و ما صح له و ليس من شأنه. أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً بغير حق. إِلَّا خَطَأً فإنه على عرضته، و نصبه على الحال أو المفعول له أي: لا يقتله في شيء من الأحوال إلا حال الخطأ، أو لا يقتله لعلة إلا للخطأ أو على أنه صفة مصدر محذوف أي إلّا قتلا خطأ. و قيل ما كانَ نفي في معنى النهي، و الاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، و الخطأ ما لا يضامه القصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه، أو يكون فعل غير المكلف. و قرئ «خطاء» بالمد و «خطا» كعصا بتخفيف الهمزة، و الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأم، لقي حارث بن زيد في طريق و كان قد أسلم و لم يشعر به عياش فقتله.
وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليه أو فواجبه تحرير رقبة، و التحرير الإعتاق، و الحر كالعتيق للكريم من الشيء و منه حر الوجه لأكرم موضع منه، سمي به لأن الكرم في الأحرار و اللؤم في العبيد، و الرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس. مُؤْمِنَةٍ محكوم بإسلامها و إن كانت صغيرة. وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث،
لقول ضحاك بن سفيان الكلابي: (كتب إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها).
و هي على العاقلة فإن لم تكن فعلى بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله. إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا إلا أن يتصدقوا عليه بالدية. سمي العفو عنها صدقة حثا عليه و تنبيها على فضله، و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «كل معروف صدقة»
و هو متعلق بعليه، أو بمسلمة أي تجب الدية عليه أو يسلمها إلى أهله إلا حال تصدقهم عليه. أو زمانه فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف. فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فإن كان المؤمن المقتول من قوم كفار محاربين، أو في تضاعيفهم و لم يعلم إيمانه فعلى قاتله الكفارة دون الدية لأهله إذ لا وراثة بينه و بينهم و لأنهم محاربون. وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي و إن كان من قوم كفرة معاهدين، أو أهل الذمة فحكمه حكم المسلمين في وجوب الكفارة و الدية و لعله فيما إذا كان المقتول معاهدا، أو كان له وارث مسلم. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة بأن لم يملكها و لا ما يتوصل به إليها.
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فعليه أو فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين. تَوْبَةً نصب على المفعول له أي شرع ذلك توبة، من تاب اللّه عليه إذا قبل توبته. أو على المصدر أي و تاب اللّه عليكم توبة أو الحال بحذف مضاف إي فعليه صيام شهرين ذا توبة. مِنَ اللَّهِ صفتها. وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً* بحاله. حَكِيماً فيما أمر في شأنه.
[سورة النساء (4): آية 93]
وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً لما فيه من التهديد العظيم. قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. «لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا». و لعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه. و الجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ و نحوه و هو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة و غيره، و يؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار و لم يظهر قاتله، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله و رجع إلى مكة مرتدا، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم.
[سورة النساء (4): آية 94]