کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 87
وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ مما يوجب الأمن أو الخوف. أَذاعُوا بِهِ أفشوه كما كان يفعله قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أو أخبرهم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بما أوحي إليه من وعد بالظفر، أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم حزمهم فكانت إذاعتهم مفسدة. و الباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدث. وَ لَوْ رَدُّوهُ أي و لو ردوا ذلك الخبر. إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ إلى رأيه و رأي كبار أصحابه البصراء بالأمور، أو الأمراء. لَعَلِمَهُ لعلم ما أخبروا به على أي وجه يذكر. الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يستخرجون تدابيره بتجاربهم و أنظارهم. و قيل كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فتعود وبالا على المسلمين، و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم و تعرفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول و أولي الأمر أي: يستخرجون علمه من جهتهم، و أصل الاستنباط إخراج النبط: و هو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر. وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بإرسال الرسول و إنزال الكتاب. لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ و الكفر و الضلال. إِلَّا قَلِيلًا أي إلا قليلا منكم تفضل اللّه عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق و الصواب، و عصمه عن متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل، و ورقة بن نوفل. أو إلا اتباعا قليلا على الندور.
[سورة النساء (4): آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أن تثبطوا و تركوك وحدك. لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم و تقاعدهم، فتقدم إلى الجهاد و إن لم يساعدك أحد فإن اللّه ناصرك لا الجنود.
روي (أنه عليه الصلاة و السلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت. فخرج عليه الصلاة و السلام و ما معه إلا سبعون لم يلو على أحد).
و قرئ «لا تكلف» بالجزم، و «لا نكلف» بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك، لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك لقوله: وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني قريشا، و قد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا. وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش. وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا منهم، و هو تقريع و تهديد لمن لم يتبعه.
[سورة النساء (4): آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً راعى بها حق مسلم و دفع بها عنه ضرا أو جلب إليه نفعا ابتغاء لوجه اللّه تعالى، و منها الدعاء لمسلم
قال عليه الصلاة و السلام: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له و قال له الملك و لك مثل ذلك».
يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها و هو ثواب الشفاعة و التسبب إلى الخير الواقع بها. وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يريد بها محرما. يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها نصيب من وزرها مساو لها في القدر. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً مقتدرا من أقات على الشيء إذا قدر قال:
و ذي ضغن كففت الضغن عنه
و كنت على مساءته مقيتا
أو شهيدا حافظا، و اشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن و يحفظه.
[سورة النساء (4): آية 86]
وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها الجمهور على أنه في السلام، و يدل على وجوب الجواب إما بأحسن منه و هو أن يزيد عليه و رحمة اللّه، فإن قاله المسلم زاد و بركاته و هي النهاية و إما برد مثله
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 88
لما
روي (أن رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: السلام عليك. فقال: و عليك السلام و رحمة اللّه. و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه فقال: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته. و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته.
فقال: و عليك. فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال اللّه تعالى و تلا الآية. فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله.
و ذلك لاستجماعه أقسام المطالب السلامة عن المضار و حصول المنافع و ثباتها و منه قيل، أو للترديد بين أن يحيى المسلم ببعض التحية و بين أن يحيى بتمامها، و هذا الوجوب على الكفاية و حيث السلام مشروع فلا يرد في الخطبة، و قراءة القرآن، و في الحمام، و عند قضاء الحاجة و نحوها. و التحية في الأصل مصدر حياك اللّه على الإخبار من الحياة، ثم استعمل للحكم و الدعاء بذلك، ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام. و قيل المراد بالتحية العطية و واجب الثواب أو الرد على المتهب، و هو قول قديم للشافعي رضي اللّه تعالى عنه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً يحاسبكم على التحية و غيرها.
[سورة النساء (4): آية 87]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ و خبر، أو اللَّهُ مبتدأ و الخبر لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي اللّه، و اللّه ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة، أو مفضين إليه أو في يوم القيامة، و لا إله إلّا هو، اعتراض. و القيام و القيامة كالطلاب و الطلابة و هي قيام الناس من القبور أو للحساب. لا رَيْبَ فِيهِ في اليوم أو في الجمع فهو حال من اليوم، أو صفة للمصدر وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إنكار أن يكون أحد أكثر صدقا منه، فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجه لأنه نقص و هو على اللّه محال.
[سورة النساء (4): آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين. فِئَتَيْنِ أي فرقتين و لم تتفقوا على كفرهم، و ذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم. و قيل نزلت في المتخلفين يوم أحد، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة و الاشتياق إلى الوطن، أو قوم أظهروا الإسلام و قعدوا عن الهجرة. و فِئَتَيْنِ حال عاملها لكم كقولك: ما لك قائما. و فِي الْمُنافِقِينَ حال من فِئَتَيْنِ أي متفرقتين فيهم، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم، و معنى الافتراق مستفاد من فِئَتَيْنِ . وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ردهم إلى حكم الكفرة، أو نكسهم بأن صيرهم للنار. و أصل الركس رد الشيء مقلوبا. أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أن تجعلوه من المهتدين. وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الهدى.
[سورة النساء (4): آية 89]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا تمنوا أن تكفروا ككفرهم. فَتَكُونُونَ سَواءً فتكونون معهم سواء في الضلال، و هو عطف على تكفرون و لو نصب على جواب التمني لجاز. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا توالوهم حتى يؤمنوا و تتحققوا إيمانهم بهجرة هي للّه و رسوله لا لأغراض الدنيا، و سبيل اللّه ما أمر بسلوكه. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان الظاهر بالهجرة أو عن إظهار الإيمان. فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 89
وَجَدْتُمُوهُمْ كسائر الكفرة. وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً أي جانبوهم رأسا و لا تقبلوا منهم ولاية و لا نصرة.
[سورة النساء (4): آية 90]
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ استثناء من قوله فخذوهم و اقتلوهم أي: إلا الذين يتصلون و ينتهون إلى قوم عاهدوكم، و يفارقون محاربتكم. و القوم هم خزاعة. و قيل: هم الأسلميون فإنه عليه الصلاة و السلام و ادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه و لا يعين عليه، و من لجأ إليه فله من الجوار مثل ماله. و قيل بنو بكر بن زيد مناة. أَوْ جاؤُكُمْ عطف على الصلة، أي أو الذين جاءوكم كافين عن قتالكم و قتال قومهم، استثنى من المأمور بأخذهم و قتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين، أو أتى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و كف عن قتال الفريقين، أو على صفة قوم و كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم كافين عن القتال لكم و عليكم. و الأول أظهر لقوله فإن اعتزلوكم. و قرئ بغير العاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار قد و يدل عليه أنه قرئ «حصرة صدورهم» و حصرات صدورهم، أو بيان لجاءوكم و قيل صفة محذوف أي جاءوكم قوما حصرت صدورهم، و هم بنو مدلج جاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم غير مقاتلين و الحصر الضيق و الانقباض. أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي عن أن أو لأن أو كراهة أن يقاتلوكم. وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بأن قوى قلوبهم و بسط صدورهم و أزال الرعب عنهم. فَلَقاتَلُوكُمْ و لم يكفوا عنكم. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ فإن لم يتعرضوا لكم. وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ الاستسلام و الانقياد. فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم و قتلهم.
[سورة النساء (4): آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هم أسد و غطفان، و قيل بنو عبد الدار أتوا المدينة و أظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا. كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ دعوا إلى الكفر و إلى قتال المسلمين. أُرْكِسُوا فِيها عادوا إليها و قلبوا فيها أقبح قلب. فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ و ينبذوا إليكم العهد. وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم. فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض. وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل و السبي لظهور عداوتهم و وضوح كفرهم و غدرهم، أو تسلطا ظاهرا حيث أذنّا لكم في قتلهم.
[سورة النساء (4): آية 92]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 90
وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ و ما صح له و ليس من شأنه. أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً بغير حق. إِلَّا خَطَأً فإنه على عرضته، و نصبه على الحال أو المفعول له أي: لا يقتله في شيء من الأحوال إلا حال الخطأ، أو لا يقتله لعلة إلا للخطأ أو على أنه صفة مصدر محذوف أي إلّا قتلا خطأ. و قيل ما كانَ نفي في معنى النهي، و الاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، و الخطأ ما لا يضامه القصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه، أو يكون فعل غير المكلف. و قرئ «خطاء» بالمد و «خطا» كعصا بتخفيف الهمزة، و الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأم، لقي حارث بن زيد في طريق و كان قد أسلم و لم يشعر به عياش فقتله.
وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليه أو فواجبه تحرير رقبة، و التحرير الإعتاق، و الحر كالعتيق للكريم من الشيء و منه حر الوجه لأكرم موضع منه، سمي به لأن الكرم في الأحرار و اللؤم في العبيد، و الرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس. مُؤْمِنَةٍ محكوم بإسلامها و إن كانت صغيرة. وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث،
لقول ضحاك بن سفيان الكلابي: (كتب إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها).
و هي على العاقلة فإن لم تكن فعلى بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله. إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا إلا أن يتصدقوا عليه بالدية. سمي العفو عنها صدقة حثا عليه و تنبيها على فضله، و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «كل معروف صدقة»
و هو متعلق بعليه، أو بمسلمة أي تجب الدية عليه أو يسلمها إلى أهله إلا حال تصدقهم عليه. أو زمانه فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف. فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فإن كان المؤمن المقتول من قوم كفار محاربين، أو في تضاعيفهم و لم يعلم إيمانه فعلى قاتله الكفارة دون الدية لأهله إذ لا وراثة بينه و بينهم و لأنهم محاربون. وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي و إن كان من قوم كفرة معاهدين، أو أهل الذمة فحكمه حكم المسلمين في وجوب الكفارة و الدية و لعله فيما إذا كان المقتول معاهدا، أو كان له وارث مسلم. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة بأن لم يملكها و لا ما يتوصل به إليها.
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فعليه أو فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين. تَوْبَةً نصب على المفعول له أي شرع ذلك توبة، من تاب اللّه عليه إذا قبل توبته. أو على المصدر أي و تاب اللّه عليكم توبة أو الحال بحذف مضاف إي فعليه صيام شهرين ذا توبة. مِنَ اللَّهِ صفتها. وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً* بحاله. حَكِيماً فيما أمر في شأنه.
[سورة النساء (4): آية 93]
وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً لما فيه من التهديد العظيم. قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. «لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا». و لعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه. و الجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ و نحوه و هو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة و غيره، و يؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار و لم يظهر قاتله، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله و رجع إلى مكة مرتدا، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم.
[سورة النساء (4): آية 94]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 91
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سافرتم و ذهبتم للغزو. فَتَبَيَّنُوا فاطلبوا بيان الأمر و ثباته و لا تعجلوا فيه. و قرأ حمزة و الكسائي فتثبتوا في الموضعين هنا، و في «الحجرات» من التثبت. وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لمن حياكم بتحية الإسلام. و قرأ نافع و ابن عامر و حمزة السلم بغير الألف أي الاستسلام و الانقياد و فسر به السلام أيضا. لَسْتَ مُؤْمِناً و إنما فعلت ذلك متعوذا. و قرئ «مؤمنا» بالفتح أي مبذولا له الأمان. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاذ، و هو حال من الضمير في تقولوا مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة و ترك التثبت. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ لكم كَثِيرَةٌ تغنيكم عن قتل أمثاله لماله. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي أول ما دخلتم في الإسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة فحصنت بها دماؤكم و أموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاشتهار بالإيمان و الاستقامة في الدين. فَتَبَيَّنُوا و افعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل اللّه بكم، و لا تبادروا إلى قتلهم ظنا بأنهم دخلوا فيه اتقاء و خوفا، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند اللّه من قتل امرئ مسلم. و تكريره تأكيد لتعظيم الأمر و ترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً عالما به و بالغرض منه فلا تتهافتوا في القتل و احتاطوا فيه.
روي (أن سرية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم غزت أهل فدك فهربوا و بقي مرداس ثقة بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل و صعد، فلما تلاحقوا به و كبروا كبر و نزل و قال:
لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه السلام عليكم فقتله أسامة و استاق غنمه)
و قيل نزلت في المقداد مر برجل في غنيمة فأراد قتله فقال: لا إله إلا اللّه. فقتله و قال: ود لو فر بأهله و ماله. و فيه دليل على صحة إيمان المكره و أن المجتهد قد يخطئ و أن خطأه مغتفر.
[سورة النساء (4): آية 95]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الحرب. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه. غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالرفع صفة للقاعدون لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه. و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء. و قرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه. و
عن زيد بن ثابت أنها نزلت و لم يكن فيها غير أولي الضرر فقال ابن أم مكتوم: و كيف و أنا أعمى فغشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في مجلسه الوحي، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال اكتب
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أي لا مساواة بينهم و بين من قعد عن الجهاد من غير علة. و فائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعا لرتبته و أنفه عن انحطاط منزلته. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه و القاعدون على التقييد السابق، و درجة نصب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدر لأنه تضمن معنى التفضيل و وقع موقع المرة منه، أو الحال بمعنى ذوي درجة. وَ كُلًّا من القاعدين و المجاهدين. وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى المثوبة الحسنى و هي الجنة لحسن عقيدتهم و خلوص نيتهم، و إنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب. وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر، أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قيل: و أعطاهم زيادة على
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 92
القاعدين أجرا عظيما.
[سورة النساء (4): آية 96]
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً كل واحد منها بدل من أجرا، و يجوز أن ينتصب درجات على المصدر كقولك: ضربته أسواطا، و أجرا على الحال عنها تقدمت عليها لأنها نكرة، و مغفرة و رحمة على المصدر بإضمار فعليهما كرر تفضيل المجاهدين، و بالغ فيه إجمالا و تفصيلا تعظيما للجهاد و ترغيبا فيه. و قيل: الأول ما خولهم في الدنيا من الغنيمة و الظفر و جميل الذكر، و الثاني ما جعل لهم في الآخرة. و قيل المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند اللّه سبحانه و تعالى، و بالدرجات منازلهم في الجنة. و قيل القاعدون الأول هم الأضراء و القاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم. و قيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار و الآخرون من جاهد نفسه و عليه
قوله عليه الصلاة و السلام «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».
وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما عسى أن يفرط منهم. رَحِيماً بما وعد لهم.
[سورة النساء (4): آية 97]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يحتمل الماضي و المضارع، و قرئ «توفتهم» و «توفاهم» على مضارع وفيت بمعنى أن اللّه يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة و موافقة الكفرة فإنها نزلت في أناس من مكة أسلموا و لم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة. قالُوا أي الملائكة توبيخا لهم. فِيمَ كُنْتُمْ في أي شيء كنتم من أمر دينكم.
قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم و عجزهم عن الهجرة، أو عن إظهار الدين و إعلاء كلمة اللّه. قالُوا أي الملائكة تكذيبا لهم أو تبكيتا. أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة و الحبشة. فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لتركهم الواجب و مساعدتهم الكفار. و هو خبر إن و الفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط، و قالوا فيم كنتم حال من الملائكة بإضمار قد أو الخبر قالوا و العائد محذوف أي قالوا لهم، و هو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها.
وَ ساءَتْ مَصِيراً مصيرهم أو جهنم، و في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «من فر بدينه من أرض إلى أرض و إن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، و كان رفيق أبيه إبراهيم و نبيه محمد عليهما الصلاة و السلام».
[سورة النساء (4): الآيات 98 الى 99]
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول و ضميره و الإشارة إليه، و ذكر الولد إن أريد به المماليك فظاهر، و إن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر و الإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا و قدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها و أن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت. لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه، أو حال منه أو من المستكن فيه. و استطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة و ما تتوقف عليه، و اهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل.
فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ذكر بكلمة الإطماع و لفظ العفو إيذانا بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 93
إن المضطر من حقه أن لا يأمن و يترصد الفرصة و يعلق بها قلبه. وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً .
[سورة النساء (4): آية 100]
وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً متحولا من الرغام و هو التراب. و قيل طريق يراغم قومه بسلوكه أي يفارقهم على رغم أنوفهم و هو أيضا من الرغام. وَ سَعَةً في الرزق و إظهار الدين.
وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ و قرئ «يدركه» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثم هو يدركه و بالنصب على إضمار أن كقوله:
سأترك منزلي ببني تميم
و ألحق بالحجاز فأستريحا
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً الوقوع و الوجوب متقاربان و المعنى: ثبت أجره عند اللّه تعالى ثبوت الأمر الواجب. و الآية الكريمة نزلت في جندب بن ضمرة حمله بنوه على سرير متوجها إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله فقال: اللهم هذه لك و هذه لرسولك أبايعك على ما بايع عليه رسولك صلّى اللّه عليه و سلّم فمات.
[سورة النساء (4): آية 101]
وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ سافرتم. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ بتنصيف ركعاتها و نفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه، و يؤيده
أن عليه الصلاة و السلام أتم في السفر. و أن عائشة رضي اللّه تعالى عنها اعتمرت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قالت: يا رسول اللّه قصرت و أتممت، و صمت و أفطرت. فقال:
«أحسنت يا عائشة».
و أوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي اللّه تعالى عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلّى اللّه عليه و سلّم، و لقول عائشة رضي اللّه تعالى عنها: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر و زيدت في الحضر. فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتام في الصحة و الإجزاء، و الثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية. بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر و نقصان، فسمي الإتيان بهما قصرا على ظنهم. و نفي الجناح فيه لتطبيب به نفوسهم، و أقل سفر تقصر فيه أربعة برد عندنا و ستة عند أبي حنيفة. قرئ «تقصروا» من أقصر بمعنى قصر و من الصلاة صفة محذوف أي: شيئا من الصلاة عند سيبويه، و مفعول تقصروا بزيادة من عند الأخفش. إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت، و لذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ و قد تظاهرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن. و قرئ «من الصلاة أن يفتنكم» بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم: و هو القتال و التعرض بما يكره.
[سورة النساء (4): آية 102]